راتب شعبو/ كاتب

الدولة القديمة والدول الجديدة في سورية

نُشرت بتاريخ 11/08/2016 على موقع العربي الجديد
يعيش أهالي المناطق الخاضعة للنظام السوري في ظل دولة قديمة، أقصد موجودة سلفاً. دولة تعرضت وتتعرض لخسائر كثيرة في السياسة والجغرافيا والعديد والعدة على مدى السنوات الخمس والنصف المنصرمة، ولكنها لاتزال صامدة، وتبقى، بعد كل شيء، دولة تمارس وظائفها المعهودة إلى جانب “وظيفة الحرب”. صحيح أنها ألحقت بقية الوظائف بهذه الوظيفة الطارئة، وصحيح أن الفساد ازداد وأن التشبيح ازدهر وأن سواد الموت طغى، ولكن ذلك من طبيعة الأمور، تلك هي الحرب.
في المقابل، يعيش أهالي المناطق التي خرجت عن النظام في ظل “دول” جنينية نشأت لتغطي انحسار وظيفة الدولة القديمة، فبرزت “دول” محلية أو جديدة، سرعان ما خضعت لبيئة نشوء قاهرة وغير مؤاتية. كان النشاط المدني العام في بداية انحسار الدولة القديمة، نشاطاً عمومياً ممتزجاً بفرحة الخلاص من السيطرة الأسدية، وبفرحة التجريب والتصدي لتولي مسؤوليات كبيرة. ولكن تحت ظروف الحاجة للحماية الخارجية ضد الدولة القديمة، والصراعات البينية، والحاجة إلى الموارد، ونقص الخبرات ..الخ، بدأت الدول المحلية هذه تتجه كلما طال أمدها واشتد عودها أكثر نحو نمط دولة استبداد ديني بفعل تزايد سيطرة القوى الدينية على هذه المناطق، لما تتمتع به من إمكانيات مادية وصلات خارجية.
هذه النشأة جعلت الدول المحلية هذه مقزومة من ناحية علاقتها بالمجتمع المحلي، وطبعتها بالطابع العسكري الديني، على ما تشير تقارير تناولت ظاهرة المجالس المحلية وسياق سيطرة الإسلاميين عليها. مثل (أنماط الحكم المحلي في سورية بعد الثورة) الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في مايو/أيار 2016. فتحول انحسار الدولة القديمة من كونه تجربة فريدة لابتكار مؤسسات ذات شفافية وملاءمة، تُبنى بيد الناس المتحررين وتوقهم لإدارة شؤونهم، إلى فرض أنماط جاهزة وسطحية وغير ملائمة، تحمل من الاستبداد أبشعه. وكان هذا من الملامح الباكرة لنكوص الثورة.
طريقة القضم الجغرافي البطيء وتثبيت مناطق “محررة” والاضطرار لإدارتها، مع صمود الدولة القديمة، جعل الصراع في سورية يتخذ طابعاً جديداً، هو الصراع على الأرض وليس على الدولة، وهذا ما فتح المجال لحساب النصر بالمساحة الجغرافية، مع إهمال العنصر الحاسم، أقصد آلية الحكم. ففي المناطق “المحررة”، تم التراخي في موضوع العلاقة مع الجمهور لصالح الفاعلية العسكرية. تم التغاضي عن القمع والفساد لكي لا يتم التشويش على “الجهاد”. وبذلك فتح باب للتعثر من وراء ظهر المعنيين ودون انتباه السياسيين.
تحت غبار المعارك والقتل والدمار اليومي في سورية على مدى هذه السنوات، مررت الدولة القديمة نتيجة لم تلفت الانتباه الذي تستحق، وهي إفشال إمكانية بناء دولة بديلة ذات جاذبية سياسية. أو إفشال بناء مؤسسة دولة ذات علاقة شفافة وجذابة مع محكوميها. فبضغط من ضرورات المواجهة، قبل الكثير من السوريين التنازل عن “كل شيء” تقريباً. بهذا نجحت الدولة القديمة في أن تظهر أن “الجديد” كالقديم أو أسوأ.
هذا يعني أن السوريين هنا وهناك لم يعرفوا فعلاً طعم الحرية، وإن كانوا قد تذوقوا في مناطق معينة فرحة عابرة جراء هزيمة واندحار المستبد القديم، قبل أن يدركوا أن القوى الجديدة لا تقل ثقلاً واستبداداً. إن بروز بعض الاحتجاجات المدنية لأهالي المناطق “المحررة” ضد الأسياد الجدد (وهي احتجاجات قليلة على أي حال)، لا تجد تفسيرها في سعة صدر أو تساهل و”ديموقراطية” من جانب “الدولة الجديدة” بل بحداثة عهدها بالأحرى، وقلة خبرة الناس بها.
وبعد كل شيء، لا تزال تتميز الدولة القديمة في أن مناطقها تحافظ على التنوع السوري، كما كان عليه الحال من قبل. صحيح أنها تحافظ عليه في إطار من التمييز والحكم الأمني الفاسد الرسمي وغير الرسمي (وبأشد مما كان عليه الحال دائماً)، ولكنه تنوع موجود كواقع يتفوق على الواقع الوحيد اللون في مناطق سيطرة “الدول الجديدة”، في فشل مبكر للتيار الديموقراطي الوطني المعارض. وإذا كانت الدولة القديمة قد نزفت كل شرعيتها في نظر أهالي المناطق الخارجة والتي باتت هدفاً مستمراً لطائراتها وأسلحتها الثقيلة، فإن هذه الدولة لا تزال تحافظ على قيمة معنوية في نظر قسم كبير من أهالي مناطق النظام مستمدة من مواجهة “الإسلاميين”.
هذه فرادة مستحقة للحالة السورية، الدولة القديمة تحوز شرعية فائقة لدى قطاع غير قليل من السوريين، بالرغم من أنها تهمل عملياً كل وظائف الدولة المعهودة، وتفشل في حماية أمن محكوميها ولقمة عيشهم، وذلك ليس لأنها تدافع عن الوطن ضد عدو خارجي يريد احتلال الأرض، بل ضد حركة داخلية واسعة (وإن كانت مدعومة خارجياً)، تريد السلطة، أو المشاركة الجدية فيها.
إن خروج قطاع واسع من السوريين على الدولة القديمة، خروجاً راح يتجذر أكثر فأكثر مع تكشف طبيعة هذه الدولة باعتبارها جهاز مسخر للحفاظ على سلطة مؤبدة، جرى تعويضه بدخول قطاعات أخرى إلى دائرة الولاء الشديد للدولة نفسها باعتبارها جدار الصد الوحيد ضد إسلاميين “فاشيين” و”يشكلون أداة تدمير الدولة والوطن”.
الدولة التي تحولت إلى عدو في نظر نسبة كبيرة من الشعب لسوري، تحولت إلى خشبة خلاص لنسبة كبيرة أخرى. حتى باتت الجذرية السياسية لطرف تغذي جذرية مضادة لدى الطرف الآخر. والعنف المفرط لطرف يغذي عنفاً مضاداً، ما يغذي بدوره كل صنوف اللاعقلانية والانحطاط السياسي والأخلاقي، حتى انتهى الأمر فعلياً إلى قتل الضمير الوطني الذي هو الخلفية المعنوية المشتركة للتجمعات السياسية أو للدول الحديثة.
على هذا المستوى من العداء المستحكم، تمكنت الدولة القديمة أن تنقل استبدادها إلى “الدول” المحلية الوليدة، وخسر السوريون بفعل ديمومة هذا الصراع وتعفنه، المساحة النظيفة التي يبتكرون عليها دولتهم التي نشدوها في مطلع 2011.
Archives
May 2024
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031