راتب شعبو/ كاتب

البلد العابر للسياسة

افتتاحية العدد 35 من أبواب: البلد العابر للسياسة 06/11/2018
يهرب الناس من بلدانهم حين تغدو حياتهم فيها مهددة، بفعل الحروب أو المجاعات أو الاستبداد، هذه جميعاً من شرور التخلف، من أمراض المجتمعات التي تعثرت (لأسباب مختلفة) في السيطرة على تاريخها، وراح التعثر ينتج المزيد من التعثر في تتال يحرض اليأس.
يحمل اللاجئ في نفسه عبء الأسباب التي دفعته إلى اللجوء، مهما كان موقعه من هذه الأسباب. يغدو تخلف البلد، التخلف العام، عبئاً شخصياً. كل لاجئ يحمل
تخلف بلده في سريرته، كمن يحمل وزر تهمة لا تُرد. اللجوء، في حد ذاته، إقرار بهزيمة. اللجوء إلى بلد الآخرين ينطوي على إقرار بتفوق بلد الآخرين.
على هذا، التفوق الذي يمكن أن يحققه اللاجئ لا يولد فيه الشعور بتفوقه كفرد فقط، ولا يرفعه من مستنقع القصور الذاتي المتأصل الذي تحاول تأكيده نظرات عنصرية متكاثرة فقط، بل يولد فيه أيضاً شعوراً بالتعويض عن قصور بلده. وحين نقول بلده، نقصد البلد المستقل عن السطح السياسي الذي يغلي بالصراعات العنيفة، البلد المستقل عن الأسباب التي دفعت اللاجئ إلى اللجوء، البلد الذي يمثله اللاجئ ولو كان هارباً منه، البلد كمعنى، أو كهوية أو كانتماء أول.
في بلاد اللجوء، الفشل السوري العام يتكئ على نجاح السوري الفرد. وبالمقابل، فإن جريمة الفرد السوري، إذا حصلت، تلقي بظلها على السوري العام. في بلاد اللجوء، الفردي يرفع العام أو يزري به. أمام كل نجاح لسوري سوف يلتفتون إليك، وأمام كل فشل أو فعل شائن أو جريمة لسوري سوف يلتفتون إليك، تختلف النظرات، ولكن الثابت أنك مسؤول عن انتمائك إلى بلدك في السراء والضراء، ليس فقط في عيون الآخرين، بل وفي عين ضميرك أيضاً.
هذا ما يفسر قيام اللاجئين السوريين، كغيرهم من اللاجئين، بتحويل أسماء المتفوقين من مواطنيهم إلى نجوم في سماء غربتهم، هيثم الأسود وعلاء حسام الدين المتفوقان في فرنسا، ونور قصاب ونجيب ورد المتفوقان في المانيا، ورام وجاد الشمعة المتفوقان في أميريكا، وتامبي اسعد المتفوق موسيقياً في تركيا، وطبيب الأسنان المتميز مصعب العبد الله في السويد ..الخ. وهذا أيضاً ما يفسر خشية السوريين من أن تكون جنسية من يقوم بالطعن أو بالدهس أو بالتفجير، سورية.
التشتت الجغرافي للاجئين يرافقه تأكيد زائد على وحدة الانتماء، هذا على عكس ما يتوقع اللاجئون وعلى عكس ما يريده بعضهم ربما. هذا هو معنى البلد العابر للسياسة، المعنى الأبقى والأعمق، المعنى الذي يلامس حبل الانتماء، ويجعل للسوري على السوري حق. فهو الحبل الذي تتردد عبره مفاعيل أعمال السوريين الأفراد في حياة السوريين الأفراد الآخرين.
Archives
May 2024
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031