لم يشكل الحديث عن السجن نقطة ألم بالنسبة لي، على خلاف ما يظن أصدقائي الذين يسارعون للاعتذار عن “تقليب المواجع”، حين يسألوني عن شيء من زمن السجن. على العكس، في الحديث عن حياتي في السجن أجد متعة ما، كمتعة تفريغ الألم. وكان من أساليب تغلبي على فيض الزمن في السجن، أنني كنت أتمرن على سرد مجرياته وكأنني أروي لأهلي وأصدقائي في الخارج هول ما عانيت، أو الطرائف والمفارقات والأحداث الناعمة التي مررت بها في السجن. وكان هذا التمرين من أجمل لحظات خلوتي وخصوصاً حين أعتقد أنني نجحت في سرد الواقعة. وهذا مما يجعلني أنظر برعب فظيع إلى “الموت تحت التعذيب”، ذلك أنه يحرم الشخص من روي ما مر به. حرمانه من العزاء الوحيد المتمثل في قطاف لاحق لثمرتين، الأولى سعادة سرد اللحظات الحادة أو الغريبة، والثانية الإحساس بدفء الاحتضان، احتضان تجربتك في رحم تجربة المعاناة العامة المشتركة. وفي هذا تكمن إحدى جوانب قسوة أن يحرم الشخص من نقل معاناته بالموت.ـ
في الحديث الشعبي يؤكدون على موت جماعة ما بالقول “لم يبق منهم المخبِّر”، أي لم يبق من ينقل ما جرى لهم. وفي هذا موت فوق الموت. الحديث عن السجن لم يكن بالنسبة لي “تقليب مواجع” أو نكء جراح، بل مقاومة للموت، أو فعل مضاد للموت.ـ
والحق أنني كتبت “ماذا وراء هذه الجدران” على مدى أكثر من ثلاث سنوات، وذلك بعد أن انقضى على خروجي من السجن حوالي 10 سنوات. كانت جلسات كتابتي من أجمل لحظات يومي، كنت أستعيد ما أكتب عنه وكأنه يحدث أمامي وأتأمله من خارجه وأكتبه بمتعة الأم التي تقطع تفاحة لتطعم صغيرها، ولكن بشحنة من التركيز كثيراً ما جعلتني أبكي أو أضحك، ثم أسترخي بعد ذلك وأقرأ ما كتبت، ونادراً ما أجريت تعديلاً مهماً منه.ـ
كتبت ما بقي في ذاكرتي بعد كل تلك السنين، معتبراً أن ما أسقطته ذاكرتي لا يستحق الذكر. وكان في هذا حذف غير حكيم لمجريات مهمة استعادتها ذاكرتي فيما بعد، أو ذكّرني بها زملاء سجن. لكن الحقيقة أن الكتابة عن السجن، كأي موضوع، هي كتابة لا تنضب.ـ
تبقى لحظة الدعوة الإسلامية الأولى لحظة حية مهما تقادمت، ولا محيد عن دراستها عن قرب، ليس فقط لفهم عوامل نجاح حركة على هذا القدر من العظمة، بل أيضاً لفهم المرجعية الدائمة لطيف كامل من الحركات الإسلامية التي تجد إلهامها في تلك اللحظة، فمنها من يريد استعادتها بحرفيتها، إن أمكن، ومنها من يريد استلهام روحيتها، وفي كل حال تبقى تلك اللحظة طبقة منشئة لكل صنوف الإسلام السياسي.ـ
عرضنا في الكتاب، الذي استغرق على صغره، أكثر من سنتين من العمل المكرس، للجانب السياسي من الدعوة، وأظهرنا كيف تحكم السياسي بالديني على مسار الدعوة، وليس العكس. وفي سياق دراستنا تكشفت لنا مقاصد خطوات شهيرة أقدم عليها الرسول محمد وكان تفسيرها أبعد ما يكون عن “دينية الحركة” وأقرب ما يكون إلى “دنيويتها”، مثل الهجرة إلى الحبشة، وتأليف القلوب، واستمالة أبي سفيان، والصراع مع اليهود في المدينة ..الخ، وهي مقاصد تختلف، إلى حد غير قليل، عما هو شائع ومتداول من تفسير لهذه الخطوات في كتب السيرة والأدبيات الشائعة.ـ
كما لامسنا في الكتاب الخيط الذي يربط بين الرسول محمد، من حيث البعد السياسي للدعوة، وبين العلمانية الحديثة بما هي رابط وطني يعلو فوق
الروابط الأخرى، من عرق أو دين أو قبيلة أو ما شابه.ـ
ليس القصد من وراء كلامنا هذا الترويج للكتاب بالمعنى الإعلامي، بقدر ما هو من باب التحريض على قراءته لاعتقادنا أن في ذلك ما يعين على فهم أفضل لحاضرنا المشبع بالحركات التي تعود إلى هذه اللحظة الاستثنائية الملهِمة في تاريخنا، كما ذكرنا.ـ