راتب شعبو/ كاتب

لكم أحلامكم ولنا الواقع

نُشرت بتاريخ 06/07/2020 على موقع الاتحاد بريس
يبدو جلياً أن ما منع شريعة الغاب التي انتهجها نظام الأسد، منذ تسع سنوات ونصف، من أن تحقق ذاتها على نحو كامل في سورية، فيتوج “الأسد” ملكاً للغابة، هي شريعة غاب أخرى أعلى شأناً ونفوذاً يتربع على عرشها قوة عظمى تسمى أميريكا، جعلت عرش الأسد، بعد كل “الانتصارات”، صفيحاً ساخناً.
ليس أدل على خروج السوريين من دائرة التأثير في تقرير مصير بلدهم، من الوجود المباشر للدولتين الأعظم عالمياً علىأراضيها. هذا يقول إن بلدنا بات ساحة صراع عالمي مباشر، وإن مصيره بات مرهوناً بعملية مركبة من الصراع والتوافق بين أكبر قوتين عسكريتين في العالم. لا يمكننا أن نعلم ماذا يجري في الخفاء من ترتيبات أو توافقات بين هاتين القوتين، غير أن ما يظهره المشهد على نحو متسق يشير إلى الجهة التي يسير نحوها “الحل السياسي” في سورية، والتي يمكن صوغها بعبارة واحدة هي صيانة الاستبداد وترسيم تفكك البلد.
إذا كان السوريون قد خرجوا في مطلع 2011 بهدف تفكيك الاستبداد، فإن التفكك السوري الذي يتحقق بصورة متسارعة اليوم لا يطال الاستبداد بل البلاد. المفارقة السورية تقول إن الاستبداد الذي كان السبب العميق لثورة السوريين، والذي كان الدريئة الأساسية المستهدفة ومحط الرفض الأول في اللغة السياسية، بقي على طول الخط العنصر الأكثر ثباتاً في اللوحة السورية. لا يخفى على المراقب أن من ثبت في ساحة الصراع السوري المديد والمعقد، هم المستبدون في أي طرف كانوا، حتى تحول الصراع في الواقع إلى صراع مستبدين استأثر كل منهم، بعد سنوات صراع مريرة، بقطعة من البلد. وقد قامت الهدنة العسكرية النسبية بين المستبدين على هذا الاقتطاع، أو على هذا التفاصل الجغرافي الذي من المتوقع أن يعطيه الحل السياسي الذي يجري إعداده، شكلاً رسمياً. بجملة مكثفة يمكننا القول إننا نشهد اليوم في سورية تفكيكاً للبلاد وتوزيعاً للاستبداد.
الوجود الأميريكي في سورية طاغ، على خلاف وجود القوى الفاعلة الأخرى بما فيها روسيا. أميريكا حاضرة بالوجود العسكري المباشر، وبات لها حضور مباشر آخر عبر قانون قيصر، وهي لذلك فاعلة بصورة مباشرة ليس في مناطق تواجدها العسكري فقط، بل وفي مناطق تواجد الروس أيضاً. هذا يعطي وزناً كبيراً للرسالة الأميريكية التي لم تتغير بتغير فصول الصراع السوري ولا بتغير الإدارات الأميريكية الحاكمة، والتي يكررها قانون قيصر بكل وضوح، الرسالة الأميريكية تقول للاسد لا نرفضك ولا نرضاك. وفي الوقت الذي تسعى فيه روسيا إلى حل هذا اللغز الأميريكي السهل الممتنع، بعد أن توهمت، مع محميها السوري، أنها أدركت النصر، تجري عملية بلورة للوضع السياسي والعسكري المستجد في شمال سورية شرقاً وغرباً. كما يبدو أن الجنوب السوري يبحث أيضاً، وبرعاية روسية لا يستبعد أن يكون لإسرائيل يد فيها، عن كيانية سياسية أكثر استقلالاً عن دمشق.
نشهد اليوم في سورية المستعمرة سير حثيث باتجاه تبلور هياكل سلطوية صلبة تحكم كل منها بقعة من البلد بحماية مستعمر ما. هذا الواقع نقل محور الصراع، كما لو من وراء ظهر الديموقراطيين السوريين، من كونه صراعاً بين خيار الاستبداد وخيار الديموقراطية إلى كونه صراعاً بين استبدادات. واكب هذا التحول الخطير تبريرٌ ديموقراطي مبتذل يقول إن انتصار هذا الاستبداد على ذاك (يتضمن الأمر بطبيعة الحال قبول استبداد معين وقبول المستعمر الذي يسانده) إنما يحسن شروط النضال الديموقراطي.
لا يستبعد أن تقوم بين هذه الهياكل الاستبدادية الصلبة علاقة ديموقراطية تفرضها محدودية قدرة كل منها على الآخر، سواء بفعل قواها الذاتية أو بفعل الحمايات الخارجية. الأمر الذي يعطي صيغة شبيهة بالصيغة الديموقراطية اللبنانية مع فارق، ليس بالضرورة في صالح الصيغة السورية، وهو أنها تنطوي على تفاصل جغرافي بين الاستبدادات المحمية.
في المحصلة سوف نجد أن علاقة الفرد بالسلطة الحاكمة لم تتغير، وأنها واحدة في كل مناطق الاستبداد، الجديد منها والقديم، وأن مبدأ قيام نظام ديموقراطي يجعل من الأفراد مواطنين ويحول إرادتهم إلى سلطة سياسية تقود الدولة، لا وجود له في المشهد السوري الذي يعج بالنشاطات الهادفة إلى تصليب الاستبدادات المستجدة، قبل ترسيمها، مع محاولات إعادة تأهيل الاستبداد الأم (نظام الأسد) بعملية شكلية قد تتضمن تغيير الرأس. وليس بعيداً ذلك اليوم الذي يقف فيه أرباب “الصيغة السورية” معاً كي يقولوا للسوريين الذين حلموا بكنس الاستبداد وقدموا كل شيء في سبيل حلمهم: لكم أحلامكم ولنا الواقع.
Archives
December 2024
M T W T F S S
« Jul    
 1
2345678
9101112131415
16171819202122
23242526272829
3031