انتهت التجارب السياسية “المعادية للامبريالية” سواء منها التي تبنت نهجاً إسلامياً (إيران، أفغانستان طالبان) أو تلك التي سارت في الطريق الذي سمي “الاشتراكية” بتنويعاته وتدرجاته الواقعية والنظرية المختلفة، إلى دول قمعية مأزومة اقتصادياً ويملؤها الفساد، وفي حالات كثيرة تحولت إلى كارثة على البلاد وعلى المحكومين (كمبوديا، كوريا الشمالية، سوريا، العراق، أفغانستان ..). فيما لا تزال الامبريالية “على سروج خيلها” وتقود العالم. يبدو إذن أن تاريخ العالم، حتى الآن، يعرض واقعاً يقول إن الخروج على الامبريالية يقود إلى البربرية أيضاً، على الضد من مقولة روزا لوكسمبروغ الشهيرة: “الاشتراكية أو البربرية”.
اختلفت البدايات (انقلابات عسكرية، حروب تحرير وطنية، ثورات اشتراكية، ثورات اسلامية ..)، لكن التجارب “المعادية للامبريالية” سارت جميعاً في اتجاه النهاية ذاتها: دول قمعية متخلفة اقتصادياً.
لا نقصد القول إن سيرة الدول الطرفية غير المعادية للامبريالية كانت أفضل حالاً، كما لا نقصد الكف عن نقد الامبريالية (بوصفها آليات اقتصادية وسياسية وعسكرية للسيطرة والنهب العالميين)، لكن المفارقة تظهر أولاً، حين تتحول التجربة التي تعلن العداء للامبريالية (لأنها آلية للنهب واستعباد الانسان وقهر الشعوب ..الخ)، إلى “امبريالية” محلية، ما أن يستتب لها الحكم، أي إلى آلية نهب واستعباد وقهر محلي، لا يقل، وربما يزيد عما جاءت هذه التجربة لمحاربته. وثانياً، حين تبطش هذه الأنظمة “المعادية للامبريالية” بحركات الاحتجاج الداخلية، مهما كان لونها، ثم تعطي لبطشها قيمة سياسية بوصفه مواجهة للامبريالية وصيانة للوطن وصد للمؤامرات ..الخ.
السلطات المعادية للامبريالية تفترق عن نموذجها
اللافت أن سلطات الطريق الاشتراكي “المعادية للامبريالية” لم تراجع تجربتها بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، الذي ظل دائماً يشكل المرجعية العامة لهذه التجارب. افترقت هذه السلطات عن “نموذجها” بدءاً من 1985، حين بدأ هذا بمراجعة جذرية لتجربته، المراجعة التي لم تشأ هذه السلطات تقليدها، بل استمرت على آليات الحكم السابقة إياها. وهكذا عرضت تلك السلطات “المعادية للامبريالية” لوحة جديدة تتمثل أولاً في الافتراق “المنهجي” عن التجربة السوفييتية الأم بعد 1985، ذلك أنها لم تر في البيريسترويكا والغلاسنوست (إعادة البناء والشفافية) سبيلاً مضموناً للاستمرار، وتتمثل ثانياً في مواصلة لغة “العداء للامبريالية” كأن شيئاً لم يكن، حيث استمرت تلك السلطات في تعليب لغتها السياسية بالقوالب القديمة نفسها.
النتيجة أننا بتنا أمام سلطات مبعثرة جغرافياً، وطرفية ومتشابهة في فشلها الاقتصادي واستبدادها السياسي، وقد خسرت نموذجها أو مركز ثقلها العالمي، إذ لم يعد هناك مركز عالمي للعداء للامبريالية تستند إليه هذه السلطات في فشلها العام الذي تحرسه يقظة أمنية مرعبة، حيث يصبح العنف هو الحاكم، بما يستجر من آليات خضوع وتأقلم وتبدل في الوظائف ورقابة على الذات، كما تتوسع وتوضح (سلوى اسماعيل) بدراسات ميدانية وتحليلات مهمة في كتابها “حكم العنف”[1] الذي يتخذ من الحكم في سورية في ظل البعث، نموذجاً له.
مع تفكك الاتحاد السوفييتي والتحاقه اقتصادياً بالعالم الامبريالي، واستمرار “أيتام الاتحاد السوفييتي” بايديولوجيا العداء للامبريالية نفسها، بدت للعين المجردة الحقيقة التي كان يجري التشويش عليها من قبل بستارة “اشتراكية تقدمية”، وهي أن المشروع السياسي الاقتصادي للسلطات “المعادية للامبريالية” لا علاقة فعلية له بالعداء للامبريالية ولا يتعدى مشروعها كونه “الاستمرار اللانهائي في الحكم” بكل السبل الممكنة. وأن كل السياسات المتبعة ومن ضمنها راية “العداء للامبريالية”، تنبع من هذه الغاية لكي تصب فيها.
الأهم من ذلك أن هذه السلطات لم تكن تندرج ضمن مشروع يقترح شكلاً عادلاً للعلاقات الدولية وما بين الشعوب، قابلاً للحياة، كمشروع مضاد للامبريالية بوصفها شكلاً ظالماً من العلاقات الدولية. الفارق المهم مع التجربة السوفييتية وبلدان الكتلة الاشتراكية هو أن السلطة السياسية هناك لم تتركز في يد طغمة ذات مصالح اقتصادية مترابطة بما يجعل مصلحة الطغمة هي العليا، كما هو الحال في السلطات “المعادية للامبريالية”، فقد ظلت شرعية السلطة السوفييتية مرتبطة إلى حد كبير بنجاح المشروع الاشتراكي. انهيار التجربة الاشتراكية كان بسبب فشل الخيار الاقتصادي الاجتماعي الاشتراكي، غير أن هذا الفشل وهذا الانهيار لم يفض إلى انهيارات موازية في بلدان “العداء للامبريالية” الحليفة للسوفييت، لأن صلة السلطات هنا بالمشروع الاشتراكي هي صلة خارجية، بمعنى إنها علاقة استفادة واستثمار، أي إن بقاء السلطة السياسية (حكم الطغمة) كان دائماً يعلو على المشروع، كما يعلو على ما سواه. لهذا كان التحول السياسي في بلدان الكتلة الشرقية أيسر، وكان للعالم أن يشهد ما عرف بالثورات الملونة، في حين كانت محاولة التغيير السياسي في بلدان العداء للامبريالية تكافئ تدمير الدولة والمجتمع، كما تشهد الأحداث في فنزويلا وسوريا وليبيا ونيكاراغوا ..الخ.
خسر العداء للامبريالية رهانه الاقتصادي مع بداية عهد بريجينيف (1964-1982)، وأصبحت القطبية العالمية (الحرب الباردة) تنحصر أكثر فأكثر في المستوى العسكري فقط. أي أخفق الخيار الاشتراكي في أن يشكل منافساً اقتصادياً للسوق الرأسمالية الحرة. كان خط النمو الاقتصادي السوفييتي في تراجع مستمر، من 5.2% في سنوات (1966-1970) إلى 3.7% في سنوات (1971-1975)، إلى 2.7% في سنوات (1976-1980)، وصولاً إلى 2% في الفترة بين 1980-1982، على ما جاء في تقرير سوفييتي نشر بعد وفاة ليونيد بريجينيف[2].
يبحث عالم اليوم عن توازنه ضمن المجال الامبريالي نفسه بعد أن تفكك القطب الاشتراكي الذي عزز، لعقود طويلة، وهماً يقول إن “هذه الاشتراكية” هي النقيض الاقتصادي والسياسي للرأسمالية، وأن الانتقال إلى الاشتراكية هو سمة العصر. فيما تبين أن ذاك القطب “الاشتراكي” لم يكن أكثر من خرّاج كبير على الجسد الامبريالي، وفي “تعايش سلمي” معه، قبل أن يتفجر هذا الخراج تلقائياً فيما بعد، في انتصار عملي لفكرة ليون تروتسكي عن حتمية فشل الثورة الاشتراكية المنكفئة أو “الاشتراكية في بلد واحد”.
تفككت صورة القطبين النقيضين، وتحول تحدي نيكيتا خروتشوف “من يقبر من”، إلى مجرد ذكرى تاريخية طريفة، بعد الانتهاء من مراسم دفن الاتحاد السوفييتي. بات أقطاب العالم اليوم “امبرياليون” كلهم، يتنافسون على طريق واحد. مع ذلك احتفظت فكرة “العداء للامبريالية” بقدرتها القديمة على الحشد، باستقلال عن شروط عيشها السابق وعن دعاماتها الفكرية، بما يشبه “زومبي إيديولوجي”.
في الثورات والاحتجاجات الشعبية الواسعة التي عرفتها العديد من البلدان العربية منذ مطلع 2011، لم يكن بطش الأنظمة العربية المصنفة غير معادية للامبريالية (تونس، مصر، الأردن) بمستوى بطش الأنظمة المعادية (ليبيا، سورية، اليمن)، ومع ذلك وجد في الداخل وفي الخارج، من يعتبر هذا البطش “المعادي للامبريالية” عملاً بطولياً أو “بطشاً تقدمياً”، أو، في أحسن الأحوال، نتيجة مؤلمة ولكنها لغاية تستحق الألم، لأنها ضريبة ضرورية للوقوف في وجه الامبريالية.
اين يكمن سر التحول القمعي الرهيب في هذه التجارب؟ وما الذي يجعل الناس متمسكين بأسطورة لا تدر عليهم سوى البؤس؟ (نقصد أسطورة “العداء للامبريالية”، نقول أسطورة لأن هذا العداء لا يستطيع أن يتجاوز حدود اللغة، على اعتبار أن آليات السوق الرأسمالية تشد جميع البلدان “بأسلاك فولاذية” إلى المركز الامبريالي، وأن آليات الانفكاك من أسر هذه العلاقة، بالخروج عليها، لم تفلح. واضح أن النجاح الاقتصادي في عالم اليوم لا يكون إلا من داخل السوق الامبريالية ووفق قوانينها وآلياتها الاقتصادية، كما يعرض النموذج الصيني والهندي مثلاً، وليس في الخروج التمردي، أي المحكوم بالفشل، عليها). ما تفسير ظاهرة أجهزة القمع الموازية أي الجماعات التي تقمع الاحتجاجات من خارج أجهزة القمع الرسمية؟ وما الذي يجعل الناس جاهزين للتحول إلى أداة قمع غير رسمية في يد السلطة “المعادية للامبريالية” التي تقمع الناس وتفقرهم وتذلهم؟
مفارقة التجربة النيكاراغوية
دائماً كان للأسئلة السابقة ما يبررها، لكنها تبرز اليوم أكثر مع ما تشهده نيكاراغوا، البلد الذي احتضن تجربة “اشتراكية” مختلفة، كان يعتقد المرؤ أنها يمكن أن تحقق اختراقاً “ديموقراطياً” في سلسلة التجارب الأخرى المحبطة.
في تموز 1979، استطاع الشعب النيكاراغوي أن يطيح بالديكتاتور اناستاسيو سوموزا، بعد نضال طويل قادته الجبهة الساندينية في نيكاراغوا ذات التوجه الماركسي والتي كانت ترى في نظام سوموزا، بحق، استعماراً أمريكياً بالوكالة. بعد انتصارهم، لم يقلد الساندينيون التجارب الشقيقة المعادية للامبريالية. لم تتحول “الشرعية الثورية” إلى سلاح انتقام من حرس النظام القديم ومؤيديه، على سبيل المثال. على العكس من ذلك، قُدّم رجال النظام القديم إلى محاكم ألغيت فيها عقوبة الإعدام، وكان الشعار الذي رفعه وزير الداخلية حينها توماس بورج، وهو أحد مؤسسي الجبهة الساندينية وأحد ضحايا السجن والتعذيب في فترة حكم سوموزا، هو “السخاء الثوري” بدلاً من “العنف الثوري”. وقد دافع بورج عن هذا الشعار في وجه الحشود التي تجمهرت بعد الانتصار مباشرة للانتقام من عناصر النظام القديم.
بدل الانتقام، انهمك الساندينيون في بناء مؤسسات ديموقراطية منذ انتصارهم. وفي 1984 خاضت الجبهة الساندينية، التي كانت قد استولت على الحكم بالكفاح المسلح، وكان يمكنها أن تدعي “شرعية ثورية” مؤبدة على غرار غيرها، انتخابات رئاسية ونيابية مراقبة، فازت فيها، وأصبح دانييل أورتيغا، منسق الجبهة، رئيساً منتخباً يستمد شرعيته من انتخابات نزيهة ومراقبة وليس من قوة الأمر الواقع. ذلك رغم الحرب الداخلية التي ظل يخوضها الساندينيون ضد قوات الكونترا المدعومة أمريكياً والتي كان دعمها جزءاً من فضيحة “إيران غيت” الشهيرة (1985-1987)، في عهد الرئيس الأميريكي رونالد ريغان (1981-1989).
في الانتخابات التالية في 1990 خسرت الجبهة الساندينية الانتخابات، ولكنها مع ذلك، لم تعرقل عملية تسليم السلطة للحلف السياسي المدعوم من أميريكا (اتحاد المعارضة الوطنية UNO) والذي فاز بزعامة فيوليتا تشامورو. أرست الجبهة الساندينية بذلك تقليد التداول السلمي للسلطة، وكانت تمتلك القدرة العسكرية والشعبية على تعطيل المسار الديموقراطي كما فعلت السلطة “المعادية للامبريالية” في الجزائر مثلاً، عقب فوز “جبهة الانقاذ الاسلامية FIS” في الانتخابات التشريعية في أوائل عام 1991. بعد إقصائها عن الحكم بالانتخابات، وعدت الجبهة الساندينية بالعمل على “العمل من الأسفل وفي البرلمان” كما قال أورتيغا في خطاب تسليم السلطة، مؤكداً أن “أهم مساهمة قدمها الساندينيون إلى الشعب النيكاراغوي هو ضمان عملية انتخابية نظيفة تعطي السلام لضمائرنا وتنير الطريق إلى تعزيز الديموقراطية، وإلى اقتصاد مختلط، ونيكاراغوا حرة من أي تدخل خارجي. نفتخر، نحن الساندينيين، بأننا فتحنا طريق جديد من أجل نيكاراغوا، يضاهي الطريق الذي فتحناه في 1979.”
عاد أورتيغا إلى الحكم في 2007 بالانتخابات أيضاً، ولكنه بدأ، هذه المرة، بإجراءات تجميع السلطة في يده فيما يشبه “انقلاب القصر”. على العكس من الميل الديموقراطي الذي أبداه عقب الانتصار على قوات سوموزا، وفي عودة إلى مسار التجارب الشقيقة، حظر أورتيغا الأحزاب المعارضة، وتولى السيطرة الكاملة على الجيش والشرطة والمحكمة العليا ومؤسسات الدولة، وفرض تعديل الدستور بما يسمح بإعادة ترشيح غير محدودة للرئاسة، ثم عين زوجته المعروفة بمزاجها الغريب والتي يلقبونها في نيكاراغوا (لابروجا) أي الساحرة، نائبة للرئيس.
المفارقة أن هذا التحول غير الديموقراطي الذي مارسه أورتيغا الفائز في انتخابات 2006، بعد خسارته ثلاثة انتخابات سابقة (1990، 1996، 2001)، ترافق مع تحول فكري وسياسي ليبرالي يبتعد به عن النموذج الماركسي المستقر الذي يتسم بعدم اعتبار المعايير الديموقراطية. هكذا نرى في التجربة الساندينية حالة معكوسة لما هو مألوف، ذلك أن الميل التسلطي غير الديموقراطي ترافق مع التحول عن الماركسية باتجاه ليبرالي. ليبرالية أكثر في المجال الاجتماعي والاقتصادي يجاوره ميل متزايد للاستبداد السياسي. انفتاح على السوق الرأسمالية وعناصرها الداخلية إلى جانب احتكار للسلطات يرافقه احتكار “للوطنية”. هكذا يكون أورتيغا من صنف الماركسيين الذين تلبرلوا، مع تكشف فشل التجربة الاشتراكية، وهو يعرض اليوم صورة هذا الصنف الليبرالي، الذي بات وافراً حولنا، من موقع صاحب السلطة. يبدو إذن أن أورتيغا الليبرالي أشد تسلطاً وقمعية من أورتيغا الماركسي، رغم أن الفترة الماركسية من حكمه شهدت صراعاً مسلحاً مع جماعات الكونترا التي كانت مدعومة “امبريالياً” بالفعل، الصراع الذي كان له أن يشكل مبرراً سهلاً للقمع وجمع السلطات وإدارة الظهر لكل اعتبار ديموقراطي.
في انتخابات 2006، سار أورتيغا على خطى الفنزويلي هوغو تشافيز والبيروفي ألبيرتو فوجيموري، في خطب ود المجتمع التقليدي (الكنيسة) لكسب الأصوات. قاد أورتيغا حملته الانتخابية بشعار “الرجل الجديد”، للتخلص من صورته العسكرية والماركسية السابقة. ولهذا الغرض ركز على مقولة السلام “أعطوا السلام فرصة”، واجتهد في التقرب من الكنيسة: اعتذر عن القمع الذي ألحقه بالكنيسة في فترة حكمه في الثمانينات، وعقد زواجه في الكنيسة، ووافق على حظر الإجهاض الطبي مهما كانت الظروف، حتى لو كان في استمرار الحمل خطورة على حياة الأم. ثم ردت الكنيسة له الجميل بإقامة قداس لمباركة عودة “الابن الضال” قبل موعد الانتخابات، ما ساهم في فوزه. هذا فضلاً عن انفتاحه على الرأسمال ورجال الأعمال المحليين وموافقته على التجارة الحرة مع الولايات المتحدة عبر الموافقة على اتفاقية التجارة الحرة لأميريكا الوسطى (CAFTA). لكن أورتيغا، مع ذلك، لم يتخل عن سلاح “العداء للامبريالية” الفعال. في الانتخابات التالية لفوزه في 2006، منع أورتيغا المراقبين الدوليين “الامبرياليين” من حضور الانتخابات، قائلاً إن الأجدر بهم أن يراقبوا الانتخابات في بلادهم.
في نيسان/أبريل من العام الحالي (2018)، بدأت موجة احتجاجات شعبية في نيكاراغوا قادها طلاب الجامعات، وكان أشدها في المناطق نفسها التي احتضنت الثورة الساندينية قبل حوالي نصف قرن. رفع الضرائب كان السبب المباشر للاحتجاجات التي طالبت بانتخابات مبكرة. واجه أورتيغا المحتجين بالرصاص الحي مما أدى إلى مقتل مئات وجرح آلاف من المحتجين ونزوح عشرات الآلاف إلى كوستاريكا، فضلاً عن المئات من حالات الاختفاء القسري، هذا التقليد الشائع في ظل ديكتاتوريات اميريكا اللاتينية (غير المعادية للامبريالية). برر أورتيغا قمعه بأن هذه حركات يمينية. أما زوجة الرئيس ونائبته فوصفت المحتجين بأنهم “قلة من الانقلابيين المتآمرين، الأشرار، الأبالسة، الإرهابيين”، وهذا ينطوي بطبيعة الحال على تشريع قتلهم. وفي وجه التنديد الاميريكي والاوروبي بإجراءات أورتيغا، يرفع هذا السلاح القديم الذي لا يصدأ: العداء للامبريالية. يغدو النقد “الامبريالي” للقمع الوحشي الذي تمارسه السلطات “المعادية للامبريالية”، إثباتاً يقول إن المحتجين عملاء، وإن قمعهم ممارسة وطنية.
يكمن هنا ملمح مهم من ملامح هذا النوع من السلطات وهو ميلها إلى اعتبار ذاتها معيار الوطنية والصوابية السياسية بما يمنحها حق التصنيف. لا تحوز السلطة “المعادية للامبريالية” على الحق في إدارة البلد فقط، بل وعلى الحق في تخوين المحتجين وحرقهم سياسياً وتحويلهم إلى لقمة مشروعة لأجهزة القمع. وهذا ينطوي تلقائياً على توظيف جهاز القمع بشكل يتجاوز حدوده القانونية؛ والأخطر من ذلك، أنه ينطوي على ميل دائم إلى تقسيم حاد للمجتمع وزرع بذور حرب أهلية لا تنتهي.
الملمح المميز الآخر هو أن جزءاً من القمع الذي يلحق بالمحتجين، وهو عادة الجزء الأكثر قذارة، يكون على يد قوات موازية غير حكومية مؤيدة للحكومة وبالتنسيق غير المعلن مع قواتها الرسمية. في نيكاراغوا تسمى هذه القوات الموازية “قوات الصدم”، وهي نفسها قوات “الشبيحة” بحسب اللغة السورية، وجود مثل هذه التشكيلات هو التعبير عن الحرب الأهلية الدائمة التي تحافظ السلطات المعادية للامبريالية على إبقائها جاهزة وتحت الطلب. الضحايا في الاحتجاجات الأخيرة في نيكاراغوا، قضوا، بحسب شهادات الأطباء، بإصابات في الرأس. ما يعني أن الرصاص استخدم للقتل وليس لإخافة المتظاهرين وتفريقهم، كما تشير دقة الإصابات إلى استخدام سلاح القنص. تماماً كما شهدت سوريا في بدايات الثورة 2011.
العدو المثالي
تتحول عدوانية الامبريالية وتدخلاتها وميولها التمييزية ونهبها لثروات الشعوب بطرق اقتصادية وغير اقتصادية، إلى مادة مناسبة لتكون مركزاً لإيديولوجيا معاداة الامبريالية. ميزة هذا العداء أنه موجه ضد جهة عدوانية ومستغلة وتستحق العداء بالفعل، فهو عداء مشروع سياسياً وأخلاقياً ومقبول شعبياً، وأن هذه الجهة المعرفة بكلمة (الامبريالية) واسعة النفوذ والتاثير والقدرات بحيث تبدو قادرة على كل شيء، وبحيث يبدو قابلاً للتصديق كل ادعاء تعلنه سلطات العداء للامبريالية. ايديولوجيا العداء للامبريالية إذن تحوز على الشعبية وتستوعب كل الادعاءات والأكاذيب التي يمكن أن تغطي على السياسات القمعية أو الإجرامية للسلطات “المعادية للامبريالية”.
على هذا فإن السلطة التي ترفع راية العداء للامبريالية تضع سلفاً في رصيدها كنزاً لا ينضب، يتمثل في أن هذا العداء “المشروع” يتحول إلى سور يصد عدوان المجتمع ضد السلطة، كلما تحرك المجتمع ضد هذه السلطة. هناك عدو أعلى وأول، لا ينبغي لأي عداء آخر أن يغطي عليه، أو أن يحول دونه. الامبريالية عدو أعلى ينبغي أن يوحد السلطة والشعب، وأي محاولة لزعزعة هذه الوحدة هي في غير صالح العداء التاريخي والأبدي للامبريالية وهي، بالتالي، في خانة الامبريالية ولعبة من ألاعيبها ومؤامراتها وحيلها ..الخ. التناقضات والصراعات بين السلطة والشعب، توجد دائماً وهي قد تكون محقة ومفهومة ..الخ، ولكنها تصبح مرفوضة قطعاً، لا بل تصبح خيانة، حين تشوش على العداء الأعلى للامبريالية. وهذا يقتضي بطبيعة الحال لجم التناقضات وإخراس الصراعات وتأبيد الحال، لكي لا تتسرب الامبريالية وتمرر مؤامراتها. وهذا يعني أيضاً، أن كل تطور في أي مجال في الحياة السياسية أو غيرها هو إنجاز يحسب للسلطة “المعادية للامبريالية” لأنها استطاعت تحقيق هذا الانجاز بالرغم من انشغالها في محاربة الامبريالية الكلية القدرة، ولأنها التفتت، رغم كل شيء، إلى الشعب فبنت مدرسة هنا ومشفى هناك، أو سجنت ناشطين سياسيين “عملاء” بدل أن تعدمهم، أو أفرجت عن معتقلين سياسيين بدل أن تتركهم في السجون إلى الأبد.
هذا ما يفسر قيام جماعة النظام السوري بوضع لوحة على إحدى الطرق العامة في بداية الثورة السورية كتب عليها: “العدو هو إسرائيل”. إسرائيل هي التجسيد الامبريالي الأقرب والأكثر فجاجة وظلماً، إنها العدو الأعلى الذي يجب أن نهمل عداءاتنا المحلية أو الأهلية أمامه كي لا يخف عداؤنا له، أو كي لا ننساه ربما. العدو الحقيقي إذن في الخارج. الضرر الناجم عن العدو الخارجي هو الضرر، أما الأضرار الناجمة عن السلطة الداخلية، حتى لو اعتبرناها “عدو الداخل” (كما يمكن أن يتساهل بالقول أحد المعادين للامبريالية)، فهي أضرار أهلية يجب أن تبقى معالجتها في الحدود الأهلية فلا نخدم “العدو الخارجي”.
في الايديولوجيا السياسية، يصح على الامبريالية، والحال هذه، ما يصح على الشيطان في الايديولوجيا الدينية. إنه عدو دائم إلى يوم الدين، وممثل لكل الشرور الممكنة. وحين يحتل رجال الدين مواقع السلطة السياسية في بلد (إيران مثلاً)، من المفهوم إذن أن تصبح الامبريالية ممثلة بأميريكا هي “الشيطان الأكبر”. على هذا، قد تتخذ المؤامرة الامبريالية على السلطة المعادية لها، شكل قوة سياسية معارضة للسلطة ومعادية للامبريالية أيضاً. فالشيطان يأتي بألف لبوس، لذلك على الشعب أن يكون يقظاً ضد هذه الألاعيب التي تستهدف “السلطة الوطنية”، وأن لا ينخدع بأي قوة تعارض السلطة. ليس من فراغ أن تميل هذه السلطات إلى الأبدية (من المرشد الأعلى الأبدي في إيران، إلى الاشتراكيين وأنصاف الاشتراكيين الأبديين كاسترو وتشافيز وحافظ الأسد وصدام حسين والقذافي، لكي لا نذكر الحكم العائلي في كوريا الشمالية .. ثم إلى أورتيغا الذي عدل الدستور لكي يستمر في الحكم إلى أجل غير محدود، وأخيراً الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي عدل الدستور أيضاً للاحتفاظ برئاسة أبدية لم يعترض عليها سوى نائبين من أصل 2963 نائباً)، لأن الفكرة السياسية للسلطات المعادية للامبريالية، تقوم على ضرورة إهمال التناقضات وكبت الصراعات تحت راية “محاربة الامبريالية”، هذه الراية الفارغة والأبدية في الوقت نفسه، أو قل هذه الراية الأبدية لأنها فارغة.
الممارسات القمعية تحت راية “معاداة الامبريالية” لا تصل إلى حد يجعلها مرفوضة في نظر أصحابها، مهما تمادت في دمويتها ولو وصلت حدود التدمير العام والإبادة، إنها راية تبرير لا نهائي للقمع. ميزة هذا التبرير أنه ينجح دائماً في العثور على قبول لدى قطاع غير قليل من الوسط الشعبي والمثقف، وغالباً ما يكون هذا القبول حماسياً، يشبه الحماس المتعلق بالقضايا المتصلة بعصب الهوية، وهو كذلك لأنه يجري إلباسه لبوس الوطنية. ومما يثير التأمل، أن راية “العداء للامبريالية” تغذي قبولاً شعبياً ومثقفاً بسحق جمهور معارض بتهمة “المؤامرة الامبريالية”، حتى دون أدلة مقنعة، وفي الوقت نفسه تحتفظ السلطة صاحبة الراية إياها، بحرية التعامل على كل المستويات مع “الامبريالية”، دون أن يثير هذا حفيظة الجمهور “المعادي للامبريالية”.
ما أن تتبوأ سلطة ما موقع “العداء للامبريالية” حتى يصبح كل ما تقوم به “وطنياً” ويصب في خانة محاربة الامبريالية، أكان ذلك سحقاً لأصناف المعارضين أو إيداعاً لأموال المسؤولين المحليين المنهوبة “امبريالياً” من الداخل في البنوك الامبريالية، أم تواصلاً في الاقتصاد والسياسة وغيرهما مع “الامبريالية” ..الخ.
في البلدان “المعادية للامبريالية” التي شهدت موجات احتجاج واسعة في السنوات الأخيرة (إيران، ليبيا، سوريا، فنزويلا، نيكاراغوا ..)، تكاد تكون الأحداث وتغطيتها الايديولوجية متطابقة في الأساس، مع تباين التلاوين الثقافية والتاريخية في كل بلد. هذا يقول إن إيديولجيا معاداة الامبريالية مستقلة إلى حد كبير عن الواقع الاقتصادي للبلد ودرجة انفتاحه على السوق العالمية.
انفتاح اقتصادي على العالم وانغلاق سياسي على الداخل
القمع المعمم هو القاسم المشترك لكل النماذج “المعادية للامبريالية”. يخرج النموذج الصيني عن القاسم المشترك الآخر المتمثل في الضعف الاقتصادي. تتمتع الصين، رغم بنيتها السياسية المغلقة، باقتصاد متين يقول عنه الكاتب الأمريكي ستيفن كوتكين في عدد تموز/يوليو – آب/أغسطس 2018 من (فورين أفيرز): “سوف يكون لدى الصين قريباً اقتصاد أكبر بطريقة يعتد بها من اقتصاد الولايات المتحدة. وهي لم تتحول إلى الديمقرطية بعد، ولن تفعل في أي وقت قريب، لأن البناء المؤسسي الشيوعي لا يسمح بالدمقرطة الناجحة. لكن الاستبدادية لم تعنِ الركود، لأن المؤسسات الصينية تمكنت من مزج الجدارة بالفساد، والكفاءة بعدم الكفاءة، واستطاعت بطريقة ما إبقاء البلد ماضياً إلى الأمام والأعلى”[3]. معروف أن ما تعرضه الصين اليوم يأتي بعد أن أخمد النظام الصيني أصداء بيروسترويكا ميخائيل غورباتشيف التي ترددت في الصين، في أواخر العقد التاسع من القرن الماضي، حيث ارتكب الجيش الصيني مجزرة في ساحة تيانن مين، تشير تقارير حديثة أنه سقط فيها حوالي عشرة آلاف من الطلاب المحتجين والمطالبين بالانفتاح السياسي والغلاسنوست على غرار التحول الغورباتشيفي. واللافت في الصين أن هذا النمو الاقتصادي “الليبرالي”، (اقتصاد السوق الاشتراكي، الاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI)، وحقوق الملكية الخاصة ..الخ)، واكبه زيادة النزوع البوليسي للدولة، والمزيد من الاستبداد السياسي (حذف المادة من الدستور التي وضعت في 1982 في عهد الرئيس دينغ سياو بينغ، والتي تقيد مدة الحكم بولايتين رئاسيتين).
يجادل اقتصاديون في أن الصين لا تعرض إصلاحات اشتراكية تعتمد آليات السوق “اقتصاد سوق اشتراكي” بقدر ما تعرض “استعادة رأسمالية كاملة”، تتضمن تراجع التخطيط المركزي لصالح آليات السوق ودوافع الربح، وسيطرة المشاريع الخاصة على مشاريع الدولة، وسيطرة متزايدة للمشاريع والأسواق الأجنبية على المشاريع المحلية، وهذا ينعكس ضرراً على العمال في الصين والمنطقة المحيطة. لكن يبقى أن الصين تمتلك اقتصاداً قوياً منفتحاً على السوق العالمية، إلى جانب بنية سياسية شديدة المركزية بنظام الحزب الواحد، وأن هاتين الحقيقتين متلائمتنان أو متعايشتان حتى الآن.
التباين بين الانفتاح الاقتصادي والانغلاق السياسي كان له مسرح آخر هو سوريا. لم ينعكس مثلاً صدور مرسوم الاستثمار رقم 10 في النصف الأول من عام 1991، الذي يعطي الرأسمال الخارجي امتيازات الرأسمال المحلي نفسها، ولا القانون 28 الصادر في آذار 2001، والذي يسمح بتأسيس مصارف خاصة، تطوراً على شكل علاقة سياسية أكثر انفتاحاً بين السلطة والمجتمع، ولم تشكل قوى السوق “مجتمعاً مدنياً” يلجم تمادي السلطة في السيطرة على المجتمع إلى حدود الاستباحة.
العداء للامبريالية من خارج السلطة
فهم العداء للامبريالية بوصفه عداء خارجياً، أي إلغاء الحضور الامبريالي الداخلي، يضع الشعب والدولة في خانة واحدة ضد “الامبريالية”، الأمر الذي قاد الكثير من الأحزاب والمثقفين إلى مناصرة الطغم الحاكمة التي تتعيش على “العداء للامبريالية”. التعبير البارز عن هذا الفهم يقول، على لسان الحزب الشيوعي السوري (بكداش)، إن السياسات الداخلية للسطات المستبدة “المعادية للامبريالية” تدفع الحزب (“المعادي للامبريالية” بدوره)، إلى المعارضة ولكن السياسة الخارجية لهذه السلطات هي ما يبرر تحالف الحزب معها.
الكثير من الأحزاب “المعادية للامبريالية” دخلت في مدارات الطغم الحاكمة من باب العداء للامبريالية، وأصبحت جزءاً من تكوين هذه السلطات من خارج السلطة أو بالمشاركة التابعة فيها. غير أن قوة الرفض التي تولدها السياسات والممارسات الامبريالية على الشعوب المغلوبة، جعلت الكثير من الأحزاب النضالية المعادية للامبريالية تضطرب في سياساتها تجاه السلطات نفسها التي تعلن العداء للامبريالية.
لم يكن من السهل في الوعي العام التمييز بين العداء النضالي للامبريالية الذي تمارسه هذه الأحزاب وتدفع ثمنه، وبين العداء السلطوي للامبريالية. الأول عداء صادق، بصرف النظر عن قصوره الفكري أو حدوده السياسية، يقاوم ميول السيطرة الامبريالية وآلياتها، فيما الثاني هو عداء فارغ تحول مع الوقت إلى طريقة حكم تتعايش مع الامبريالية أو تندمج فيها فعلياً وتعاديها لغوياً، مع بعض الممارسات السياسية التي تستلزمها لغة العداء، اللغة التي أنتجت في منطقتنا كلمة “الممانعة” ذات الدلالة. إذا كانت المقاومة تنفتح في مشروعها على التحرر، فإن الممانعة فاقدة للمشروع وتنكفئ إلى مستوى الإعاقة الضرورية، أو الإعاقة التي تسهل الآليات الامبريالية أكثر من المجاراة ومن القبول التلقائي الذي يمكن أن يستفز مشاعر العداء الشعبي ويعيق حينها فعلاً تلك الآليات.
العداء النضالي للامبريالية يصدر عن فئات مناضلة على قناعة بضرورة وجدوى معاداة الامبريالية، وعلى استعداد لتحمل تبعات نضالها، فهي إذن فئات ذات مشروع وتطلع تحرري تتحمل ضريبته النضالية. أما العداء السلطوي للامبريالية فهو يصدر عن سلطات مشروعها الوحيد هو الاستمرار في حكم تسلطي وفاسد، ويشكل “العداء للامبريالية” آلة من آليات هذا الاستمرار. لذلك يتموج هذا العداء مع تموج دوره في سياق سعي هذه السلطات للاستمرار الأبدي.
يمكن النظر إلى علاقة حزب الله مع إسرائيل على أنها نموذج عن العلاقة بين السلطات المعادية للامبريالية والامبريالية. العلاقة العدائية الصادقة التي حققت نتائج تحررية فعلية (إرغام اسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان في عام 2000)، انتهت إلى شكل من التعايش السلطوي بين الطرفين، سلطة الاحتلال مقابل سلطة حزب الله. في هذا التعايش يشكل الاحتلال الاسرائيلي، في الواقع، مبرر وجود الحزب، وفي الوقت نفسه يشكل وجود “سلطة الحزب” واقعاً مريحاً للاحتلال من حيث أن هذه السلطة استولت على “المقاومة”، بالقوة المعنوية لانجازها النضالي، ثم بقوة السلاح والسلطة فيما بعد، وباتت هذه “المقاومة” سلطة تقف في وجه أي مقاومة شعبية ممكنة. احتكر الحزب العداء لاسرائيل، وهكذا لم يعد ممكناً لهذا العداء أن ينجب مقاومة أخرى. على هذا أصبح الحزب مصدر اطمئنان لاسرائيل بقدر ما هو مصدر خطر. كما أن إسرائيل هي، في الواقع، مصدر شرعية للحزب بقدر ما يمكن أن تكون مصدر خطر عليه. علاقة التعايش هذه التي توضعت على الأرض واستقرت جيداً بعد حرب تموز 2006، تشكل صورة للعلاقة بين الامبريالية والسلطات “المعادية للامبريالية”. مع فارق أن هذه السلطات لا تشكل خطراً على الامبريالية، وينتهي دورها في الواقع إلى حماية الامبريالية باسم العداء للامبريالية.
احتكار العداء للامبريالية من قبل سلطات متعايشة مع الامبريالية وتمتلك وسائل قمع رهيبة، يمنع هذا المولد الهائل للتمرد، أقصد العداء للامبريالية، من إنتاج حركات شعبية مضادة فعلاً للامبريالية ولآثارها المدمرة على الشعوب. ما يعرضه علينا الواقع من مسارات يقول إن تحول الحركات السياسية الشعبية أو العسكرية المعادية للامبريالية إلى سلطة، هو في الوقت نفسه تحولها إلى حركات في خدمة الامبريالية تحت يافطة معاداتها. الدرس الذي ينبغي استيعابه، أن العداء للامبريالية أو إن النضال التحرري في العموم هو نضال شعبي غير سلطوي، هو نضال من خارج السلطة، أكانت هذه السلطة تسيطر على دولة أم على حزب.
الخلاصة
لا يبدو في عصرنا أن الانفتاح الاقتصادي يستتبع انفتاحاً سياسياً، وأن تحرير الاقتصاد يستتبع تحرير السياسة، هذا ما جعل ممكناً لظاهرة السلطات المعادية للامبريالية أن تستمر بعد زوال نموذجها المركزي. وهذا ما أتاح لأيتام الاتحاد السوفييتي أن يجمعوا بين ضرورة الدخول في السوق العالمية “الامبريالية” وبين الحفاظ الأبدي على السلطة والحفاظ على اللغة المعادية للامبريالية في آن واحد.
ظاهرة السلطات المعادية للامبريالية تنسخ نفسها على أحزاب سياسية خارج السلطة أيضاً، بعض هذه الأحزاب يقوده “العداء للامبريالية” للتحالف المباشر أو الموضوعي مع الطغم الحاكمة بدعوى معاداة هذه الطغم للامبريالية، وبذلك تصبح تلك الأحزاب جزءاً من “النظام” المتعايش مع الامبريالية.
العداء للامبريالية سلعة ايديولوجية تبقى رائجة وتحتفظ بسوق داخلية جاهزة لاستقبالها دائماً، وتستفيد منها السلطات التي يسمح لها تاريخها السياسي بإنتاج هذه السلعة، مهما كان هذا التاريخ هزيلاً (علاقة سابقة مع الاتحاد السوفييتي، وراثة حرب تحرير وطنية، انقلاب ذو خطاب وطني ..الخ). وينشط إنتاج هذه السلعة وتسويقها بشكل خاص في الأزمات السياسية التي تلم بالسلطة المعنية.
كشف الواقع أن تغيير السلطات “المعادية للامبريالية” من أصعب المهام التي تواجه المجتمعات المبتلاة بها، نظراً لاجتماع ثلاثة عناصر: الأول، سيطرة هذه السلطات بشكل لا فكاك منه على جهاز الدولة واستخدام كل المقدرات المادية والرمزية لهذا الجهاز ضد المجتمع بغاية الاستمرار الأبدي، الثاني، توفر الايديولوجيا الجاهزة دائماً لتغطية أبشع أنواع القمع حين تواجه هذه السلطات احتجاجات شعبية تتحدى سلطتها وتطالب بتغييرها، الثالث، الإمكانية المتاحة لهذه السلطات بدخول السوق العالمية مع الحفاظ على أبدية السلطة، وهذا يجعل “الامبريالية” غير معنية فعلاً بالخلاص من هذه السلطات، وقد يبدو لها أن استمرارها الاستبدادي أفضل كوسيلة لكبت الصراعات المحلية التي يغذيها الفقر والعلاقات الاقتصادية غير المتكافئة التي تشكل سمة امبريالية أصيلة.
هذا على عكس التحليل الذي برز بعد نهاية الحرب الباردة، والذي ذهب إلى أن “الامبريالية” سوف تشجع القوى الديموقراطية في العالم الثالث، بعد أن تلاشى “الخطر الشيوعي”، لكي تصبح القوى المؤثرة في هذه المجتمعات مرئية ويصبح تطور الصراع فيها قابلاً للتنبؤ، لتفادي ما سماه محللون أمريكيون “العامل الخفي” الذي كان وراء الثورة الإسلامية المفاجئة في إيران.
الأفكار الكبرى خدمت في غالب الأحيان كستار للاضطهاد وسلب الناس حقوقهم، ولاسيما حين ترى السلطات في نفسها وصياً على الشعب ووكيلة عن الأفكار الكبرى. تلبية الحاجات المباشرة للناس وصون كرامتهم هي المقياس في أي مشروع سياسي. وينبغي أن يكون استفتاء الناس الحر والواعي خطوة ضرورية لأي خطوة سياسية أو اقتصادية خارج هذا المبدأ، مع حماية حق الناس في التعبير عن رفض هذه الخطوة حين يظهر فشلها أو حين تتحول إلى وسيلة سيطرة على الناس تحت أي يافطة كانت.
[1] “The Rule Of Violence: Subjectivity, Memory and Government In Syria”. Salwa Ismail. Cambridge University Press. 2018.