راتب شعبو/ كاتب

في الساحل السوري

نُشرت بتاريخ 21/08/2016 على موقع العربي الجديد
صمد الساحل لجريمتين طائفيتين كبيرتين استهدفتاه، في سياق الصراع الرهيب الذي يلتهم سوريا منذ سنوات. الأولى وقعت في أوائل آب/أغسطس 2013 حين دخل سلفيون جهاديون إلى 13 قرية من ريف شمال اللاذقية ومارسوا فظاعات ضدالأهالي، ولا يزال العشرات من هؤلاء الأهالي (كلهم نساء وأطفال) في الأسر حتى اليوم. والثانية في أواخر أيار/مايو من هذا العام، حين استهدف مجرمون بالمتفجرات عدة مناطق لتجمع المدنيين في مدينتي طرطوس وجبلة الساحليتين (كراجات، أحياء سكنية، مستشفى، ..الخ)، ما أدى إلى مقتل حوالي 400 ضحية.
أي من هاتين الجريمتين لم تفجر صراعاً أهلياً واسعاً رغم توافر الكثير من عناصره ثمة. بقيت الردود الانتقامية ضمن حدود أقل من التخوفات بكثير، ما يشي بأن النظام لا يريد اشتعال الساحل، وهذا مفهوم طالما أن الساحل أحد مناطق استقرار النظام وأحد المعطيات التي لا يزال يستند إليها ليبرهن للخارج أنه يقوم بدور دولة تحتضن الجميع بكل تلاوينهم المذهبية والدينية والعرقية، في مقابل معارضة طائفية تعمل على تطهير مناطقها من أي تواجد غير مسلم سني.
المخاوف من حدوث انتقامات طائفية في الساحل، لها مبررات كثيرة ومفهومة، وهي تعني أن ثمة جريمة نائمة. والحق أن القادر الأكبر على إيقاظ هذه الجريمة أو الكارثة هو نظام الأسد. أي إن نظام الأسد يضع يده على سلاح ثقيل زوده به خصومه بإصرار. يؤدي هذا القول إلى أن السلام الأهلي النسبي في الساحل طوال السنوات الماضية بعد 2011، يعود في جزء كبير منه إلى رغبة النظام في عدم تفجير هذه القنبلة التي راحت تكبر وتكتمل عناصرها مع كل جريمة طائفية ارتكبتها تشكيلات أو جهات تواجه النظام لأنه “علوي”، ومع سيادة اللغة الطائفية في خطاب الكثير من المعارضين الذي بالغوا في دور طائفية النظام الأسدي في ديمومته ومقاومته، فاتجهوا، متهورين، إلى خلق طائفية مضادة.
لا شك أن هناك سوية من الوعي الوطني لدى السوريين تساهم في عدم تحول خطوط الانقسام الطائفي إلى خطوط جبهات ومناطق تماس متحركة، ولكن مما لا شك فيه أيضاً أن الصبغة الطائفية التي راحت تغلب على الصراع السوري، ولاسيما منذ أن تصدرته تشكيلات جهادية سنية، جاء لمواجهتها تشكيلات جهادية شيعية، خفضت من سوية الوعي الوطني لدى السوريين، وزادت من قابلية اشتعال صراع أهلي طائفي منفلت في مناطق الاختلاط، ومعروف أن للساحل أهمية ومكاناً خاصاً في هذا السياق.
يزيد من خطورة هذا السيناريو البغيض الممكن، غياب اللب السوري الوطني الذي أعدم نفسه بنفسه تدريجياً حين ارتضى إفراغ مكانه لكي يملأ أمكنة مملوءة سلفاً بالإسلاميين أو بالأسديين. ومن لم يغادر من الوطنيين السوريين هذا المكان تم إعدامه بنيران مشتركة من المنحازين إلى هذا الطرف الطائفي أو ذاك. وعليه، فإن الغائب الأكبر عن ساحة الصراع السوري اليوم هم الوطنيون الديمقراطيون السوريون. لا تعثر في سورية اليوم ولو على حفنة من الأشخاص الذين يحوزون على مقبولية سورية عامة. والسبب هو هذا الانحياز الحماسي والضيق الأفق والعنيد الذي أفقد “المنحازين” ملامح وجوههم ولغتهم، وترك الموقع الوطني السوري فارغاً، وحرم السوريين المستقطبين بحدة، من نقطة استقطاب أخرى جامعة حين يدركون عقم هذا الاستقطاب الطائفي الحالي.
حين نقول إن الساحل صمد لهاتين الجريمتين، ينبغي أن لا ننسى أن مفاعيل هذه الجرائم، وغيرها مما يشبهها، تراكمت في النفوس وشكلت ذخيرة إجرامية في مخزون نظام الأسد الذي يمكن أن يستخدمها في لحظات ضعفه الشديد أو في لحظة دنو هزيمته، على شاكلة ما فعل توأمه البعثي “على الجانب الشرقي من نهر الفرات”، حين أشعل آبار نفط الكويت وهو يجرجر أذيال الهزيمة مطروداً من الكويت.
الخطاب السياسي البائس الذي ماهى بين الطائفة العلوية والنظام الأسدي، جعل من عملية حشر النظام في الزاوية وعزلة سياسياً، عملية تساوي حشر وعزل هذه الطائفة التي عوملت ككتلة مجرمة ومحجورة خارج آليات الصراع السياسي بما هو عملية اصطفاف وإعادة اصطفاف سلمية مستمرة. على هذا لا يبقى أمام العلويين، وفق هذه الترسيمة “المعارضة”، سوى إعلان التوبة، لأنه لم يتم التعامل مع موقفها من الصراع على أنه موقف سياسي بل على أنه جريمة أو مشاركة في الجريمة، ولا ينتظر من المجرم تغيير موقفه بل إعلان توبته.
النتيجة أن الساحل الذي استقبل ملايين الوافدين من مختلف مناطق سورية المنكوبة دون وقوع صدامات واسعة تذكر، مرشح في ظل التمادي الطائفي من جهة التنظيمات الجهادية السنية التي تواجه النظام (كانت تسمية غزوة ابراهيم اليوسف إحدى ذرى هذا التمادي)، أن يمزق صورة “الوعي الوطني” الرقيقة، كي لا أقول الزائفة، ليعطي صورة بالغة الانحطاط، حين يشاء النظام.
يمكن أن يكون الساحل قنبلة مكتملة، صمام أمانها في يد النظام الأسدي الذي يمكن أن يستغني عن سعية الدائم إلى جعل التنوع المذهبي والديني السلمي في مناطق سيطرته، وسيلة استكمال شرعيته الدولية المنقوصة، وأن يتحول في لحظة واحدة، تحت تأثير شعوره بدنو الأجل، إلى تفجير هذا التنوع ورمي هذه الكارثة في وجه السوريين وفي وجه العالم.
Archives
May 2024
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031