لم يسبق أن عاش جيل بشري واحد هذا القدر من الهزات والتحولات العميقة بهذا المجال الزمني المحدود، تحولات مهمة لا تهدأ، تعصف بالعالم وتحرم الإنسان من راحة اليقين المستقر. من تفككك الاتحاد السوفييتي، إلى ثورة المعلوماتية والاتصال والعولمة، إلى بروز تنظيمات جهادية تستولي على دول وتتمكن من تنفيذ عمليات تهز العالم، إلى ثورات الربيع العربي، إلى جائحة كوفيد 19 التي شلّت العالم، أحداث كبيرة متلاحقة تصب في نتيجة واحدة هي زعزعة اليقين وبعثرة الاطمئنان.
نهاية النموذج الاشتراكي
في 19 أغسطس/آب 1991 قامثمانية من كبار قادة الاتحاد السوفييتي بمن فيهم وزير الدفاع ورئيس جهاز الكي جي بي ووزير الداخلية ونائب الرئيس السوفييتي، بحجز الرئيس ميخائل غورباتشيف في منتجعه في القرم، وإعلان الانقلاب على سياساته لحماية الدولة السوفييتية من التفكك. كان هذا قبل يوم واحد من موعد التوقيع على معاهدة تشكيل اتحاد الدول المستقلة أو ما عرف برابطة الدول المستقلة. غير أن الانقلاب اليائس فشل.خلال أيام قليلة استسلم الإنقلابيون السوفييت، وانتحر وزير الداخلية كي لا يتعرض للاعتقال، فيما جري اعتقال بقية أعضاء اللجنة وتقديمهم إلى محاكمات. وقبل أن يطفئ العام 1991 آخر شموعه، صدر إعلان الاعتراف باستقلال 15 جمهورية سوفييتية سابقة، وحظر الحزب الشيوعي السوفييتي، وبرزت روسيا بوصفها وريثة شرعية للاتحاد السوفييتي الذي ستليه صفة “السابق” منذئذ.
لم يكن العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميريكية ذات الإمكانات البحثية الكبيرة والتي كانت تركز النظر على الاتحاد السوفييتي بوصفه عدوها الأول، يتوقع انهيار الاتحاد السوفييتي بهذا الشكل وهذه السرعة. في المقابل، كان قسم مهم من “يساريي” العالم ينظر إلى غورباتشيف بوصفه الزعيم الشيوعي الذي سوف يبث الروح في الآلة السوفييتية الخاملة من خلال تخفيف القبضة البوليسية للدولة الاتحادية وإعادة البناء التي كانت تتطلب، بحسب غورباتشيف نفسه، أن يحول الغرب ما يقارب 150 مليار دولار إلى الاتحاد السوفييتي، وقد جرى هذا التحويل لاحقاً ولكن بالاتجاه المعاكس. فجأة وجد الشيوعيون حول العالم أنفسهم في فراغ وهم يرون الانهيار المتسارع للنموذج. على كل حال، لم يكن الوعي البشري، على ضفتي العالم، مواكباً لحقيقة ما يجري تحت السطح. منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا، تمتد فترة تتسم بأن الوعي البشري متخلف بدرجة ملحوظة عن حركة الواقع.
أُجبر العالم، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، على العيش بأوهام أقل، صار النموذج الغربي هو القدر الوحيد بعد أن تلاشى النموذج الشرقي وباتت شعوبه ونخبه نفسها تهفو إلى استنساخ النموذج الغربي “النقيض”. وبعد أن لازمت الأدبيات السياسية طوال قرن من الزمان، خرجت مفردة “الاشتراكية” فجأة من التداول، وسيطرت “الديموقراطية” على سوق الأفكار السياسية. ورغم الفارق بين هذين التوجهين السياسيين، الذي كان ذات يوم فارقاً بين معسكرين، فإن المحاكمة المنطقية التي تستميل عقل الجمهور وتثير حماسه، بقيت متشابهة بينهما في الاختزال والتبسيط. وهكذا، بدلاً من الكلام عن عدالة اقتصادية (اشتراكية)، صار الكلام يدور عن عدالة سياسية (ديموقراطية)، الأولى لا تكترث بالثانية كما أن هذه لا تكترث بتلك. وكما قبل هذا التحول، كذلك بعده، ظل الوعي السياسي في العالم عاجزاً عن الوصول إلى “منظومة” تجمع بين العدالتين، وبقي العالم بلا نموذج “عادل” يهتدي به، دع جانباً القدرة على الوصول الفعلي إلى النموذج المراد.
المعلوماتية وبروز تنظيم القاعدة
التأخر في الوعي السياسي العالمي جاوره تطور مدهش في الوعي العلمي ولاسيما في المذهب المستحدث الذي سمي المعلوماتية. في غضون سنوات قليلة انتشرت الحواسيب والهواتف النقالة والانترنت والفضائيات، وكان من شأن هذا الانجاز العلمي أن سهل التواصل بشكل غير مسبوق، كما جعل العالم في المتناول أكثر ومرئياً لأبنائه أكثر. ما عنى زيادة الوعي بالتباينات والمظالم، أكانت مظالم عالمية (بين البلدان والأمم) أو اجتماعية (داخل البلدان). يمكننا أن نعزو إلى هذا التطور بروز تنظيم القاعدة العالمي، الظاهرة التي تقوم على فكرة رد المظالم العالمية بعد وضعها في قالب إسلامي “مانوي”، أي مبسّط ويحتوي لذلك قدرة عالية على شحن الأنصار. تقول ظاهرة القاعدة إن الظلم في مكان ما من العالم (مظلومية العالم الإسلامي هنا) سوف ينعكس وبالاً على الظالمين وانعدام أمان في العالم كله، مثلما عبر اسامة بن لادن بالقول إن أميريكا “لن تهنأ بالأمن قبل أن نعيشه واقعاً في فلسطين”. طبيعي أن الظلم الفاقع والصريح مع غياب الآليات السياسية الكفيلة برد الظلم، يخلق تربة لا ينبت فيها سوى العنف و”الإرهاب”.
التطور في مجال الاتصالات ساهم في قدرة التنظيم الجهادي على قيادة عمل “جهادي” عالمي، لم يكن ممكناً على هذا المستوى من قبل، أكان من حيث التجنيد أو التخطيط أو التنفيذ أو الإعلام. على أن هذه القدرة البارزة على التنظيم والعمل العالمي التي عرضتها “القاعدة”، لم تشتمل على نموذج سياسي عاقل وملائم تسعى إليه. هكذا استثمر التنظيم علم المعلوماتية الحديث في خدمة رؤية سياسية قديمة ومتخلفة وغير قابلة للحياة، الشيء الذي سوف يكرره تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) فيما بعد وفي سياق مختلف يغلب عليه الانغماس في صراعات محلية.
تعثر الثورات العربية، عطالة في الواقع أم تخلف في الوعي؟
على مستوى البلدان العربية، ساهم التطور المعلوماتي في إبراز البؤس السياسي والاقتصادي الذي نعيشه، ما شحن الجيل الشاب بمشاعر الرفض وإرادة التغيير، ومهد لبروز ظاهرة الثورات العربية المتتالية. هذا التقدم العلمي الكبير، إلى جانب التأخر في “العلم السياسي”، جعل السمة الأبرز في ثورات الربيع العربي هي إرادة الرفض، ما جعل طاقة هذه الثورات تتسرب في مسارات عدمية، وتفضي إلى كوارث. الحقيقة التي تدفع الباحث إلى السؤال: هل يكمن سبب تعثر الثورات العربية وتحولها إلى كوارث، في تأخر الوعي السياسي أم في استحالة التغيير؟ هل المشكلة في أن الثورة تاهت عن سبيل التغيير أم في أن لا سبيل واقعياً إلى التغيير؟ أو بطريقة أخرى، إذا كانت ثورات الربيع العربي تتطلع إلى الديموقراطية، فهل الديموقراطية ممكنة في مجتمعاتنا، أكثر مما كانت الاشتراكية ممكنة فيها؟ أم أن مجتمعاتنا تخالف القول الماركسي الشهير بأن الإنسانية لا تطرح على نفسها إلا المهام القادرة على حلها؟ هل تطرح مجتمعاتنا على نفسها مهام (اشتراكية أو ديموقراطية) ليس في مقدورها إنجازها فتتخبط في صراعات لا تنتهي إلا تحت وطأة استبداد جديد قديم؟
يمكننا أن نقول إن التطور العلمي المعلوماتي وليس تطور الوعي السياسي، هو أبو الثورات العربية. في تطور المعلوماتية تمكن الشباب العرب من رؤية بؤس الواقع العربي، والبؤس يحرض على الرفض دون أن ينطوي الواقع البائس بالضرورة على عناصر تسمح بتجاوزه. نجح الشباب العرب في استخدام التطور المعلوماتي للتواصل والتعبئة وتنظيم المظاهرات ونقل وقائعها عبر وسائل التواصل الحديثة، ولكنهم في السياسة كانوا بلا أدوات وبلا لغة، وليس أدل على ضبابية الوعي السياسي في هذه الثورات من ضبابية تسميتها “ثورات الحرية والكرامة”، التسمية التي لا تنطوي على معنى سياسي محدد.
كان يمكن لهذه الثورات، افتراضاً، أن تتبنى النموذج السوفييتي وأن تكون “ثورات إشتراكية”، غير أن النموذج كان قد أعلن إفلاسه قبل عقدين من الزمن، وتحول حماس كثر من أنصاره عنه إلى النموذج الأميريكي “المضاد”. اندلعت الثورات العربية محرومة من النموذج، ومن الوعي السياسي المحدد والمواكب. اتجه طموح بعض نخب هذه الثورات إلى النموذج الديموقراطي الغربي (ديموقراطية سياسية)، في حين كان ينظر دائماً إلى الدول الغربية على أنها من أهم مصادر دعم الأنظمة السياسية التي أرادت الثورات العربية إسقاطها. يمكننا هنا وضع اليد على مفارقة هي أن الثورات العربية تطلعت إلى نصرة الدول الغربية الديموقراطية للخلاص من سيطرة الطغم الحاكمة في بلدانها، أي تطلعت إلى نصرة الدول نفسها التي كانت الهدف المعلن لتنظيم القاعدة الجهادي العالمي. بدا كما لو أن رد المظالم المحلية (مفاعيل الاستبداد السياسي داخل البلد) يقتضي قبول المظالم العالمية أو التغاضي عنها. وقد عبر هذا الميل عن نفسه بصورة واضحة في الثورة السورية مع بروز اتجاه لدى بعض “أهل الثورة” يسعى لكسب إسرائيل لصالح الثورة مقابل التساهل في حقوق وطنية سورية.
تبين إذن أن توجه الثورات العربية مضاد أو معاكس لتوجه تنظيمات الجهاد العالمي، رغم أن هذه التنظيمات دخلت أيضاً على خط الثورات. على هذا كانت الثورات العربية محل اختبار للتنظيمات الجهادية التي حققت لها حضوراً طاغياً فيها. الاختبار هو كيف تحل التعارض بين مواجهة ظلم الدول القوية “الكافرة” بحق المسلمين من جهة، وبين الحاجة إلى دعم هذه الدول لمواجهة ظلم المستبد المحلي، من جهة أخرى؟ الحل الذي اجترحته التنظيمات الجهادية كان بالجمع بين المواجهتين. الواقع أنه لا يمكن لهذه التنظيمات الخروج بحل آخر. لأنها تقوم أساساً على تكفير ما سواها، كما أن الدول “الكافرة” لا تستطيع قبول هذه التنظيمات.
على هذا فإن الخيار “الخاص” الذي جاءت به التنظيمات الجهادية، يقفز فوق كل تعقيدات الواقع، فيرفض الديموقراطية والعلمانية ويكفرهما، ويدعو، ببساطة، إلى حكم إسلامي، الثابت فيه هو وجود حاكم مطلق تحيط به اكسسوارات إسلامية متحفية في اللغة واللباس والمظهر. الثورات العربية التائهة أتاحت لهذه التنظيمات فرصة نادرة لإنشاء “دولها الإسلامية” على شكل خلافات أو إمارات معزولة تعلن الحرب على الجميع. لم يكن غريباً عن سياق الصراع وتعقيداته وتوهانه أن يتسيد هذا الخيار وأن يجد قبولاً وأن تصبح له اليد العليا بعد فترة وجيزة من انطلاق الثورات العربية. وكان أن شهد الجيل الحالي نشوء خلافة إسلامية في الزمن الحديث. في هذه المفارقة لجوء إلى يقين في زمن اضطراب اليقين.
جائحة كوفيد 19 وأزمة الديموقراطية
أظهرت الجائحة، كما لم يظهر بهذه الحدة من قبل، فشل النظام الديموقراطي الغربي (الديموقراطية السياسية ضمن حدود البلد أو لنسميها الديموقراطية القومية) بوصفه فشلاً اقتصادياً، ذلك أن الآلة الاقتصادية التي يحركها الربح يمكن أن تترك المجتمع مكشوفاً من الناحية الصحية، سواء من حيث التجهيزات أو من حيث تمويل البحوث وتوفير الأمان الصحي، ما جعل المجتمعات “المتقدمة” فريسة سهلة لجائحة كالتي نشهدها اليوم. من المعروف مثلاً أن عدد الأسرة في المستشفيات الفرنسية قد تراجع خلال العقدين الماضيين بمقدار مئة ألف سرير، مع ضعف في التجهيزات وفي أعداد الكادر الطبي. الشيء نفسه ينطبق على أميريكا التي اضطرت إلى فتح باب الدخول لكل من يرغب من الكوادر الصحية في العالم. ولا شك أن هشاشة نيويورك وضعف استيعاب المستشفيات فيها واكتشاف الجثث المتفسخة المكدسة في شاحنات في شوارعها قد صدمت العالم. حين يتعلق الأمر بالتسليح وبالمعدات العسكرية وبالبحوث العلمية الخاصة بسبل القتل والتدمير، لن تجد نقصاً في هذه البلدان، ليس فقط بسبب السياسات القومية التي لا ترى العالم إلا من منظور مصالح البلد المحدد، بل أيضاً والأهم، لأن الصناعة العسكرية مربحة ومضمونة من الدولة.
ما بدأه انقلاب “لجنة الدولة لحالة الطوارئ” في الاتحاد السوفييتي، جاءت جائحة كوفيد 19 لتكمله باتجاه تحطيم النموذج وتبديد أوهام العالم المستقرة، ووضع العالم المأزوم مجدداً أمام السؤال الأولي: ماذا نعمل، وإلى أين نتجه؟
إذا كان الانقلاب المذكور بمثابة شهقة الموت الأخيرة للاتحاد السوفييتي المريض، فإن جائحة الفيروس التاجي لن تتأخر أيضاً في إظهار حدود النظام الديموقراطي الغربي بوصفه نظاماً يضع المصلحة القومية (التي تقيسها صناديق الانتخاب) فوق مصالح البشرية. في الزمن الذي يتقارب فيه تاريخ البشرية أكثر ليغدو تاريخاً واحداً، يصبح المنظور القومي للسياسات بلا أفق ويعود بنتائج كارثية على المستوى القومي نفسه. كانت السياسات “القومية” الغربية تجاه أزمة كوفيد 19 مثالاً واضحاً على ذلك. السياسات القومية الضيقة باتت تهدد العمل التوحيدي التي أنجزته القارة الأوروبية في العقود الماضية. ومن المهم ملاحظة أن هذه السياسات تبنتها قيادات ذات ميول أوروبية كما تبنتها قيادات ذات ميول قومية انعزالية. ما يعني أن المشكلة لا تكمن في التوجه السياسي للجهة الحاكمة إنما في آلية إنتاج الحكم أو آلية حيازة الشرعية السياسية في البلد الديموقراطي وانعكاسها على العالم لدى مواجهة خطر عالمي. يمكننا اعتبار شعار حملة الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب (أميريكا أولاً) هو التعبير العميق عن ما تضمره الديموقراطيات القومية. هذا المضمر لا يتماشى مع وحدة العالم وما تنتجه هذه الوحدة من مخاطر وما تتطلبه من مواجهة، ويحمل، لذلك، بذرة حروب وكوارث عالمية. يتحول المنظور القومي، في زمن يواجه العالم فيه مخاطر مشتركة بأبعاد عالمية، إلى مصدر إعاقة وخطر.
العبرة هي أن الديموقراطية القومية تتطلب من الأحزاب أو التيارات السياسية المتنافسة، بصرف النظر عن توجهاتها، السعي لكسب أصوات الناخبين، أي إرضاء الداخل، ما يعني أن “الديموقراطية القومية” يمكن أن تشكل عقبة في وجه وحدة الجهود الدولية لمواجهة المخاطر التي تهدد البشرية ومنها خطر التحولات المناخية وانعكاساتها على البيئة. كما يمكن أن تشكل اساساً لسياسات مدمرة، كان نموذجها انغلاق الدول الأوروبية إزاء بعضها البعض وانعدام التضامن فيما بينها بغاية حفظ الطاقات المتوفرة (الماسكات، المعقمات، الكفوف الطبية، أجهزة التنفس ..) لصالح “الأمة”. البلدان التي أزالت الحدود والجمارك فيما بينها ووصلت إلى مستوى متقدم من التقارب والتنسيق السياسي، نجدها، في وجه الجائحة، تزرع دوريات على الحدود لمنع تهريب المواد الطبية من البلد لصالح البلد المجاور. في إشارة لافتة يعرضها التاريخ اليوم، إشارة تقول إن الديموقراطية الحالية، كما كانت الاشتراكية من قبل، يمكن أن تكون مدمرة إذا اقترنت بالقومية.
أظهرت الجائحة فشل النظام الغربي بوصفه فشلاً سياسياً أيضاً، ذلك أن “الحكومات الديموقراطية” اجتهدت في انتهاج سياسات قومية ضيقة يوجهها السعي إلى إرضاء “الناخبين”، معرضةً عن مبدأ التضامن الذي تفرضه وحدة المصير. ويشهد الغرب بروز تيارات سياسية شعبوية تعكس هذا الانحطاط في الفكرة الديموقراطية حين تنحاز إلى رغبات الجمهور (القومي) ومشاعره المباشرة ضد سلامة التصورات السياسية وبعد النظر السياسي على مستوى عالمي.
ليست مشكلة النضالات الشعبية في العالم هي غياب النموذج فقط، المشكلة الفعلية أن التغيير في عالمنا الراهن بات له بعد عالمي لا يمكن تجاوزه. يصل العالم اليوم إلى تلمس حدود فكرة الديموقراطية نفسها في حدود قومية، بعد أن تبين للعالم ديكتاتورية ولا عقلانية هذه الديموقراطيات خارج حدودها القومية.
انفصال الاحتجاجات الشعبية في المركز وفي الأطراف
تتحرك الاحتجاجات الشعبية في المركز (الدول الديموقراطية الأساسية) لتوسيع أو تعميق الديموقراطية ضمن حدود “الأمة”، فتسير باتجاه المطالبة بالمزيد من الديموقراطية (الديموقراطية المباشرة)، أي إعطاء المواطنين الحق في اقتراح سياسات والتصويت المباشر عليها، كنوع من المشاركة بشكل ما في وظيفة البرلمان، أو كترجمة مباشرة لفكرة حكم الشعب. في المركز يدرك الناس مشاكلهم على أنها من منشأ محلي، لذلك يغيب البعد العالمي عن احتجاجاتهم السياسية أو المعيشية. لا يستشعر المواطنون في هذه الدول الآثار السيئة التي يعيشها القسم الآخر من العالم غير الديموقراطي، الآثار الاقتصادية (الفقر) والسياسية (الاستبداد) والوطنية (ضياع الحقوق القومية)، نتيجة للنظام العالمي في شكله الحالي. لكن إلى جانب “محلية” المطالب السياسية في المركز، يلاحظ أن شعوب المركز هي الأكثر تحسساً للمشاكل العالمية التي ليس لها معنى سياسي مباشر، مثل قضايا البيئة والتغيرات المناخية.
أما الشعوب في القسم الآخر من العالم، العالم غير المسيطر أو (الأطراف) فإنها تستشعر ثقل نتائج التوضع السياسي والاقتصادي للعالم على شكله الحالي، لذلك تستهدف في تحركاتها التغيير السياسي في العالم، تغيير العلاقات بين الأمم، أو إعادة تعريف الشرعية الدولية، أي إن البعد العالمي حاضر مباشرة في نضالاتها السياسية. يندر أن يخلو الخطاب السياسي في هذا القسم من العالم من مفردات “خارجية” مثل الاستعمار والنهب العالمي، وكثيراً ما تحرق الأعلام الأميريكية ويرفع شعار الموت لأميريكا في المظاهرات، بوصفها سيدة الشكل الحالي من العالم. بالمقابل، لا تتحسس جماهير هذا القسم القضايا العالمية غير السياسية، مثل قضايا البيئة والمناخ فهذه القضايا تبدو باهتة وترفية أمام مشاكل الفقر والأمن والضمان الاجتماعي ..الخ.
ما سبق يبين وجود هوة بين النضالات والهموم بين شطري العالم، فيبدو أن مقاطعة منتوجات شركة ما بسبب استخدامها عمالة الأطفال، نوعاً من قطع الأرزاق عن عائلات لا تجد لها مورداً آخر. إنقاذ الأطفال من العمل ومن حمل السلاح يحتاج إلى نضال مشترك على مستوى عالمي.
خاتمة
مع المستوى الذي بلغه توحد العالم، تكشفت محدودية نماذج الحكم القومية، بما في ذلك النموذج الديموقراطي الذي يملأ الخطاب السياسي اليوم بنفس اللاجدوى التي كانت للنموذج الاشتراكي على مدى قرن من الزمان. تقدم علوم التواصل والاتصالات خلق شروط جديدة تساعد على التحريض والفعل، غير أن التعارض الحاد والمستعصي بين الإطار القومي (الوطني) للثورات والنضالات وبين البعد العالمي للمظالم هو المسؤول عن بروز تنظيمات “إرهابية” فوق قومية، وهو المسؤول عن تحطم الثورات العربية واتخاذها مسارات كارثية، في بلدان، أو فشلها في التغيير الحقيقي وظهور مطالب التغيير كما لو أنها مطالب مستحيلة، أو كأن الثورات تسير بالمجتمع إلى الخلف.
ثمة أصل مشترك لنشوء إرهاب الجماعات المسلحة أو الإرهاب العالمي غير الدولتي، و”إرهاب” كورونا، هو الاختلال الكبير في ميزان العالم. عدم الاكتراث بمصالح وحاجات وحقوق الأمم في حالة الإرهاب غير الدولتي (الذي يبرز منه اليوم الشكل الجهادي الإسلامي)، وعدم الاكتراث بالجوانب الحيوية في حياة الكوكب وأهل الكوكب في حالة إرهاب الفيروس التاجي. في كل الأحوال، يبدو لزاماً على العالم أن ينظر إلى المشاكل العالمية بعين عالمية، وعلى هذا الأساس ينبغي أن تقوم وتتوحد النضالات في العالم.