راتب شعبو/ كاتب

“إعلان الوطنية السورية” بين الوطنية والقومية

نُشرت بتاريخ 27/06/2020 على موقع العربي الجديد
صدرت في الأيام الأخيرة وثيقة “إعلان الوطنية السورية” بتوقيع عدد لا بأس به من السوريين. تغلّب الوثيقة، كما يشير عنوانها، “الوطنية” على القومية. فيما يلي سنتناول فهمنا لمعنى هذا التغليب وقيمته السياسية. لدينا في سورية، كما في كثير من “الدول الوطنية”، مشكلة مستعصية على الحل ناجمة عن التعارض بين النزوع الوطني، الذي يعني تغليب الانتماء إلى البلد الفعلي (سورية الحالية) الذي لم يختر حدوده أصلاً، وبينالنزوع القومي الذي يعني ميل أبناء القوميات في البلد إلى التمتع بحقوق قومية كاملة ومن ضمنها تكوين دولتهم القومية. لا يوجد حل نهائي لهذه المشكلة. هناك خياران سياسيان متعارضان، لكل خيار وجاهته الخاصة، وينشأ تعارضهما من التعارض الدائم بين القبول والتأقلم مع الإطار الحالي بوصفه الإطار “الوطني” النهائي، وبين التطلع والعمل لإنجاز وحدة قومية أو كيان قومي. هناك منظوران: بين جعل مركز التفكير داخلياً ويُنظر إلى الخارج من خلاله، أو جعل الخارج مركزاً وموجهاً للنظر إلى الداخل والعمل فيه.
سوف يبقى هذا التعارض إشكالياً أي مصدراً لإنتاج المشاكل، ولا مجال للخروج النهائي من هذا التعارض. إذا تناولنا سورية كوطن نهائي لأبنائه، كما تذهب وثيقة إعلان الوطنية السورية، كيف ننكر على الكرد في سورية تطلعهم إلى تحقيق حلم الدولة القومية المجهض؟ وكيف ننكر على العرب السوريين ذلك أيضاً؟ لا يبدو لنا أن نبش التاريخ يقدم حلاً للمشكلة، كما لا تحلها التنظيرات الإنكارية مثل تلك التي ترى في الكرد السوريين قوماً وليس قومية، كمقدمة نظرية لإنكار الحقوق القومية الكردية في سورية. ولكن بالمقابل، كيف ننكر على السوريين من غير الكرد رفضهم تحويل “وطنهم” إلى منطلق لصراعات “قومية كردية” تتجاوز حدودهم وتثقل على وطنهم؟ وبالدرجة نفسها كيف ننكر على الكرد أن يروا في ما يستجره الانشغال السوري بالقضية الفلسطينية أمراً “قومياً عربياً” لا يعنيهم؟
بين حقوق قومية مقرة دولياً (حق تقرير المصير) وممنوعة دولياً بالدرجة نفسها (الاعتراف الدولي بالحدود السياسي للدول الأعضاء ورفض تغييرها بالقوة)، تطرح القضايا القومية في سورية (بشكل أساسي بين الكرد والعرب) مشاكل مستعصية.
حين يتوفر في البلد المتعدد القوميات توافق بين التوزع السكاني والتوزع الجغرافي، يمكن التخفيف من التعارض المذكور من خلال إيجاد كيانات قومية داخل “الوطن”، أي كيانات حكم ذاتي بدرجات مختلفة تندرج في الحكومة المركزية. التداخل السكاني في سورية يعيق هذا الحل أو يجعله منطلقاً لإشكالات جديدة.
هناك من سوف يعترض على اعتبار سورية بلد متعدد القوميات مؤكداً على عروبة البلد، لكن ماذا عن السوريين غير العرب؟ كيف يمكن حل إلحاقهم بقومية ليست قوميتهم؟ بكلام آخر: كيف يمكن بناء رابطة وطنية فعلية ومتينة بين السوريين إذا كان سيتم إلحاق الوطنية السورية بقومية أكانت قومية أغلبية أو أقلية؟
طوال تاريخ سورية كانت “وطنية” الدولة محل خلاف وتنازع. الحزب القومي العربي الذي حكم سورية منذ 1963، اجتهد في سحق التطلع القومي للكرد السوريين، وفي فعله هذا كان يسحق “الوطنية السورية” أيضاً وبنفس القدر. لم تكن الأنظمة السياسية السورية السابقة أكثر “ديموقراطية” مع حقوق الكرد، لذلك كان هناك على الدوام اعتلال وطني في سورية مرافق للاعتلال القومي، ويمكن القول إن مصدر الاعتلالين هو انشغال السلطة السياسية دائماً في ترسيخ “أبديتها” على حساب كل المبادئ الأخرى، أكانت قومية أو وطنية. على هذا، من المفهوم أن يجد أصحاب التطلعين الوطني والقومي نفسهم في مواجهة الاستبداد.
اليوم تمر سورية بأكثر مراحلها الوطنية ضعفاً، في ظل الاحتلالات وخطوات التقسيم الصريحة والتشتت السياسي ..الخ. ضمن هذه المعطيات صدرت وثيقة إعلان الوطنية السورية ولاقت قبول من عدد غير قليل من السوريين.
الإعلان يحدد خياراً أمام السوريين، هو خيار تغليب الوطنية السورية على النزوعات القومية. لا شك أن في هذا نوع من القسر الذي لا مهرب منه، ولكنه من وجهة نظر الوثيقة هو الخيار الأنسب لسورية بوصفها “بيتاً” للجميع. هذا لا يعني أن ما جاء به الإعلان يعكس حقائق “علمية”، فالسياسة خيارات، والإعلان يحدد خيار سياسي استراتيجي لسورية يحافظ على وحدة سورية وينطوي حكماً، بالتالي، على منع حق الإنفصال.
من المفهوم أن يكون هناك خيار آخر يتضمن خيار الإنفصال بوصفه أحد الحقوق القومية المعترف بها عالمياً. هذا الخيار له وجاهته من منظور يعلي شأن القومية على الوطنية. ومن المقهوم أن يكون للعروبي السوري خيار يميل إلى العمل الوحدوي العربي، وكذا الحال فيما يخص الكرد، أو أن يكون للإسلامي السوري خيار لا يتقبل فكرة “الدولة الوطنية”. دائماً كان في سورية مجال لوجود هذه الخيارات. يرى إعلان الوطنية السورية إلى نفسه على أنه الخيار الذي قد يلائم الجميع، من حيث احتواء التنوع ضمن الكيان الواحد، دون تغليب لون محدد من الألوان على الجامع الوطني، الذي يتسع ويحتفي، في الوقت نفسه، ببروز كل الألوان.
يمكن أن يثار نقاش حول السؤال: ومن قال إن الكرد يريدون الانفصال حتى يجري وضع خيارهم القومي في مواجهة الوطنية السورية؟ إذا كان الكرد لا يريدون الانفصال، وهم فعلا لا يرفعون هذا المطلب، فإنهم يطالبون بحقوق قومية منقوصة، وهذا لا يتعارض مع الإعلان. لكن المشكلة هي أن حق الانفصال يبقى، بشكل طبيعي، في وجدان الكرد، أو نسبة مهمة منهم على الأقل، كما أن في وجدانهم تشكيل دولة قومية لى أرض كردستان التاريخية. كما يبقى في وجدان السوريين العرب تطلع لا يموت إلى بناء الوحدة العربية. هذا أمر مفهوم بلا شك، ولكن وضعه ضمن استراتيجية سورية يفت في عضد الوطنية السورية. هذا يعني أن الوطينة السورية القابلة للحياة لا تستجيب لهذه النوازع وتنطوي بالتالي على إحباط أو قسر في وجه الخيارات البعيدة الأخرى.
هل يمكن تخفيف هذا القسر بأن يسمح لأصحاب النوازع القومية (أي من يغلبون نزوعهم القومي على الانتماء الوطني) بممارسة نشاطهم السياسي؟ بمعنى أن لا يتضمن الدستور منع النشاط السياسي الذي يتجاوز في أهدافه الوطنية السورية؟
في كل حال، ينبغي أن يكون في البال أنه لا يوجد في سورية حل نهائي للتعارض بين القومي والوطني، وأن الأمر هو خيار سياسي، وأن انتهاج خيار يعني مصادرة الخيارات الأخرى، ولكن المصادرة تتم هذه المرة بوعي وإرادة تحتاج إلى أغلبية وازنة من السوريين، أو إلى خيار جمعية تأسيسية منتخبة.
رغم أن الواقع السياسي الناجم عن صراع قوى خارجية هو ما رسم حدود سورية الواقعية، ورغم أن تجاوز هذا الواقع، تجاوباً مع تطلعات قومية أكانت عربية أو كردية، ليس في المتناول القريب ولا البعيد ربما، فإن الوطنية السورية هي الابتكار السوري الممكن. ابتكار رابطة وطنية واعية وديموقراطية تتوافق مع الواقع “المفروض”، يتفتح فيها القومي بالقدر الذي تسمح به الرابطة الوطنية، قد يشكل مخرجاً مقبولاً من التعارض بين القومي والوطني، وهو التعارض الذي يعيش في أحشاء سورية مثل ألم لا يهدأ إلا لكي يشتد.
Archives
December 2024
M T W T F S S
« Jul    
 1
2345678
9101112131415
16171819202122
23242526272829
3031