راتب شعبو/ كاتب

بين السلطتين الأبدية والشمولية

نُشرت بتاريخ 02/11/2018 على موقع العربي الجديد
السلطة السياسية التي تغلق كل سبيل إلى تغييرها إلا سبيل العنف، والتي تستخدم كل قدرات جهاز الدولة لكي تؤبد سلطتها رغماً عن المجتمع، أي تبدّي ديمومتها على مصلحة المجتمع، فتجعل إدارتها للشؤون الحياتية والحيوية للمجتمع وسيلة لتأبيد سيطرتها على المجتمع، دون خدمة فعلية لأي مشروع وطني عام، هي ما أسميه
“السلطة الأبدية” كمقابل للسلطة التداولية. لا يتوقف مفهوم “السلطة الأبدية” على مدة استمرارها في الحكم أو على قدرتها على الاستمرار في الحكم، وهي عادة تستمر طويلاً ما أن تتمكن من الاستيلاء على جهاز الدولة والسيطرة بواسطته على المجتمع.
المعيار في “السلطة الأبدية” هو المبدأ الذي يجعل السلطة غاية ذاتها، وليست وسيلة لمشروع وطني أو اجتماعي عام يمكن أن تستمد من نجاحه مشروعية عامة. كل الهزائم الوطنية وكل التدهور المعاشي والضعف الاقتصادي، لا يشكل في المنظور “الأبدي” نقصاً في شرعية السلطة الأبدية، أو استعداداً لقبول النقد أو الشراكة. على هذا، ينبغي تمييز “السلطة الأبدية” عن “السلطة الشمولية”، فهذه الأخيرة تندب نفسها لتحقيق مشروع تاريخي (اشتراكية، تحرير، وحدة قومية ..) تتصور نفسها مندوبته. السلطة الشمولية صاحبة المشروع العام، تشرّع لنفسها استخدام القمع والعنف كوسيلة للحفاظ على السلطة، بناء على ما تتصوره من دور طليعي لها في قيادة المجتمع وإخراجه من حال التخلف أو الاحتلال أو الظلم، إلى حال التقدم والسيادة، الأمر الذي يجعلها وصية على المجتمع من موقع يزعم لنفسه المعرفة بمصلحة المجتمع، أي وصاية معرفة أو ريادة، بحسب وعي أصحاب السلطة لذاتهم. هنا تكون السلطة وسيلة لمشروع يراه أصحابه تحررياً أو تطويرياً، وترى فيه السلطة مشروعيتها و”مشروعية” استبدادها وبطشها بالآخرين الذين يعيقون المشروع عن جهل أو عن “عمالة”، بحسب تصورات السلطة الشمولية. هذه السلطات ترى أنها تقمع المجتمع لمصلحة عليا للمجتمع نفسه، (وهو نهج أمني سياسي مدان أخلاقياً وسياسياً). المثال البارز عن هذا النوع من السلطات شكلته السلطة السوفييتية.
أما “السلطة الأبدية” فإنها تتشبه بالسلطات الشمولية من حيث تبنيها “مشروعية” البطش بالمختلفين السياسيين، كما أنها تتبنى الوصاية الريادية، ولكن عن وعي تام لدى أصحاب “السلطة الأبدية” بأن هذا التبني هو مجرد وسيلة للاستمرار في الحكم وتأبيده، باستقلال عن أي مشروع عام. الفارق الذي أريد إظهاره بين السلطة الشمولية والسلطة الأبدية هو أن الأولى تضع الأولوية للمشروع الذي تتبناه وتجد مشروعيتها، بما في ذلك مشروعية ممارساتها القمعية الرهيبة، في تحقيقه، فيما تضع الثانية السلطة أولاً، وعليه فإن السلطة الأبدية تستمد شرعيتها من قوتها أساساً، ويستمد أي شيء آخر “مشروعيته” من مدى خدمته للسلطة ووظيفته في ضمان استمراريتها. لهذا التمييز أهمية قصوى، يتكلم عنها بفصاحة الفارق بين سقوط النظام السوفييتي ونجاح الثورات الملونة في أوروبا الشرقية من جهة، وبين الثورات العربية التي تحولت إلى كوارث من جهة أخرى.
تسعى “السلطة الأبدية” إلى أن تقتل في المجتمع أي إمكانية لتغيير السلطة. مع هذا النوع من السلطات نكون أمام وصاية يدرك أربابها أنها، في الأساس، وصاية قوة وغلبة، وإن كانت ترتدي لباس الشعارات الريادية والتقدمية. الازداوجية هذه بين حقيقة إدراك أهل السلطة لموقعهم ودورهم، وبين ما يصدرونه إلى الناس، هي من سمات هذه السلطات. ويكتسب هذا الانفصام بين الحقيقة التي يدركها جيداً أهل السلطة، وبين اللغة أو الصورة التي يصدرونها للعموم، بعداً مؤسساتياً في هذه السلطة، فتكون أجهزة الأمن هي الممثل الحقيقي للسلطة الأبدية كما تعي ذاتها، أي بوصفها “استعمار” للدولة، وهي غاية ذاتها، ووسيلة سيطرة وصيانة امتيازات منفلتة من القيود، او بكلمة: وسيلة حكم أبدي. فيما تتولى مؤسسات الإعلام والحزب الحاكم ..الخ، مهمة تمويه هذه الحقيقة بشعارات ولغة وطنية وتقدمية وتحررية وما إلى ذلك. أجهزة الأمن تتطابق مع حقيقة هذه السلطات، أما الحزب الحاكم وأجهزة الإعلام فيها، فإنها تمثل الزيف الذي يلف الجريمة بغلاف “وطني”، على أن هذا الغلاف يشف في الأزمات ويصبح صوتاً لأجهزة الأمن (الدعوة الصريحة لقتل أو تهجير المختلفين و”البيئات الحاضنة”، مثلاً).
إذا جاز القول إن للسلطة الأبدية مشروع، فإن مشروعها خاص وليس عاماً، إلى الحد الذي تبدو فيه السلطة نفسها وقد غدت ملكية خاصة لأصحابها يحوزون بواسطتها ليس فقط جهاز الدولة بل والمجتمع برمته. الامتلاء بفكرة التملك لا تظهر فقط في توريث السلطة، بل وتتخذ شكلاً عنيفاً حين تشعر السلطة بتهديد من الداخل. في الحالة السورية كان الاستيلاء على الأرزاق والقتل والاغتصاب والتهجير هي الممارسات التي تنم عن حقيقة امتلاء طغمة السلطة بشعور امتلاكهم للمجتمع عبر امتلاكهم للسلطة، فهذه الممارسات تبدو وكأن السلطة تتصرف بما تملك، أي إن ما يتم هدره من أملاك وأرواح وكرامات تعود أساساً إلى السلطة التي لها الحق أن تحميها أو أن تهدرها، بوصفها المالك. في هذه السلطات يوجد مستويات عالية من فساد نخبة الحكم “الطغمة”، الفساد الذي يتعمم على المجتمع ليصبح وسيلة عيش، كما يبرز في هذه السلطات الميل إلى تكريس الحكم العائلي، وعليه نجد هنا مؤسسات حديثة في الاسم والصورة ولكنها مليئة بقناعات ما قبل الحداثة، كأن يسمى الاستفتاء على الرئيس “بيعة”، وأن يسمى الرئيس الأبدي “الأب” و”المفدى”، ومليئة أيضاً بممارسات غابرة كأن يترك السجين “الحديث” للموت جوعاً في استعادة التقليد الغابر الأسود “القتل صبراً”، أو أن يُفرض على الأب الوشاية بابنه “المعارض” أو قتله .. الخ.
ارتبط بروز هذه السلطات في العصر الحديث بفكرة صناعة التاريخ والمبالغة في جعل التاريخ موضوعاً للإرادة “الواعية”. كانت السلطات صاحبة المشروع “الريادي” أو “التقدمي” هي مقدمة أو حاضنة معنوية “للسلطات الأبدية” التي تمثل في الواقع نموذجاً منحطاً من السلطات الشمولية، أو هي السلطة الشمولية الفارغة من المشروع العام المفترض وقد جعلت مصلحة سلطتها فوق المشروع وفوق الوطن، لذلك نرى أن هذه السلطات تنافس على الاستمرار في الحقبة ما بعد السوفييتية كما في الحقبة السوفييتية، فهي عابرة للحقب والمشاريع الاجتماعية الكبرى، لأن مقياسها هو ذاتها، بوصفها “أبدية”.
تتنوع سبل الانحدار إلى هذا الشكل المنحط، إما بتحول السلطة الشمولية نفسها، كما في كوريا الشمالية، أو بانقلاب على سلطة شمولية من داخلها كما في سورية 1970، أو بانقلاب “تقدمي” على سلطة سابقة “رجعية” أو أقل “تقدمية” من أصحاب الانقلاب، كما في ليبيا القذافي مثلاً. في التحول إلى السلطة الأبدية هناك تخل فعلي عن الأهداف الكبرى (التحرر، الاشتراكية، الوحدة القومية..الخ)، ويبقى التمسك بها في اللغة والإعلام من وسائل الاستمرار في السلطة بوصفها الغاية الأولى.
كشف التاريخ أن السلطات الشمولية أكثر قابلية للتغيير من السلطات الأبدية، فهذه الأخيرة تجعل المجتمع يعيش دائماً على حافة حرب أهلية، لأنها تفعّل كل اشكال الانقسام الاجتماعي لتتمكن من إحكام سيطرتها على المجتمع، ولأنها سوف تعمل على تفجير المجتمع عند أي محاولة جدية لتغييرها. أما في السلطات الشمولية فإن أولوية المشروع على السلطة تحد من ارتداد السلطة ضد المجتمع بهذه الصورة المدمرة، وهذا ما جنّب الاتحاد السوفييتي حرباً أهلية حين راحت تتكشف القصورات الاقتصادية للمشروع الاشتراكي.
بعد فترة الركود الطويلة في عهد بريجينيف (1964-1982)، ومحاولة الصحوة القصيرة على يد يوري أندروبوف (1982-1984)، ثم سنة الموت السريري التي مثلها قسطنطين تشيرنينكو (1984-1985)، وصل ميخائيل غورباتشيف إلى المكان الذي يستطيع منه أن يقول في كتابه “البيريسترويكا” إنه رفع الغطاء ورأى هول الأزمات، فقرر مواجهتها بدلاً من أن يعيد الغطاء ويتعامى ويستمر على المنوال السابق، أي ضعف وتعثر اقتصادي يحميه عملاق عسكري. فشل المشروع الاشتراكي زعزع أسس السلطة الاشتراكية “الشمولية”، لأنه كان مصدر شرعيتها العامة في غياب مصدر الشرعية الديموقراطي (الانتخابات)، وبالتالي كان تغيير السلطة السوفييتية أقل مأساوية بكثير من محاولات تغيير السلطات الأبدية التي تبقى على انفرادها في الحكم، متحدية كل الهزائم وكل الإخفاقات الاقتصادية، ومستعدة للقمع إلى حدود الإبادة.
Archives
May 2024
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031