راتب شعبو/ كاتب

رسالة الأطباء من حلب

نشرت بتاريخ 18/08/2016 على موقع هنا صوتك
رفع خمسة عشر طبيباً في شرق حلب رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما يقولون فيها إنه تم استهداف 42 مركزاً طبياً في منطقتهم خلال شهر تموز، مطالبين أمريكا بالمساعدة على وقف القصف. “إن امتناع أمريكا عن حماية المدنيين في سورية، يعني أن“القوى النافذة في العالم قابلون بمحنتنا بكل طيبة خاطر
والحال إن الغالبية الغالبة من السوريين إذا تحدثوا في السياسة، قالوا إن أمريكا بلا مبادئ، وإنها سعيدة لما يجري في سورية، وإنها تريد تدمير سورية، فهي حليف إسرائيل وهي التي دمرت العراق ..الخ. يتفق على هذا المعارضون لنظام الأسد والموالون له. وكلاهما يأمل أن يفوز بالرضى الأمريكي بعد كل شيء.
يمكن لأي سياسي أو متحزب، أو حتى لأي شخص حيادي، أن يسخر من مناشدة الأطباء هؤلاء. كيف تطلبون المساعدة من “عدو”، وكيف تنتظرون خيراً من قوة شريرة؟ فهذه أمريكا هيروشيما وأمريكا فيتنام، وأمريكا التي قصفت في مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2015، مستشفى تابع لمنظمة أطباء بلا حدود في قندوز في أفغانستان ما تسبب في مقتل عشرات الأشخاص ..الخ.
ولكن حين يتكلم الأطباء العاملون في المناطق الواقعة في نطاق الحروب، يفترض أن يكون لكلمتهم صوت أعلى من السياسة ومن الخطط الحربية ومن المواقف المكرسة، لأن كلمتهم لا تصدر عن هموم سياسية “مختلف عليها”، بل عن مصلحة حياتية قصوى، ليس لمقاتلين بل لمدنيين في الغالب. وهم لهذا لا يخاطبون أمريكا السياسية، إلا بقدر ما جعلت الخارطة السياسة المعاصرة من أمريكا الدولة العظمى القادرة على إنفاذ كلمتها، حين تشاء. إنهم يخاطبون بالأحرى أمريكا الأخلاقية. يخاطبون الضمير الذي يفترض أنه مكنون في رأس العالم. إن في خطابهم مخاطبة صادرة من ضمير يمثلونه في مهنتهم، إلى ضمير من المفترض أن يستقبل خطاب كهذا. ولكنها للأسف، مخاطبة ضمير لا يمتلك إلا الخير، إلى ضمير تسوّره القوة والعنجهية ضد الحساسية المطلوبة للخير.
الأطباء الذين يعملون طوعاً في بيئة جاذبة للموت اللاتمييزي، صنف من البشر يتعين الإصغاء إلى صوتهم، إذا كان للبشرية أن تصون مستقبلها. فهم على العكس من السياسيين والعسكريين والاستراتيجيين والقادة ..الخ، يلامسون ما يجمع الناس، وتقوم مهنتهم على صيانة الحياة، ويعيشون في المنطقة المشتركة، فيما يعيش السياسيون وأضرابهم على خطوط الانقسام ويستمدون قيمتهم منها.
يقول أحد الأطباء العاملين في حلب: “نحن لا نفكر كثيراً بالمستقبل. إننا سعداء لمجرد أننا لم نمت بعد”. كل يوم حياة هو بمثابة هدية لهؤلاء الأشخاص، فيما كل ساعة من حياتهم هي هدية للمرضى والجرحى والمنكوبين.
الطبيب يقع في دائرة الاستهداف، في حين أنه لا يستهدف أحداً. الطبيب ليس مقاتلاً، إنه على النقيض من المقاتل، الذي يشتق اسمه من القتل. إنه “يقاتل” كي يُحيي. قتال الطبيب هو سعي محموم بلا مواعيد ولا “استراحة محارب” ولا “هدنات”، لإصلاح ما يدمره المقاتلون من الحياة. الجرح النازف لا ينتظر، ولا الرئة المثقوبة، ولا القلب الباحث عن الهواء. كبسة زر واحدة من “مقاتل”، تتطلب عملاً متواصلاً من فريق من الأطباء لأيام أو أسابيع.
“قتال” الطبيب لا يقتل أحداً، ولا “يقاتل” الطبيب كي ينتصر على أحد، ولا يتردد صوته في بازارات الصحف والتلفزيونات ليرفع معنويات “المقاتلين” ويعبئهم للمزيد من القتل. كما لا يثير اسمه شهية الإعلام كما تثيره اسماء قادة القتل والموت والقصف. الطبيب يفكر في الحياة فيما يفكر المقاتلون في الموت.
ذات يوم، قال طبيب شاب وهو يعمل لساعات في غرفة العمليات لانقاذ فتى استقرت في حنجرته رصاصة: “إذا كان لا بد من القتال، ماذا لو استعاض المقاتلون عن الرصاص بشيء آخر، يشل فاعلية الانسان لحين من الزمن دون أن يقتله؟” هذا سؤال تطرحه مهنة الطبيب، تماماً كما تطرح مهنة المقاتل السؤال عن أنجع طريقة للقتل، وأقلها كلفة.
من شبه المؤكد أن أمريكا لن تعبأ برسالة هؤلاء الأطباء. وأن هذه الرسالة لن تغير شيئاً من تصميم المقاتلين على القتل، والأهم على استهداف المرافق الطبية. لن يكون هذا مفاجئاً، سوف يكون فقط دليل إضافي على أن في قلب هذا العالم مرض. مرض يلتهم القيم العليا فيه، قبل أن يأتي على كل شيء آخر.
Archives
May 2024
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031