راتب شعبو/ كاتب

النظام السوري: افتراق السياسة عن القيم راتب شعبو

نُشرت بتاريخ 30/08/2011 على موقع الحوار المتمدن
منذ بداية الانتفاضة السورية في 18 آذار 2011، وبعد أن أدرك النظام السوري جدية الأمر وخطورته فتح لنفسه نافذتين للتعامل معها في محاولة منه للنجاة من المصير الذي آل إليه نظامامصر وتونس السابقين. نافذتان عبر عنهما الخطاب الأول للرئيس وثابر على ذلك في خطابيه التاليين: الأولى هي الإقرار بمشروعية المطالب التي رفعها المتظاهرون والاستعداد للإصلاح، والثانية هي الحديث عن مندسين ومؤامرة وجماعات مسلحة تتستر بالمظاهرات “التي ترفع مطالب محقة”.
النافذة الأولى تهدف إلى معالجة الفقر الأخلاقي للنظام، فلا يمكن إلا للصفاقة الخالصة الدفاع عن استبداد أصبح غاية ذاته، استبداد فارغ من أي مشروع سوى حماية ديمومة حكم الفئة الحاكمة. لا يمكن الدفاع عن وضع سياسي مزمن تبتلع فيه السلطة السياسية الدولة وتبتلع عبرها البلد، وما يجر هذا من مضاعفات مشينة مثل الفساد المحمي والمحسوبيات وضياع حقوق وكرامات الناس إلا ما رضت ومن رضت عنه أجهزة أمنية تتحكم بتفاصيل حياة “المواطن” بما في ذلك لقمة عيشه، تتحكم لا لتحمي بل لتعاقب وتؤدب أو تكافئ وترشي وفق معاييرها للولاء. وهذا يخلق بطبيعة الحال دينامية بالاتجاه المعاكس حيث يسعى “المواطن” لكسب رضا الأجهزة الأمنية بالخضوع والتملق والنفاق والرشوة المادية اللامتناهية الأشكال لمسؤولي هذه الأجهزة إذا استطاع وكان من المقتدرين.
حتى أشد المدافعين عن استمرار الوضع السياسي في سورية حماسة يجد نفسه عاجزاً عن إنكار مستوى الفساد وسوء الإدارة في البلد، وقد وجدت هذه الفئة من الناس مخرجاً سياسياً/أخلاقياً لها عبر هذه النافذة التي ذكرناها. منطق هذا المخرج بسيط ويلخص بما يلي: الاعتراف بأن الفساد موجود وكذلك المحسوبيات وتجاوزات أجهزة الأمن الخ، وإن المطالب المرفوعة من المتظاهرين السلميين مشروعة وقد استجاب لها النظام بحزمة إصلاحات يجب إعطاؤها الوقت بالكف عن التظاهر. ولمن لا يثق بجدية النظام في الإصلاح عليه أن ينتظر ويرى ليبرهن على جدية أو عدم جدية الإصلاحات. بذلك تفادى النظام وأنصاره الوقوف موقف المدافع عن الواقع اللاأخلاقي للنظام السياسي القائم. أي انتقل النظام وأنصاره بذلك إلى موقع يشبه الهجوم. وقد بدا هذا المنطق معقولاً إلى حد تبنيه من بعض المثقفين ذوي التاريخ المعارض. الخطوة التالية في هذا المنطق تستند إلى ما توفره النافذة الثانية.
النافذة الثانية تطلق يد النظام للتعامل مع المظاهرات بعنف بدعوى أن هناك مسلحين ومخربين الخ. ولئن كان فتح النافذة الأولى سهلاً ولا يحتاج إلى أكثر من خدمات شفوية (وعود) أو ورقية (مراسيم وقوانين)، فإن فتح النافذة الثانية صعب ويحتاج إلى تعمية إعلامية لفترة من الزمن حتى تتمكن الإجراءات  القمعية الفظيعة والاستفزازية من توليد عنف مضاد (يستحسن أن يكون شديد الفظاعة) يجري من ثم التركيز عليه وصبغ كامل الحركة أو معظمها بلونه لتسويغ المزيد من القمع من جهة وتشويه صورة الانتفاضة الشعبية من جهة ثانية. وقد حقق النظام التعمية الإعلامية بمنع دخول وسائل الإعلام العربية والأجنبية إلى سورية، وساعده في تفعيل وظيفة هذه النافذة فيما بعد العنف المضاد الذي مارسه بعض المتظاهرين ولاسيما في منطقة جسر الشغور. وفق هذا التحليل لا يستبعد أن يكون النظام قد مارس بعض العنف ضد نفسه، إن جاز القول، لتبرير استخدام العنف، ولاسيما أن الأمن الموازي أو غير الرسمي (وهو ما يعرف في سورية باسم الشبيحة) مناسب للقيام بمثل هذا  الدور، في المراحل الأولى على الأقل. وليس هذا ابتكار جديد على أجهزة الأمن، بل هو ممارسة مألوفة تمتد من حرق الرايخستاغ في ألمانيا حتى تفجير كنيسة القديسين بالاسكندرية.
غيّر النظام توصيف حجته مراراً من مندسين إلى سلفيين إلى إرهابيين إلى مجرد جماعات مسلحة، دون أن يحمل هذا التغيير في الوصف أي قيمة (ما خلا فضح الكذب) ذلك أن كل هذه التوصيفات تؤدي الغرض منها وهو تبرير التعامل العنيف والدموي مع التظاهرات.
لكن مع الوقت، وبفضل استمرار المظاهرات وكفاحيتها المدهشة رغم كل أشكال القمع، ورغم كل الخدمات التي قدمها للنظام عن غير قصد بعض المشايخ السعوديين والسوريين الذين تكلموا بفتاوى طائفية دموية صريحة، ورغم ظهور بعض الأشكال الرهيبة من العنف المضاد الانتقامي، تتراجع وظيفة النافذة الأولى حيث يتبدى بعد شهور أن النظام عاجز عن إصلاح نفسه وأنه لم يلامس، حتى في وعوده، نقاط الوجع السوري مثل موضوع التوريث والاحتكار السياسي. وتتراجع وظيفة النافذة الثانية مع سقوط المزيد من المدنيين العزل، وبذلك يتقلص الهامش الأخلاقي للنظام وتتخذ الصورة شكلها الحقيقي لكل من يريد أن يرى: نظام يدافع عن نفسه في وجه تطلعات الشعب الجسورة والمحقة.
ويمثل استمرار التعامل الأمني مع المظاهرات الاحتجاجية فشلاً أخلاقياً للنظام حتى لو استطاع قمعها، ويشكل الفشل الأخلاقي مقدمة لهزيمة النظام لا ينقذه منها سوى أن تفتح له نافذة جديدة من خارجه هذه المرة. إما من جانب الانتفاضة إذا تسلحت وتعسكرت، أو من جانب الدول الغربية إذا تدخلت عسكرياً. في الحالتين يكتسب النظام أخلاقية ما في دفاعه عن نفسه، مما قد يطيل في أمد الأزمة، ويعقد تبعات التغيير.
Archives
April 2024
M T W T F S S
« Jul    
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
2930