العلويون في مهب السلطة السياسية
يعرض علينا التاريخ في سورية واقعاً نادراً يساهم في تقديم إجابة على السؤال: ما هي التغيرات التي يمكن أن تحدث على مذهب ديني باطني (المذهب العلوي هنا) حين تتيح شروط معينة لنخبة من هذه الجماعة المذهبية أن تسيطر على سلطة الدولة في مجتمع غالبيته الغالبة من مذهب آخر غير باطني (المذهب السني). كيف تؤثر السياسة على الدين الباطني أو فيه، وكيف تتفاعل السلطات السياسية مع الدينية، وفي أي اتجاه، وكيف تتحرك السلطات وتنزاح، وأين تتركز وما هي جهة استقرارها في سياق هذه السيطرة؟
المذهب الباطني
لا تعني باطنية المذهب الديني، مثل العلويين أو الدروز، أنه يستبطن النص القرآني، أي يرى أن للنص ظاهراً وباطناً، وأن الباطن هو الروح فيما الظاهر هو الجسد. هذا المعنى لا يحدد المذهب الباطني إلا جزئياً. ذلك أن افتراض أن للنصوص القرآنية معان مجازية ودلالات مستترة تتجاوز المعاني القاموسية للمفردات، أمر شائع حتى في التفاسير “الرسمية” للنصوص القرآنية. التحديد الأهم للمذهب الباطني هو “السرية”، أي اعتبار تفسيره الباطني للنص سراً يخصه ولا ينبغي البوح به إلا لأبناء المذهب نفسه ووفق قواعد يجب مراعاتها بغرض صيانة السر.
على هذا، تعرض الجماعات المذهبية الباطنية مفارقة شديدة التوتر بين الرضى المذهبي، أي القناعة التامة بصحة “السر” الذي لديها، والاطمئنان إليه، وبين الانغلاق والقبول بوضعية المغلوب إزاء الدين السائد. هذه المفارقة لا تعكس ضعفاً دينياً أو مذهبياً، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل تعكس بالأحرى ثباتاً نهائياً في القناعة المذهبية لا يخشى معه على الجماعة من الانجذاب أو الضياع والانحلال في محيط الدين الرسمي الواسع. أهل المذهب الباطني لا يدخلون في نقاش ديني مع المذاهب الأخرى لكي لا يكشفوا سرهم، هذه الجماعات ليست تبشيرية ولا تطمح إلى التوسع والانتشار، ولكنها، مع ذلك، جماعات أكثر ثباتاً على دينها، ولها قدرة مدهشة على عبور العصور والمحن.
الأهم من ذلك أن هذه الجماعات الباطنية لا تعرّف نفسها، وعليه تصبح معرفتها محكومة لروايات وملاحظات الغير، (نحن المعرفون بطريقة “هؤلاء هم” العلويون، وليس بطريقة “هذا نحن”)[1]. الأمر الذي يزيد في كثافة غموض هذه الجماعات وامتلاء تعريفها بالتخيلات والغرائب، ما يزيد في عزلها وانعزالها.
مفارقة الجماعة الباطنية
الاضطهاد الذي تعرض له العلويون، من ضمن حالة الاضطهاد العام التي لحقت بكل محكومي السلطات التي تعاقبت على سورية، يحمل طابعاً دينياً، إضافة إلى الطابع الطبقي (ريف ومدينة). في كتاب “آثار الحقب في لاذقية العرب” نقرأ أن مسلمي مقاطعة صهيون، على خلاف مسلمي بقية المقاطعات في لواء اللاذقية الذين كانوا “منقادين للحكومة ولا يميلون للتشويش ولا للسرقة وقطع الطرق”، كانوا “مماثلين للنصيرية في معيشتهم وتعدياتهم وحبهم للفتن وميلهم للسلب وقطع الطرق وسفك الدماء .. ومع أن لهم ما للنصيرية من الجرائم والذنوب، لم تشهر عليهم الحكومة قط عصا التأديب، التي طالما اشهرتها على النصيرية، ما ذلك إلا لتحزب مسلمي اللاذقية لهم ومحاماتهم عنهم، المحاماة التي تبعثهم عليها العصبية والغيرة المذهبية”[2].
السؤال الآن: إذا كان المذهب الباطني قد نشأ في بيئة دينية وسياسية معادية، واكتسب خصائصه من ظروف نشأته، ما الذي يحل على أهل هذا المذهب حين ينتفي القسر السياسي، أو حين تغيب البيئة السياسية المعادية؟ هل يميل أهل المذهب إلى تخفيف قيود السرية عن مذهبهم؟ وإذا ما قادت الظروف السياسية إلى تقدم بعض أبناء المذهب الباطني وتبوئهم مناصب مقررة في الدولة، كما حصل مع العلويين في سورية، هل يمكن لأهل المذهب أن يجدوا في هذا فرصة لنشر مذهبهم، أي للتحول إلى مذهب تبشيري بغرض تعزيزز السياسي بالديني؟
ليس عادياً أن تجد جماعة دينية تؤمن إيماناً قطعياً، كغيرها من الجماعات، بصواب نظرتها الدينية وصواب موقفها من نظرة الجماعات الأخرى، دون أن يكون لديها الاستعداد لإعلان الصواب الذي لديها ونشره والدفاع عنه. ليس لدينا من تفسير لهذه الظاهرة سوى أن يكون ثمة خطر “سياسي”[3] على الجماعة من كشف “عقيدتها”، بوصفها أقلية دينية في محيط ديني مغاير. وهذا التفسير يفترض أن في نشر هذه العقيدة الباطنية ما يسيئ للعقيدة السائدة إلى حد يمكن أن يدفع أتباع هذه الأخيرة، أو أصحاب السلطة فيها، إلى أن يثوروا فيشكلون خطراً على أتباع العقيدة الباطنة المعنية. إذا صح هذا التفسير فإن النتيجة التالية تقول إن زوال خوف أصحاب العقيدة الباطنية من انتقام أتباع العقيدة السائدة (كأن تتوفر دولة ديموقراطية علمانية تحمي حرية الاعتقاد)، يفتح الباب أمام تحول العقيدة الباطنية إلى عقيدة ظاهرة. غير أن الواقع لا يناصر هذا الاستنتاج. المذهب الباطني يحافظ على باطنيته كما لو أنها جزء جوهري من تعريفه.
لماذا يحرص أهل المذهب الباطني على السر؟ هل هو الخوف من بطش الدين السائد، أم الحفاظ على السر من الشيوع ما يفقده سحره وجاذبيته بوصفه سراً، فضلاً عن ابتذاله بوقوعه في دائرة النقد والسجال؟
لا يبدو أن العقيدة الباطنة، حالما تتكون وتتكامل بوصفها كذلك، قابلة للتحول إلى عقيدة ظاهرة. من المفيد هنا أن نميز بين العقيدة السرية أو الباطنية وبين الدعوة السرية، هذه الأخيرة تطمح إلى الظهور حالما يتاح لها الظرف، مثل حال الدعوة المحمدية في مرحلتها السرية، أما السرية في العقيدة فهي من صلب تكوينها الذي لا شك ساهمت ظروف سياسية محددة في تبلوره. بكلام آخر، الدعوة السرية هي مسار يسعى، مع الزمن وتبدل شروط القوة، إلى الظهور والغلبة، أما العقيدة السرية فهي تكوين منجز تشكل السرية محدداً أساسياً في هويته.
لنا أن نتصور أن سرية العقيدة أو باطنيتها، ونمط تلقينها واكتساب معرفتها، هي مكان مناسب لازدهار صنوف الاستخفاف بالعقائد الأخرى، ولاسيما منها العقيدة المسيطرة، الأمر الذي يزيد في سماكة جدار انعزالها وميلها إلى الانغلاق الذاتي.
الجماعة الباطنية والسيطرة
لكن هل يعني انغلاق الجماعات الباطنية على ذاتها، أن هذه الجماعات المذهبية لا تحمل ميلاً إلى السيطرة؟ وما هو سبيلها إلى السيطرة إذا وجد لديها هذا الميل، وهو موجود بالتأكيد بوصفه طموحاً طبيعياً أو غريزياً لدى الجماعات؟ جوابنا الأولي، الذي سوف ندقق به لاحقاً، هو أن السبيل الوحيد لغلبة هذه الجماعات، بما هي جماعات دينية، هو السبيل السياسي القسري، طالما أنها لا تقبل في تكوينها نفسه استيعاب أتباع جدد كي تتحول إلى دين غالب بالتعداد. لكن السؤال التالي هو كيف يمكن، في العصر الحديث، أن تسيطر جماعة بوصفها جماعة دينية باطنية لا تقبل أتباعاً جدد ولا تفصح عن “سرها”؟ الجواب الأولي أيضاً هو السيطرة المموهة، اي سيطرة بغطاء سياسي عبر إيديولوجيا غير دينية، ايديولوجيا قومية مثلاً.
الوجود المحدد لهذا المنطق في سورية يقول إن العلويين (بهذه العمومية) خططوا وسعوا إلى السلطة من خلال الجيش، عبر الانقلابات، ثم حافظوا عليها تحت ستار سياسي قومي باسم حزب البعث. يفشل هذا القول في الرد على السؤال: ما الذي يجعل العلويين كتلة سياسية واحدة في حين أن مذهبهم أفقي غير هرمي في تكوينه ولا توجد سلطة أو مرجعية دينية عليا له (لا هيكلياً ولا معنوياً) يمكنها أن توحد إرادة أبناء المذهب؟ واقع الحال أن المنطق السياسي يغلب المنطق الطائفي، لأن المصلحة تغلب العاطفة والميول العصبوية. العلويون، كغيرهم من أبناء المذاهب الأخرى، هم موضوع للسياسة أكثر مما هم ذات لها. دون أن يستبعد هذا قدرة السياسة في شروط محددة على تجيير عاطفة الجماعة العامة لخدمة مصالح سلطة محددة.
على هذا يبدو لنا أن سيطرة أقلية مذهبية غير توسعية، بوصفها جماعة دينية، ضرب من الخيال والتوهم لأنها تفتقد إلى التماسك السياسي (حتى لو افترضنا خيالاً أن جماعة مذهبية انتظمت وأصبحت حزباً موحداً، فمن المشكوك فيه قدرتها على السيطرة كجماعة مذهبية إلا على طريقة سيطرة اليهود في فلسطين، وهذا غير متاح في الحالة السورية لا مادياً ولا سياسياً)، ولأنها إذا ما وصلت نخبة منها إلى السلطة، كما حدث في مثال العلويين السوريين، فإن سعيها للحفاظ على السلطة سوف يميل بها إلى التقارب أكثر فأكثر مع الأغلبية المذهبية، طالما بقي ثمة قناة مشؤومة تصل بين الديني والسياسي وتنفخ الروح الطائفية في المجتمع.
الطابع غير التبشيري للمذاهب الباطنية ينطوي على تخل تام عن المنافسة الدينية كوسيلة للسيطرة، والقبول النهائي بالوضعية “الانكفائية” حتى لو توفرت للمذهب الباطني، على سبيل الافتراض، الغلبة العددية. لنتخيل، افتراضاً، أن للعلويين أغلبية عددية في سورية، فلن يقود هذا إلى خروج المذهب عن سريته بحيث تكون تعاليم المذهب العلوي هي التعاليم الدينية المسيطرة أو المفروضة على المجتمع. على هذا، فإن قبول العلويين بأن يتلقى أبناؤهم النسخة السنية من الإسلام في المدارس، لا ينبع من كون المسلمين السنة هم الأكثر عددياً في سورية، بل من كون المذهب الباطني لا يصلح، بطبيعته، لأن يكون مذهبا للتعليم المدرسي. ويمكن المضي أكثر من ذلك على هذا الخط، بافتراض وجود دولة كل رعايها من العلويين، عندها أيضاً لن نجد “أسرار” المذهب العلوي معروضة في الكتب المدرسية للتلاميذ، كما هو حال المذهبين الظاهريين التوسعيين السني أو الشيعي.
لا التفوق العددي ولا الغلبة السياسية لأبناء الدين الباطني، يمكن أن يقود إلى تفوق أو غلبة دينية للمذهب على المذاهب الأخرى. من الناحية الدينية يبقى الدين الباطني في جميع الحالات على حاله، أي يبقى ديناً “أقلوياً” في طبيعته، فلا تخرج “حقيقته” إلى العلن ولا يظهر باطنه. الدين الباطني يحمل “سريته” كوشم أبدي.
تحرر محتجز للعلويين بعد 1970
التحرر من الخوف، بعد وصول نخبة من الضباط العلويين إلى أعلى المراكز القيادية في سورية، حرر العلويين بالتدريج[4] من عقدة الدونية “الاجتماعية” الناجمة عن الاختلاف عن المذهب السائد من جهة، وعن ترافق هذا الاختلاف مع تدن باد في الوضع الاقتصادي والثقافي. وقد عزز هذه العقدة، بطبيعة الحال، استحالة الدخول في محاججة دينية مع المذهب السائد، وبالتالي استحالة استعراض القوة المذهبية الدينية التي يعتقدها العلويون في مذهبهم. واللافت أن عقدة الدونية هذه لم تظهر فقط بوصفها عقدة اجتماعية بل وبوصفها عقدة “دينية” أيضاً. المفارقة اللافتة هنا، أن العلويين، رغم اعتدادهم الداخلي بصوابية مذهبهم، ورغم مقاومتهم الدائمة لكل المحاولات التبشيرية[5] سواء منها المسيحية القديمة أو الشيعية الحديثة، كانوا يبدون دائماً، ربما بتأثير تاريخ طويل من الخوف والحيطة، ما يشبه “الخجل” من إظهار ما يشي بمعتقداتهم العامة أمام المسلمين السنة، وكثيراً ما يحاولون طمس الخلافات المذهبية معهم منغلبين دائماً للمذهب السائد. الكلام هنا يدور عن عموم العلويين وليس عن “علمائهم”.
في وثيقة “الابتدار العلوي” التي سبق ذكرها، يقدم اصحاب الوثيقة المجهولون الذين يصفون أنفسهم بأنهم “مفوَّضون”، مفهوماً للدين يتجاوز فكرة “الفرقة الناجية” ويقبل بالتعددية الدينية بمعنى تعددية النظر الديني، “ليس من العلوية في حقبتها الجديدة[6] أن يؤمن أبناؤها بأنهم وحدهم من قد يظفر بالنجاة في امتحان المآل إلى الله .. يقطع العلويون بأنهم عافون عن فكرة الطوائف الناجية والشعوب المختارة ومؤمنون بفكرة وجود الأخيار والفضلاء في كل الملل والنحل”. بصرف النظر عن هوية كاتبي الوثيقة وموقعهم وتمثيلهم، يمكن ملاحظة أن محاولة تجاوز الانعزال تنحو بالمذهب الباطني إلى نوع من “الديموقراطية” الدينية التي لا تطمح لأكثر من تحقيق المقبولية في الوجود، على مبدأ الإسلام الوليد في المرحلة المكية من الدعوة: “لكم دينكم ولي ديني”[7]. المذهب الباطني في تكوينه العميق ليس هيمنياً، أو لا ينزع إلى الهيمنة، وأقصى ما يبتغيه من الناحية المذهبية أن يُقبل وجوده وسط بقية الأديان والمذاهب، فهو لا يطمح إلى كسب أتباع جدد، كما أنه لا يبدي خشية من انقلاب أتباعه. من هذه الزاوية فإن التجربة السورية بعد 1970، تعرض خطاً متميزاً يكمن في إشكالية العلاقة بين السياسة التي هي نزوع دائم للهيمنة، تولاها عسكريون من بيئة علوية، وبين مذهب باطني غير هيمني في تكوينه الأصلي. في هذه العلاقة عملت السياسة على تحريض الجانب العصبي في المذهب ليشكل رباطاً متيناً مسانداً للسلطة، بغلاف سياسي (فالمذهب العلوي لا يوفر غطاء دينياً للهيمنة). وفي الوقت نفسه سعت السلطة إلى تبديد المرجعية الدينية لرجال الدين العلويين المستقلين بوجه خاص، وإلحاق المشايخ برجال السلطة السياسة. النتيجة كانت تعزيز العصبية العلوية وإضعاف المذهبية الدينية العلوية، أو بلغة أخرى، تعزيز الطائفية العلوية وإضعاف الدين العلوي. البضاعة المطلوبة للسلطة هي علويون طائفيون في نظرتهم وليس أشخاص ذوو معرفة دينية. تلك هي النتيجة التي يمكن رصدها بعد 1970. وقد تكون هذه النتيجة، فضلاً عما تكشف من عدائية السلطة تجاه المجتمع بعد 2011، هي، في تصورنا، الدافع وراء إصدار وثيقة الابتدار العلوي المذكورة أعلاه، والتي تعلن التنصل من نظام الأسد مع نفي صريح للانتماء إلى المذهب الشيعي.
تمارس سلطة الأسد سلوكاً مزدوجاً في المجتمع السوري، فهي تظهر تقرباً ومراعاة شديدة للمذهب السني الأكثري[8]، وتبث، في الوقت نفسه، روح طائفية في الوسط العلوي بسبل مباشرة، عبر لغة طائفية صريحة في الأوساط الضيقة، فعلى سبيل المثال، يكثر رجال السلطة ترادا القول: متى كان يمكن للعلوي أن يرفع رأسه قبل اليوم؟ وسبل غير مباشرة عبر استناد النواة الصلبة للسلطة على مجموعة من الضباط العلويين الذين توحدهم عصبية جمعت بين العصبية الطائفية وعصبية المصلحة. تطلبت هذه الازداوجية السلطوية تواطؤاً علوياً لا يرى في “الظاهر السني” الصريح للسلطة سوى ظاهر تمويهي، ويرضى أو يقتنع أن “باطن” هذه السلطة أي حقيقتها هو أنها “سلطة علوية”. تبطّن هذا التواطؤ العلوي مع السلطة، عصبية طائفية، وتسوغه خشية لم تكف السلطة عن بثها في الوسط العلوي مستفيدة من بروز تيارات سياسية إسلامية توحد بين السلطة والعلويين. الصيغة التي أرادت سلطة الأسد إيصالها للعلويين تقول: نحن نرضي المجتمع السني بهذه القشور لكي نضع “اللب” أي السلطة في يد العلويين. بالمقابل، اشترك معارضو الأسد الإسلاميون مع العلويين في إعدام قيمة “الظاهر السني” للسلطة، واعتبارها بالواقع “سلطة علوية”. التواطؤ العلوي المغشوش بوهم السلطة يضمر نظرة طائفية، فيما الرفض الإسلامي “للسلطة العلوية” يعلن طائفيته، على هاتين الركيزتين الطائفيتين (المضمرة والظاهرة) استقرت سلطة الأسد لعقود. هكذا أسست السلطة ذات الغلاف البعثي وذات اللغة القومية والتقدمية، لخط صراع طائفي لم يكف عن امتصاص كل طاقة تغيير سياسي في المجتمع السوري وصولاً إلى التدمير الشامل الذي صار إليه.
خلال عقود سيطرة نظام الأسد، تحول الشعور السوري العام تجاه العلويين من النبذ إلى المهابة. صار العلوي أكثر جرأة على التحدث باللهجة التي أخذها من بيئته دون أن يتكلف تصنع لهجة مدنية، كما في السابق، في مسعى منه إلى إخفاء هويته المذهبية والاجتماعية. لا شك أن في ذلك شعور مهم بالتحرر يسمح بالتصالح مع الذات. غير أن خروج العلويين من دائرة التهميش أو النبذ، أو هذا التحرر العلوي، لم يأت في سياق تحرر المجتمع السوري، بل جاء في سياق تكريس سلطة مستبدة تستثمر في إيهام العلويين بأنهم أصحاب سلطة، فوجدوا أنفسهم يخرجون من التهميش إلى سيطرة متخيلة، ولكن ليس إلى مساواة تؤسس لصعيد وطني مشترك يهمش الانقسامات المذهبية والطائفية.
باتت اللهجة العلوية مصدر سلطة (وإن كانت موهومة إلى حد كبير) حتى بات غير العلوي يقلدها بغرض الإيحاء بأنه ذو صلة بالسلطة الأمنية التي تثير الرعب في المجتمع. وبات يمكن للعلوي أن يتجرأ على التدليل على هويته المذهبية من خلال رموز معينة، مثل وضع شريطة خضراء في المعصم، أو وشم سيف ذو الفقار. غير أن كل هذا “التحرر” الظاهر لم يغير كثيراً في ضعف الموقف الديني للعلويين إزاء الدين المسيطر. الامتلاء بالقوة الأمنية لدى العلويين، لم يترافق ولم يقد إلى امتلاء بالثقة المذهبية إزاء المذهب السني. بعد كل شيء، بقي في الذهن العلوي أن السنة هم متن المجتمع السوري وأن هذه الحقيقة لا يمكن تجاوزها. لذلك كلما اقترب العلوي من فكرة السيطرة العلوية على السلطة أكثر، كلما أوجعه وأقلقه الشعور بحقيقة السيطرة السنية على المجتمع. لأن هذه المقاربة الطائفية تضع العلوي المشبع بها أمام سؤال عويص: إذا كان أهل السنة يكرهوننا، وهم متن المجتمع السوري، فما العمل؟ من نافل القول أن المقاربة الطائفية التي تنسف الصعيد المشترك بين السوريين عبر إحالتهم إلى هويات دينية ومذهبية متواجهة، لا تفتح الباب إلا أمام علاقات سيطرة مذهبية (صريحة أو مستورة)، وفي كل الحالات، يتبين في آخر النهار، أن الخاسر الأكبر في هذه الحال هي الأقليات الدينية[9].
حين أفرجت جبهة النصرة (فرع القاعدة في سورية) في صيف 2018، عن النساء العلويات اللواتي كان التنظيم قد اختطفهن من قرية اشتبرق (معظم أهاليها علويون)، استقبل الأهالي المخطوفات بزيهن “الإسلامي” الجديد، فقد كن يرتدين الحجاب المفروض عليهن من الخاطفين الإسلاميين المتشددين، وبعد تحررهن من سلطة الخاطفين ووصولهن إلى أهاليهن وبيئتهن الاجتماعية، لم تتجرأ أي منهن على نزع الحجاب المفروض والذي يشكل أحد أهم رموز الخاطفين، كما لم يقدم أي من الأهالي على فعل ذلك. رغم قسوة اللحظة واحتدام الصراع (وربما بسببهما)، ورغم رفضهم السياسي الشديد للجهة الخاطفة، لم يتجرأ أحد من العلويين على إزاحة رمز الخاطفين “السنة” عن رؤوس المخطوفات. ما كان الأمر سيكون على هذا الشكل لو كان الخاطفون من مذهب آخر غير المذهب السني، وقد فرضوا زيهم المذهبي على النسوة المخطوفات. حينها كان من الراجح أن يتسابق العلويون على انتزاع الرمز المذهبي المفروض على نسائهن المحررات. غير أن الأهالي، في الحالة المثال الذي نتناوله، تحسبوا من أن يبدو رمي الحجاب تحدياً معلناً (أمام الكاميرات) للمذهب السني، فاضطروا إلى احترام التغيير الشكلي الرمزي الذي فرضه الخاطفون على نسائهم والذي لا يلزمهم به فقههم المذهبي. هكذا استقبل الابن أمه المحررة وهي على هيئة لم يعتد أن يراها فيها، هيئة تشكل في الواقع اعتداء على صورتها المألوفة في نظره، غير أنه قبلها مكرهاً، أمام الكاميرات على الأقل، نتيجة استبطان انغلاب ديني أو دونية دينية تجاه المذهب السائد.
هنا نقترب أكثر من تحديد هذه المفارقة بين الرضى الديني التام ضمن الدائرة الداخلية، وإعلان الانغلاب الدائم أمام المذهب السائد، رغم عقود مما يعتبر في الوعي العام، سيطرة علوية على الدولة السورية. هذه المفارقة العجيبة التي تجعلنا نشهد كيف أن جماعة دينية لا تخشى على مذهبها من أن يدرس أبناؤها المذهب السائد في المدارس، ولا تهتم لكون الدولة تتبنى المذهب السائد من حيث الطقوس والأعياد دون أن تكترث بمذهبها وطقوسها، مفارقة أن ينسحب العلويون تلقائياً أمام طقوس ولغة المذهب السائد وكأنهم يخجلون من مذهبهم رغم تمسكهم الشديد به ورضاهم التام عن “سره”. صحيح أن كل المذاهب على رضا تام بذاتها، غير أن المذاهب التبشيرية لا تقبل أن تنسحب أمام المذاهب الأخرى ولا أن يدرس أبناؤها في المدارس تعاليم مذهب آخر سوى مذهبهم. المفارقات السابقة تقول إن هذه الجماعة لا يخالطها أدنى قلق على تماسكها المذهبي مهما حصل. هكذا تعرض علينا الجماعة المذهبية العلوية (كنموذج عن المذاهب الباطنية) حالة يبدو فيها الضعف دلالة قوة، ويبدو مظهر الانغلاب دلالة ثقة بالثبات، ويبدو الاحترام الظاهر للمذهب السائد شكل من الاستهانة بقدرته على تفكيك اللحمة المذهبية للجماعة الباطنية.
بحث العلويين القلق عن شكل خارجي لمذهبهم
العقود العديدة من سيطرة نخبة عسكرية علوية على الدولة السورية، قادت، على عكس المتوقع، إلى اقتراب التدين العلوي من التدين الظاهري السائد، أكان سنياً أو شيعياً. ففي حين بالغت النخبة العلوية المسيطرة في استرضاء رجال الدين السنة وأتباعهم، تحت ضغط حاجة الرئيس “أول رئيس غير سني للدولة السورية” للقبول من جانب النخبة الدينية للمذهب السائد، مال رجال الدين العلويون أيضاً للتشبه أكثر بالمذهب المسيطر، في سعيهم للرد على مشكلة طرحها وصول نخبة علوية للسيطرة على الدولة السورية ودوام هذه السيطرة، وهي تقديم شكل ظاهري للمذهب العلوي الذي بات، بسبب وصول ضباط علويين إلى راس السلطة في سورية، محط أنظار لم تكن تعبأ به. كما لو أن الموضوع الذي طرح نفسه على رجال الدين العلويين هو تقديم تغييرات في الدين، من حيث الشكل والطقوس، ليكون مرئياً لعيون الآخرين، أو على الأقل ليكون له شكل وصورة يبدو عليهما، بعد أن باتت معرفة هذا المذهب مطلوبة وبات يثير الفضول ويكثر الطلب على معرفته. كما يسعى أهل البيت إلى ترتيب بيتهم وتزيينه بأشياء مجلوبة لاستقبال ضيوف.
من المعروف أن المذهب العلوي هو مذهب باطني ليس فقط في كونه مذهباً سرياً في تعاليمه ورؤيته، بل وأيضاً في طقوسه وشكله الخارجي. لا يوجد في المجتمع العلوي معالم دينية يستدل من خلالها على مذهب الجماعة، كما يمكن الاستدلال مثلاً على إسلامية الجماعة السنية من المساجد وعلى مسيحيتها من الكنائس. لا توجد بيوت أو أماكن محددة للعبادة، ولن تجد الرجل العلوي وهو يتعبد ربه في صلاة طقوسية ظاهرة، فالعلوي يصلي في قلبه أينما كان، ويمكنه إنجاز صلاته بينما هو يقوم بعمله في الأرض مثلاً. كما يعتبر العلوي المؤمن أن الطهارة في القلب كافية للبدء بالصلاة دون الحاجة إلى طهارة مستمدة من الاغتسال (الوضوء). كما لا يفرض المذهب على العلوي فريضة الحج أو الصيام. هناك من يقوم بهذه الطقوس ولكنهم قلة وغالباً من كبار السن[10].
حين سعى العلويون إلى إعطاء مذهبهم شكلاً ما، لم يجدوا سوى الشكل الإسلامي السائد، لذلك انتشرت في القرى العلوية ظاهرة بناء المساجد. وقد بقيت هذه المساجد، في الواقع، شكلاً بلا وظيفة على اعتبار أن المؤمن العلوي لا يحتاج إلى مسجد للصلاة. على هذا تحول المسجد إلى مكان لإقامة العزاءات بالأحرى. وفي كثير من القرى العلوية تحولوا بالفعل عن بناء المساجد إلى بناء مكان يناسب وظيفته الحصرية هي إقامة العزاءات لأهل القرية، وأسموه “مبرًّة”. كما ازداد بشكل ملحوظ عدد الملتزمين بصيام رمضان، وبدأنا نشهد ميلاً، وإن يكن ضعيفاً، لدى شابات علويات لارتداء الحجاب. لا نغفل أن وراء هذه الظاهرة أسباب سياسية، يمكن صوغها بوجود نزعة شعبية عميقة للتصالح مع الأكثرية السنية ولاسيما عقب مجزرة حماة، ويمكن فهمها على أنها رسالة تبرؤ شعبية من مسؤولية أحداث البطش الرهيبة التي أوقعها النظام بالمتمردين السنة في ذلك الزمن، مع شيوع تصور يضع العلويون والسلطة “العلوية” في سلة واحدة. إلى هذا، نعتقد أن العلوي يحمل، في معرض الحديث عن الأديان، قلقاً يلخصه السؤال: ما هذا الدين الذي لا شكل له ولا يفصح عن باطنه؟ ما هؤلاء المؤمنون الذين لا يصومون ولا يحجون ولا يصلون صلاة الإسلام ولا يحرمون الخمر ..الخ؟
دخل مبشرو المذهب الشيعي على الخط في هذه اللحظة، لحظة شعور العلويين بضعف ملامح دينهم، وتصدي رجال الدين العلويين لمهمة تقديم شكل ظاهري لمذهبهم إلى العالم، بعد أن كان مذهباً مغفلاً وبعيداً عن الأعين ومكتفياً بالظل وربما سعيداً به. استفاد المبشرون الشيعة ذوو الدعم الإيراني من السلطة التي أتيحت لهم جراء العلاقة المتينة التي جمعت السلطة السورية الأسدية مع السلطة الدينية الإيرانية، واستفادوا من حاجة المذهب العلوي للظهور في حين أنه تقريباً بلا شكل خارجي، الشيء الذي صوره المبشرون الشيعة على أنه ضعف مذهبي وبشّروا بأن القوة تكمن في التشيع.
بين الانضباط والتراتبية الشيعية ومهارة الكلام والمحاججة لدى الدعاة الشيعة والشكل المتبلور للمذهب الشيعي، وبين بساطة الواجبات الدينية وانعدام الثقل الديني في الحياة اليومية للعلويين وبساطة رجال دينهم وشبه انعدام الشكل الظاهري الطقوسي لمذهبهم، انقلب عدد من العلويين إلى المذهب الشيعي بوصفه مذهب جاذب في دقة تنظيمه وفي علو كعب مبشريه بالمحاججات الدينية والاطلاع التاريخي ..الخ، والأهم ربما هو شعور العلوي المنقلب أو المتشيع أنه بات على مذهب يمكنه من محاججة ومواجهة المذهب السني الذي طالما انكسر أمامه في مرحلته العلوية[11]. غير أن هذا المسار تعرقل بتأثير عاملين، شعبي وسلطوي. الأول هو مقاومة التغيير المذهبي التي أبداها العلويون طوال تاريخهم، بما في ذلك مقاومة التشيع رغم الاغراءات المادية في وضع اقتصادي صعب. والثاني هو عدم رغبة السلطة الأسدية في انتشار التشيع بين العلويين أولاً لأن هذا يخرجهم من دائرة نفوذ السلطة ويضعهم في الدائرة الإيرانية، وثانياً لأن التشيع يخلق تنظيم ديني له أرباب ينافسون أرباب السياسة، وهو ما لا يريده أهل السلطة الأسدية. معروفة في الساحل السوري قصة تصفية الدكتور المهلب حسن في 1984، بسبب صلاته مع إيران ودعوته العلويين للتشيع، ومعروف أيضاً حل جمعية الإمام المرتضى في العام نفسه لأنها شكلت مدخلاً للتشيع.
ما يسترعي الانتباه، أن سورية لم تشهد، بعد المرحلة العثمانية مسعى إسلامي سني لكسب العلويين كما فعل الشيعة، رغم أن تاريخ سورية في الفترة العثمانية، حافل بمساع لدفع العلويين إلى اعتناق المذهب السني[12]. هل يكمن السبب في الانشغال بالهم الوطني بعد الدخول الفرنسي إلى سورية، ثم سيطرة الايديولوجيات الكبرى بعد الاستقلال كالقومية والاشتراكية؟ يمكننا بعد 1970 رد الأمر إلى بروز حساسية مستورة حالت دون قيام أي مسعى سني بهذا الاتجاه. وقد يكون في النتائج الهزيلة أو الفاشلة التي منيت بها المساعي العثمانية رغم ثقل القوة العثمانية، ما أقعد الدعاة السنة في سورية عن السعي لتحويل العلويين.
السلطة و”ديموقراطية” المشيخة العلوية
من التغيرات المهمة التي طرأت على الممارسة الدينية العلوية بتأثير استمرار سيطرة نظام الأسد، هي كسر الحاجز التقليدي بين فئتي المشايخ والعامة. بات من الممكن لمن يشاء أن يصبح شيخاً وأن يقوم بوظيفة الشيخ المعروفة في الوفيات والزواجات والأعياد. يتندر العلويون بالقول إن “خريجي” السلطة، ولاسيما منهم مساعدو الجيش أو الأمن المتقاعدون، يواصلون سلطتهم بأن صبحوا إما مشايخ أو أصحاب مكاتب عقارية. هذا الابتذل في موقع الشيخ العلوي، رافقه بروز ظاهرة المشايخ العلويين الأكاديميين الذين يتخرج غالبهم من معاهد تعليم شيعية دون أن يعني هذا تشيعهم، مثلما أن تخرج بعضهم من كلية الشريعة في دمشق لا يعني تحولهم إلى المذهب السني.
إذا كان الشيخ (المساعد السابق أو ابن السلطة) كهل يتمتع بسعة خبرته السلطوية وعلاقاته، فإن الشيخ الأكاديمي شاب يتمتع بمعرفة دينية أعمق، غير أن كلاهما جاء على حساب خطوط المشيخة العائلية التقليدية، الأمر الذي أفضى إلى تفتيت وإضعاف السلطة المعنوية لرجل الدين العلوي. شيوع المشيخة حقق لسلطة الأسد إضعاف سلطة المشيخة التقليدية وضرب استقلاليتها النسبية، كما حققت السلطة عبر “ديموقراطية” المشيخة اختراق العلويين ليس فقط من الناحية الأمنية بل ومن الناحية الدينية أيضاً، من خلال تمشيخ فئة من الناس هي امتداد السلطة وابنتها من حيث الولاء والعقلية. النتيجة أن حضور رجل الدين العلوي يتراجع في المجتمع ويزداد ضعفاً أمام حضور رجل السلطة. ففي الضمير العميق لقسم كبير من العلويين أن “تحرر” العلويين لا يعود الفضل فيه إلى رجال الدين بل إلى رجال السلطة. وعلى هذا، تقبل العلويون التحول الذي افتتحته السلطة والذي ينتقل من خلاله رجل سلطة سابق إلى رجل دين، وكأن في ذلك عرفان يقدمه المجتمع العلوي لأهل السلطة “المحررين” بكسر الراء. هكذا تسربت السلطة السياسية إلى المذهب العلوي عبر نافذة العرفان أو الفرض، ولم يكن بمقدور المشايخ التقليديين مواجهة هذا التحول. في المحصلة تطور لدى رجال الدين العلويين (وبشكل خاص منهم أبناء السلطة المذكورين) تقدير لرجال السلطة فتح الطريق أمام إسباغ قيمة دينية، وليس فقط سياسية، على الكبار منهم، كما هو الحال مع حافظ الأسد.
خلاصة
تفيد الملاحظة المباشرة للحالة السورية، بوصفها نموذجاً لدراسة تأثير السلطة السياسية المستبدة على تركيبة وصورة المذهب الباطني، حين يتولى هذه السلطة عسكريون من المذهب نفسه ويجعلون من جماعتهم المذهبية سنداً لديمومة السلطة، أن المذهب الباطني لا يتخلى عن “سريته” مع تبدل الظروف السياسية. وأن هذا المذهب لا يميل، بأي حال، إلى الاصطدام “الديني” مع المذهب الرسمي. على العكس من ذلك، فقد دفع تسليط الأضواء على الطائفة العلوية بعد 1970، بصورة خاصة، إلى توليد نزوع شكلاني لدى العلويين يهدف إلى إضافة عناصر شكلية من الدين الظاهري (الشيعي أو السني) إلى حياتهم الدينية، كما لو أن العلويين يأخذون على أنفسهم بساطة دينهم.
لا يمتلك المذهب العلوي نزعة توسعية أو تسلطية، ولذلك فإن سلطة الأسد التي جمعت الاستبداد إلى العصبية الطائفية، ولدت علاقة داخل الجماعة العلوية بين رجال السلطة ورجال الدين يكون للأخيرين فيها موقع التابع، حتى لو تمت مراعاة الاعتبارات الشكلية في هذه العلاقة. وحين يتمشيخ رجل السلطة السابق فإنه يستمد من سلطته قيمة مضافة إلى وظيفته الدينية المستجدة.
لا بد أن العلويين يدركون في العمق، شأنهم في ذلك شأن أي جماعة مذهبية باطنية كان يمكن أن تكون في موقعهم، أن العصبية الطائفية لا يمكن أن تشكل أساساً يركن إليه لأمن الجماعة ومستقبلها، وأن بناء مشترك وطني هو مصلحة لهم قبل غيرهم. غير أن مقتضيات سلطة سياسية الأسد التي توهموا أنها حررتهم، أحيت فيهم العصبية الطائفية على حساب الوطنية، وأحيت بذلك النزوع الطائفي غير الوطني في مجمل المجتمع السوري، كل ذلك دون أن تظهر في اللغة الظاهرة للنظام أي كلمة طائفية.
بتنا اليوم أمام حالة يحتاج فيها تحرير المذهب العلوي مع غيره من المذاهب، التحرر من سلطة الأسد وأشباهها، لكي يعود المذهب إلى مجاله الديني، وتكف السلطة السياسية عن خلق العصبيات الطائفية والاستثمار فيها كما كان الحال في سورية منذ نصف قرن على الأقل.