راتب شعبو/ كاتب

قانون قيصر، تشاؤون وتشاء أميريكا!

نُشرت بتاريخ 18/06/2020 على موقع العربي الجديد
يحتدم النقاش بين السوريين اليوم حيال القانون الأميريكي المسمى (قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين لعام 2019). يبدو للوهلة الأولى، أنه من الممكن تنظيم النقاش حول القانون المذكور في صفوف المعارضين لنظام الأسد، من خلال السؤال: هل يساعد قانون قيصر في تخليص سورية من نظام الأسد، أي هل يقود إلى حل سياسي يفك عقدة الاستبداد ويرسي آلية مضطردة وسلمية لإنتاج ونزع الشرعية السياسية؟ غير أن
القليل من التمعن يكشف لنا أن تنظيم النقاش حول هذا السؤال غير ممكن لأنه يغفل حقيقة أن المعارضين لنظام الأسد اليوم لا يحملون معنى مشتركاً لمفهوم “الحل السياسي” في سورية، فضلاً عن أن “المعارض” الخارجي الأساس للنظام، نقصد بذلك البلد الذي أصدر القانون والذي له القدرة على تنفيذه، له نظرته الخاصة أيضاً لمعنى الحل السياسي في سورية، وهي نظرة مستقلة إلى حد بعيد عما يريده المعارضون السوريون.
النظرة الأميريكية للحل السياسي في سورية لا تتضمن تغيير نظام الأسد، بقدر ما يعني ذلك تغيير العلاقة بين الحاكم والمحكوم وترسيخ معايير ديموقراطية في إدارة البلد. لا يتضح هذا فقط من تصريحات المسؤول الأمريكي المعني (جيمس جيفري)، بل من نص قانون قيصر الذي يدخل في تناقض مع نفسه جراء ذلك، فهو يطالب، في البند السابع من الفقرة 301، “الحكومة السورية” (التعبير الرسمي للدلالة على النظام السوري) بمعاقبة مجرمي “النظام السوري”: “قيام الحكومة السورية باتخاذ خطوات قابلة للتحقق لإجراء محاسبة هادفة لمرتكبي جرائم الحرب في سورية ولإنصاف ضحايا جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد، ويشمل ذلك المشاركة في تقديم الوثائق المستقلة والموثوقة وكذلك في عملية المصالحة”.
إذا تأملنا اللوحة السورية حيال القانون المذكور، سنجد أن لدينا مجموعات سياسية معارضة مختلفة الغايات، لا يوحدها السعي لإسقاط نظام الأسد، ولا يقل عداؤها المتبادل عن عدائها للنظام، وقد يزيد. ومن هذه المجموعات من يعادي الديموقراطية أكثر من عدائه للنظام. كل من هذه المجموعات تتصور أن قانون قيصر هو وسيلة لتحقيق غايتها، وفي الوقت نفسه لا تمتلك أي منها أدنى قدرة على التحكم بهذا القانون، إن كان من حيث فرضه أو تجميده أو تجييره لصالح النهاية السياسية التي تريدها. الأمر الذي يجعل من النقاش السوري حول القانون مشهداً في العبث.
لنفترض أن المعارضين السوريين من أنصار الحل الإسلامي، علموا أن قانون قيصر أداة لإزاحة الأسد وفرض نظام ديموقراطي بمعايير غربية، فإنهم سيقفون ضده دون تردد. ولو علم أنصار الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية، أن الحل السياسي الذي يراد فرضه عبر هذا القانون، ينتهي إلى تفكيك الإدارة الذاتية لرفضوه، ولو علم المعارضون الديموقراطيون لنظام الأسد أن الحل السياسي الذي يتوسل قانون قيصر لا يزيد شيئاً عن بقاء نظام الأسد ولكن بدون إيران، أو بوجود أقل لإيران، لعارضوه. قانون قيصر ليس سوى وسيلة ضغط عامة لا يتضمن بوضوح الوجهة السياسية التي يدفع باتجاهها. فهو يجيز للرئيس أن يعلق العقوبات كلياً أو جزئياً إذا رأى أن هناك معايير قد تم استيفاؤها. وهذه المعايير (على أهميتها) هي معايير جزئية ولا تنطوي على أي اتجاه لتغيير سياسي ديموقراطي. لا يوجد أي ذكر لبيان جنيف أو لقرارات مجلس الأمن التي تفرض الانتقال السياسي في سورية.
على هذا فإن السؤال الوحيد الذي يمكن أن يفيد النقاش حول القانون المذكور هو ماذا تريد منه أميريكا صاحبة القانون والقادرة على تنفيذه وتجميده والتي تحشو القانون بعبارة “الأمن الوطني للولايات المتحدة”؟ أو، بكلام آخر، ما هو مفهوم أميريكا للحل السياسي في سورية؟
لا خلاف على أن قانون قيصر هو وسيلة ضغط على نظام الأسد وحلفائه، ولكن لأي غاية؟ هل للغايات “الجميلة” المذكورة فيه، والتي من الواضح أنها تعكس واقعاً ميدانياً تغيرت معالمه اليوم: عدم قصف المدنيين، فك العزلة عن المناطق المحاصرة (ما هي المناطق المقصودة بعد دخول النظام إلى الغوطة الشرقية؟)، إطلاق سراح السجناء السياسيين، عدم استهداف المرافق الطبية والمدارس والأماكن السكنية (بعد أن ضرب من ضرب وهرب من هرب؟)، محاسبة مجرمي الحرب (من سيحاسبهم؟) عودة المهجرين؟ أم لغاية أخرى لا علاقة لها بكل هذه الغايات؟ لا يشك أحد أن فرض هذه البنود التي تلامس قلب غالبية السوريين، لا يحتاج إلى سن قانون تطلب سنوات من الجهود والمحاولات المتكررة. لم يحتج إخراج القوات السورية من لبنان سوى إلى كلام أميريكي واضح وحازم، جعل القوات السورية تخرج قبل نهاية الموعد المحدد لخروجها، كما يذكر الجميع.
الخراب الإقصادي السوري ناجم عن سنوات من الفساد وغلبة ذهنية الطغمة المالية والعسكرية والسياسية على ذهنية الدولة، وقد تفاقم هذا الخراب مع تجيير نظام الأسد كل مقدرات البلاد والدولة لمنع التغيير السياسي الذي أراده السوريون، حتى أوصل أكثر من 80% من السوريين إلى ما تحت خط الفقر، وفق تقديرات الأمم المتحدة. الحصار الذي سيفرضه قانون قيصر سيضيف المزيد من البؤس إلى بؤس السوريين في الداخل، في الوقت الذي يعاني فيه السوريون من تشتت سياسي كبير على الضفة المعارضة للنظام. الشيء الذي سوف يعيق تحول التدهور الاقتصادي إلى رافعة للتغيير السياسي. ومن المتوقع أن يحاول النظام السوري الاستثمار في الألم الإضافي الذي سيتكبده السوريون في الداخل، ليحمل الضغوط الخارجية سبب تجويع السوريين وبؤسهم، في مسعى لجعل البعد الإنساني يتقدم ليغطي البعد السياسي للقضية السورية.
الراجح أن الضغط الذي يشكله قانون قيصر سيكون بوابة الدخول إلى “الحل السياسي” الأميريكي، وهو ترسيم الوضع السياسي القائم، أي فرضه على الحلف الثلاثي (روسيا وإيران والأسد). ثلاث مناطق نفوذ (الجزيرة تحت سيطرة كردية أميريكية، إدلب تحت سيطرة إسلامية تركية، دمشق تحت سيطرة أسدية روسية)، ربما مع إدخال تعديلات شكلية في نظام الأسد تستوعب وجود منطقتين سوريتين بوضع خاص. وسوف يتضمن هذا “الحل”، إذا صح، “عقلنة” دور إيران وتحجيم وجودها في سورية.
Archives
April 2024
M T W T F S S
« Jul    
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
2930