“حياة السود مهمة” هذا هو الاسم الذي تحمله حركة حقوق إنسان عالمية تدافع عن حقوق السود. يدل الاسم على مستوى تدني حقوق السود، فالاسم يريد تأكيد حقيقة يفترض أنها بديهية ولا تحتاج إلى تأكيد، ويعكس انشغالاً وقلقاً على حماية حق أساسي وأولي للسود، وهو الحق بالحياة. وما يشير أكثر إلى
مستوى تدني حقوق السود، وإلى الإشكالية العميقة لقضايا حقوق الإنسان على الإطلاق، أن مؤسسي هذه الحركة كلهم من السود.
يتوجه إيلي ميستال (كاتب أميريكي أسود) إلى البيض الذين يسألون، بمناسبة مقتل جورج فلويد مخنوقاً تحت ركبة شرطي أبيض، كيف يمكننا المساعدة: “لا أريد تعاطفكم، لا أحتاج أن تتفهموا غضبي، يمكنكم أن تغضبوا معي في وجه عنصرية البيض الآخرين”. وتؤكد كاتبة سوداء إن البيض “لا يتعاطفون معنا بل يشفقون علينا”. يتكرر هذا في كتابات سود آخرين محبطين من برود البيض عموماً تجاه انتهاك حقوق السود. لا يمكن لأحد أن ينكر هذا الشعور بالإحباط لدى السود المعرضين بهذه السهولة لانتهاك أبسط حقوقهم، الحق بالحياة. مع ذلك يبرز السؤال: ماذا عن انتهاك حق البيض أيضاً بالحياة؟ صحيح أن مقتل السود على يد الشرطة الأميريكية يعادل ثلاثة أضعاف مقتل البيض، مع العلم أن نسبة السود في أميريكا لا يتجاوز 14%، لكن قتل البيض على يد الشرطة الأميريكية يعرض قضية حقوق عامة لا ينبغي تجزيئها، كما هو حاصل اليوم. على هذا يبرز السؤال المعكوس: هل يغضب السود أيضاً حين يقتل أميريكي أبيض على يد الشرطة؟ ألا يبدو، أمام واقع تجزئة “حقوق الإنسان”، أن النضال ضد العنصرية يسير على خطوط “عنصرية”؟
من الجلي أن مفهوم “الإنسان” لم يتجذر في وجدان الإنسان حتى زمننا الحالي. فلا يزال المنبت واللون أو الانتماءات (غير المختارة) تخلق في الإنسان تمييزاً وجدانياً في الحقوق ينعكس تجزيئاً في الحقوق. لا يشكل “الإنسان” جبهة واحدة ضد منتهكي حقوق الإنسان باستقلال عن ظلال “الجماعات” وتنوعها وتوزعها على الخارطة السياسية. فنرى مثلاً أن الأسود يتحسس مأساة “الإنسان” الأسود أكثر مما يتحسسها الأبيض. هذا ينسحب على استقبال أو التفاعل مع كل حالات انتقاص الحقوق التي تتعرض لها فئة بشرية محددة بقومية أو دين أو مذهب أو لون ..الخ.
في الواقع لا يشعر الإنسان عموماً أنه معني بكل انتهاك لحقوق الإنسان عموماً. على سبيل المثال، لماذا يشعر الأرمن اليوم أنهم ورثة المأساة الرهيبة التي تعرض لها الأرمن؟ لماذا لا تكون هذه المأساة ميراثاً إنسانياً يُعنى به، بنفس الدرجة، جميع المؤمنين بحقوق الإنسان؟ لماذا يخرج السود للدفاع عن مقتل “إنسان” أسود ويشعر البيض أنهم غير معنيين أو معنيين بدرجة أقل؟ بالمقابل، لماذا لا يشعر الأرمن أنهم ورثة مآسي غير الأرمن، ولماذا يشعر السود أن مقتل رجل أبيض على يد الشرطة أقل إثارة لمشاعر الغضب لديهم من مقتل رجل اسود؟ الجواب هو أن مفهوم الإنسان لم يتأصل في الوجدان، وأن عبارة “حقوق الإنسان” تواجه مقاومة صلبة ليس فقط من جانب المؤسسات، بل ومن جانب الثقافة، وإن بدرجة اقل. كما تواجه مقاومة من جانب الإنسان الذي لا زال ثقل منبته يتفوق في وجدانه ويعيقه عن ملامسة إنسانيته. كذا الحال في نظرة الإنسان إلى نفسه، كما في نظره إلى الآخرين. الحق أن في هذه العلاقة التي تحبس فكرة “الإنسان” في موقع المغلوب لما دونها من انتماءات وتبعيات، يكمن أساس انتهاك حقوق الإنسان عموماً، حقوق الأقليات والأكثريات معاً.
من تهميش فكرة الإنسان ينبع الكلام عن حقوق الأقليات. بقليل من التدقيق نرى أن “شعبية” حقوق الأقليات وجاذبية الدفاع عنها (وهو دفاع مشروع بوصفه جزءاً لا ينفصل من الدفاع عن حقوق الإنسان) ليس سوى ستار يحجب انتقاص حقوق الأكثريات. ليس الحل في تضامن البيض مع السود بل في وحدتهم الفعلية ضد الانتهاكات، في اعتبار الأسود انساناً قبل أن يكون ذا بشرة سوداء. وكذا الحال في علاقة الجماعات المذهبية والقومية حين يتعلق الأمر بانتهاك حقوق الإنسان.
وقوف كل جماعة (تربطها القومية أو الدين أو اللون ..الخ) في الصف الأول دفاعاً عن حقوق “إنسانها”، وقلة اكتراث الجماعات الأخرى بهذه الحقوق، يشل فعالية النضال لحماية حقوق الإنسان. استمرار هذه الحال يمكن أن تولد لدى الجماعات نوعاً من الرضا “الآثم” بانتهاك حقوق “إنسان” الجماعات الأخرى، أي نوعاً من القبول بالتوزيع “العادل” للانتهاكات، بدلاً من الإصرار على العدالة في منع الانتهاكات.
المظاهرات التي خرجت في غير عاصمة ومدينة أوروبية ليست تضامناً مع الأميريكيين الأفارقة، بل هي، في الواقع، نضال في قضية مشتركة عبرت عنها آسا تراوري (شقيقة أداما تراوري الفرنسي الأفريقي الذي قتل على يد الشرطة الفرنسية بعد توقيفه في 2016، والذي تحركت المظاهرة الباريسية في الثاني من شهر يونيو/حزيران الجاري، بدعوة من عائلته) بالقول: “عندما نناضل من أجل جورج فلويد، فإننا نناضل من أجل أداما تراوري”.
من مرتكزات السلطة السياسية (لا تستثنى من ذلك السلطات السياسية المنتخبة)، خلق شعور (موهوم في الغالب ويتغذى على حقائق جزئية) لدى فئة أو فئات اجتماعية بأن لها تميزاً في التركيبة السياسية التي تحرسها السلطة المعنية، لكي تتحول هذه الفئة، التي قد تكون أقلية أو أكثرية، إلى ركيزة للسلطة. في هذا تجزئة للجماعات يقود إلى تجزئة للحقوق، وهذا أحد أهم قنوات هدر الحقوق.