راتب شعبو/ كاتب

ماذا عن المظاهرات الأخيرة في السويداء؟

نُشرت بتاريخ 17/06/2020 على موقع نواة
على خلفية تفاقم التدهور الاقتصادي والمعيشي في سورية، بدأت في محافظة السويداء، منذ السادس من شهر حزيران/يونيو الجاري، مظاهرات ترفع شعارات سياسية قصوى “إسقاط النظام”، وتستعيد نبرة المظاهرات التي انطلقت من درعا لتشمل كل سورية في العام 2011. تميزت المظاهرات بالتنظيم الجيد، غير أنها بقيت محدودة ضمن المحافظة من حيث اتساع المشاركة الشعبية، بقيت تقاس بالعشرات أو بالمئات القليلة، كما أن
شرارتها لم تنتقل، بشكل مؤثر، إلى مناطق أخرى خاضعة لسيطرة نظام الأسد، رغم تردد أخبار عن مظاهرات لم تستمر في دمشق وحلب. أما المظاهرات في إدلب ودير الزور فلا يمكن اعتبارها هنا، لأنها باتت تخضع لشروط سياسية وأمنية مختلفة.
اكتفى نظام الأسد المهترئ على كل المستويات، والذي أصبح بوابة مشرعة لانتهاك الكرامة الوطنية السورية وتجويع السوريين وتوازع البلاد إلى مناطق نفوذ بين دول العالم، نقول اكتفى بمراقبة الظاهرة في البداية دون تدخل فظ، وأمر، بعد ذلك، بتنظيم مسيرة تهتف للنظام، قوامها جمهور من الطلاب والموظفين، خرجوا تحت تهديد علني بتبعات عدم المشاركة، فضلاً عن جيش الشبيحة والمرتزقة المحليين. الغاية هي خلق شارع ضد شارع، فتبدو أجهزة القمع كأنها حكم بين شارعين. ثم أقدم النظام، بعد يومين، في أول فعل أمني مباشر ضد الحراك الجديد في السويداء، على اعتقال أحد الناشطين المهمين في الظاهرة. والبارحة (15 حزيران/يونيو)، بادر إلى الخطوة الأخطر وهي تنفيذ سياسة ضرب الشارعين ببعضهم البعض، بأن أخرج مسيرة مجاورة لمكان التظاهر، ودفع شبيحته وزعرانه لاقتحام المظاهرة بالعصي، وسحب من تمكنوا من سحبه من المتظاهرين (حوالي عشرة) إلى سيارات الأمن التي كانت بالانتظار.
يعود حذر النظام تجاه مظاهرات السويداء، إلى خصوصية المحافظة أولاً من حيث تميزها بمستوى جيد من التضامن الأهلي الذي لا يسمح بانتهاكات جسيمة (كالتي حدثت مثلاً في الجامع العمري في درعا في مستهل الثورة السورية) دون أن تتوحد غالبية المحافظة ضده. وثانياً، لأنه لا يمكن تصدير الحراك في السويداء للعالم أو للسوريين على أنه “إرهاب إسلامي”، هذه الخانة الجاهزة والمخصصة لابتلاع كل حراك سني. على هذا تقوم خطة النظام فيما يخص هذه المحافظة على ضرب أهلها ببعضهم البعض، كما فعل البارحة، وعلى تعزيز خط الانقسام الطائفي لها من خلال تدبير عمليات خطف في المحافظة لأشخاص من خارجها، وشحن الحساسية المزمنة بين سهل وجبل حوران.
كان شباب المحافظة، قبل حوالي خمسة أشهر، وأيضاً بدافع تراجع كبير في مستوى المعيشة، قد خرجوا في نشاط مطلبي لافت تحت عنوان “بدنا نعيش”، وقد شرح أحد الفاعلين حينها نشاطهم بالقول إنه “حملة غير دينية وغير سياسية ولا تقبل تحييدها عن مطلبها الأساسي بالعيش الكريم، وتحسين الوضع المعيشي والأمني وتشمل جميع الموجوعين من السوريين من دون النظر لدين أو انتماء، سلمية ترفض العنف، مع الحفاظ على كافة ممتلكات الدولة، بعيداً عن التحزبات السياسية والقومية والطائفية”.
ما هو تفسير النقلة الواسعة اليوم إلى مطالب سياسية قصوى، في حين يصل التراجع المعيشي حدوداً غير مسبوقة ويبرز المطلب الاقتصادي على السطح؟ أجاب عن السؤال بيان شباب السويداء في 12 حزيران بالقول: “عندما خرجنا بمطالب معيشية منذ أشهر تم تخويننا، وكثرت الاستدعاءات الأمنية، ولم تكن شعاراتنا مثل اليوم، هم لايريدون حجة ليقفوا في وجه الحق”. هذا كلام صحيح، لكنه ينظر إلى الأمر من زاوية واحدة هي رد فعل النظام، دون النظر إلى رد فعل الفئات الشعبية التي، وإن كانت تتوزع على ولاءات وتيارات سياسية مختلفة، فإنها تتوحد على حاجاتها المعيشية التي تسحب منها يوماً بعد يوم إلى حدود المجاعة، على يد سلطة الأسد المأزومة والتي لا تزال تهرب من مصيرها الطبيعي بأن تبيع المزيد من البلاد وبأن تفرغ أزمتها المتفاقمة أكثر فأكثر في المجتمع.
مفهوم أن يكون لشعارات الثورة الأولى صدى جذاباً لدى رافضي سلطة الأسد، رغم تبدل الشروط، وأن ينتعش الكلام عن تجدد الثورة واستمراريتها ..الخ. لكن يوجد ما يبرر الاعتقاد بأن الحفاظ على مطلبية الشعارات يمكنه أن يلامس عصباً شعبياً مشتركاً نحن في حاجة ماسة له وسط الانقسام السياسي الذي ينخر الوطنية السورية. ويمكن للمطلبية، بالتالي، أن تساهم أكثر في عزل النظام العاجز عن تلبية المطالب الاقتصادية، بسبب تكوينه الفاسد وارتهانه لخيار الحل العسكري. سيجد كثير من السوريين الذين تكون وعيهم السياسي العام في بيئة استبداد، أن ارتداد النظام بالقمع على من يطالبون بإسقاطه، أمر طبيعي، وكأنه “دفاع عن النفس”، غير أن التصور نفسه لا ينطبق على قمع مظاهرة تحتج على سوء المعيشة. من السذاجة الاعتقاد أن النظام سيسكت عن مظاهرة مستقلة عن ترتيبات أجهزته الأمنية والحزبية مهما كانت شعاراتها، ولكن الرهان ينعقد على أثر الشعارات في الوعي العام وعلى انعكاس قمع المظاهرات المطلبية في هذا الوعي.
تفاقم الأزمة الاقتصادية للنظام، مع هبوط أكثر من 85% من السوريين تحت خط الفقر، هي فرصة مناسبة لعزله حتى عن الفئات الفقيرة الأكثر التفافاً حوله، الفئات التي سيجري صدها عن التعاطف، أو ربما المشاركة، إذا رفعت المظاهرات شعارات قصوى.
من الصعب الفصل بين السياسي والاقتصادي، المطالب الاقتصادية سوف ترتطم بحاجز سياسي، كما أن العمق الحقيقي للسياسة هو الاقتصاد. يكمن الفارق في المقاربة، الخيار الأمني الذي انتهجه النظام لمواجهة المطالب السياسية التي خرج بها السوريون في 2011، كان يسرق، على طول الخط، قوت السوريين ليحوله إلى مجهود قمعي، بصرف النظر عن التقييم السياسي لهذا الخيار. واليوم، أكثر من أي يوم سابق، يبدو الإصرار على الحل العسكري، والعناد في تجاهل الإرادة السياسية لقطاع واسع من السوريين، هو إصرار على المضي في سرقة ما تبقى للسوريين من قدرات اقتصادية سعياً وراء إطالة عمر نظام سياسي في عداد الموتى. المطالب الاقتصادية اليوم هي المدخل الأكثر إيلاماً للنظام، والأكثر فاعلية في إسقاطه من المطالبة بإسقاطه.
Archives
December 2024
M T W T F S S
« Jul    
 1
2345678
9101112131415
16171819202122
23242526272829
3031