راتب شعبو/ كاتب

دنيا الدينالاسلامي الأول – 6

نُشرت بتاريخ 07/07/2005 على موقع الحوار المتمدن
في القسم الأخير هذا نتناول عادة الثورة في خذل أبنائها الأكثر إخلاصاً. هذا ما شهدته الدعوة الإسلامية الأولى، وهذه عادة درجت عليها الثورات الكبرى ولم تكن الثورة البلشفية في روسيا أو الثورة الفرنسية سوى تجليات مأساوية لهذه الغريزة المتأصلة في الثورة.
غريزة الثورة
يجد التعبير الشائع “الثورة تأكل أبناءها” أصله في أن حدود الثورة لا تتطابق مع وعي الثورة لذاتها. فالمقتضيات الموضوعية تؤول بالثورة إلى مآل مخيب لآمال رجالها، عندئذٍ يجد الثائرون أنفسهم أمام
أحد خيارين: إما أن يستسلموا لمآل ثورتهم أو أن يواصلوا الثورة في الثورة وعندئذٍ ترتد عليهم ثورتهم و”تأكلهم”. هذه عادة الثورة أو قد نقول غريزتها. لكن يبقى السؤال: لماذا لا يتطابق وعي الثورة لذاتها مع ذاتها؟ ومن أين تنبع هذه الخيبة؟ أو بكلام يخص موضوعنا: كيف خرجت قريش منتصرة بعد فتح مكة وهي المفترض أنها مهزومة وقد سلمت أرضها دون شروط؟
للرد على هذه التساؤلات لابد من تصويب وعي خاطئ كرسته الرغبة كما كرسه ضيق الأفق. الثورة إجمالاً لا تقلب المجتمعات رأسا على عقب، بل تخلق علاقات جديدة بين الفئات والطبقات الاجتماعية تحقق تحسناً إجمالياً في أوضاع المجتمع. الأمر ليس ببساطة أن يصبح السائد مسوداً والعكس. يحدث أن عبء الثورة يقع على كاهل الفئات المسودة التي تتوفر لديها الرغبة والقدرة على التغيير الذي ينطوي في جوهره على مصلحة للفئات السائدة التي غالباً ما تفضل العصفور الذي في اليد، ولا تفضل الخوض في مجهول. كلامنا هذا يتناول الفئات والطبقات الاجتماعية كمواقع اجتماعية وليس كأفراد. في المحصلة تجد الفئات الاجتماعية التي حملت عبء الثورة والتي تعتبر نفسها صاحبة الحق في قطف ثمارها، تجد نفسها وقد عادت للخضوع لتكوين اجتماعي جديد ليست هي السيدة فيه.
لنسمع، كمثل على هذه الخيبة، إلى صرخة المقداد إثر فوز عثمان بن عفان بالخلافة “أما وأيم الرحمان لو أجد على قريش أنصاراً لقاتلتهم كقتالي إياهم مع رسول الله يوم بدر”(*). لقد انتهى الأمر، في نظر المقداد، إلى جاهلية تقتضي البدء بالدعوة من جديد، ومعركة بدر هي فاتحة انتصارات الدعوة كما هو معلوم. ولن ينتهي الأمر هنا، فإذا كان عثمان بن عفان قد أطلق العنان لجاهليته مما جعله ينتهي نهاية شنيعة،في مجتمع لا زالت الثورة فيه قريبة العهد؛ فإنه على الأقل ظل متمسكاً بالمصدر الإلهي لخلافته، فابن عفان خطا بكل بساطة الخطوة التي لم يخطها قبله أحد، حين ردّ على المتمردين ضده والمطالبينه بالتخلي عن الخلافة قائلاً: “إني لا أخلع قميصاً قمصنيه الله”. غير أن الخلفاء الأمويين سوف يطلقون العنان لجاهليتم ديناً ودنيا. فيزيد بن معاوية يردد، أثناء صراعه مع الحسين بن علي، بيتاً من الشعر لعبد الله بن الزبعرى المعروف بعدائه للرسول و بالتشكيك في نبوءته:
لعبت هاشم بالملك فلا ملك جاء ولا وحي نزل
إذن ها هو عقل أبي جهل يستيقظ في رأس يزيد بن معاوية مع فارق “بسيط” هو أن الأول كان الخصم اللدود للمسلمين في حين أن الثاني هو خليفة المسلمين.
الخليفة الأموي الوليد الثاني لايستعير شعر الزبعرى بل ينظم الشعر بنفسه في أوقات لهوه:
تلعّب بالخلافة هاشمي بلا وحي أتاه ولا كتاب
فقل لله يمنعني طعامي وقل لله يمنعني شرابي
وهو أيضاً من راح يمزق القرآن مستشعراً:
أتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد
تفشت الجاهلية الدينية في طبقة الحكم الأموية إلى حد أن هناك من المؤرخين من اعتبر العصر الأموي استمرارية جاهلية. (إن الإسلام بما هو كذلك يقع وفقاً لجدلية استمرار وانقطاع بآن واحد تجاه الماضي العربي السابق على الإسلام، الاستمرارية “الجاهلية” استمرت طوال الحقبة الأموية 661-750، وفيها نشأ ما يسمى “الإمبراطورية العربية”)(*). يُروى أن عبد الملك بن مروان، المؤسس الثاني للدولة الأموية، أصدر أمراً يمنع بموجبه الكلام عن سيرة أبي بكر وعمر وظل الأمر سارياً حتى خلافة عمر بن عبد العزيز. ومعلوم أن الحجاج بن يوسف لم يعتبر من قصة أصحاب الفيل الذين جعل الله كيدهم في تضليل، وقام برمي الكعبة بالمنجنيق ليخلّص مولاه (عبد الملك بن مروان) من خصم سياسي هو (عبد الله بن الزبير).
تدل سيرة محمد أنه كان على وعي بهذه الحقيقة، وهذا ما جنبه الكثير من المعارك المجانية. ففي مجتمع يعتمد على اقتصاد الغزو إلى جانب الاقتصاد الطبيعي، لا مجال للتفكير في ثورة “داخلية” تكسر إطار علاقات إنتاج سائدة وتحرر قوى منتجة إضافية في المجتمع، وفق الصيغة الماركسية الشهيرة. حل أزمة هذه القبائل الواقعة فريسة للتغازي والجوع المرير، ممكن فقط بالغزو والاستيلاء على أملاك الغير. وكما لاحظنا، كانت استراتيجية الدعوة قائمة على هذا الشيء. لا يخلو الأمر من دعوات “عدالية” لصالح المساكين والمستضعفين ولاسيما في الفترة المكية، غير أن هذه الدعوات المتناثرة لا تجعل من الإسلام دين مساواة اجتماعية كما يرغب بعض “الاشتراكيين”: (لقد كانت دعوة النبوة المحمدية موقفاً استجاب لمقتضيات الحال الاجتماعي في نظر الجمهور الظامئ إلى العدل والحرية)(**)، أو (المصاعب التي مرّ بها محمد قادته لاتخاذ موقف نقدي تجاه الأغنياء والنافذين وتجاه كل الملتزمين بما هو سائد بالتالي… لقد ماهى نفسه بضحايا المجتمع وجعل معاناتهم معاناته وارتد ضد رجال المؤسسة القائمة)(*).
في الواقع توجه محمد في دعوته للجميع وأول من توجه بالدعوة إليه هم عشيرته الأقربون، بني هاشم، وهم أسياد في قريش. وبين من أُطلق عليهم اسم “القطفة الأولى” ثمة رجال ميسورون وأصحاب مواقع في قريش، أمثال أبو بكر وخالد بن سعيد بن العاص وعبد الكعبة بن عوف الذي صار اسمه بعد أن أسلم عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان وعمر ابن الخطاب…معلوم أن أبا بكر وعمر بن الخطاب كانا من بين وجوه قريش الجاهلية.
يضاف إلى ذلك أن محمداً لم يطرح بدايةً أي طرح سياسي يشكل حالة جذب للفقراء والمستضعفين، لقد سعى إلى أن يكسب “الشرعية” قبل أن يشرّع، ومعلوم أن السور التشريعية كلها مدينية، أي بعد أن كوّن محمد نواته الصلبة.
يعتمد الباحثون الذين يرون في الدعوة المحمدية دعوة “اشتراكية” على أن أول ما باشرت قريش اضطهادها لمحمد وأتباعه كان حين جاء أغنياء قرشيون من الطائف وساءهم ما سمعوا عن محمد. بديهي أن محمد بلبل استقرار قريش وهذا ما يدفع أهل السلطة (المترفين) إلى أن يضعوا حداً للبلبلة من أي نوع كانت، هذا لا يشكل أي استدلال عن فحوى الدعوة. كما أن انجذاب قسم من العبيد إلى الدعوة لا يشكل أساساً لاعتبارها دعوة فقراء ومعدمين، ذلك لأن المعدمين ميالون للانخراط في الحركات التغييرية أملاً بالخلاص من واقع بائس؛ إذ ليس لديهم ما يخسرون فقد يكون لهم ثمة ما يكسبون.
كان يمكن للحديث عن العدل أن يكون فعالاً وواقعياً لو اقتصرت الدعوة على قريش، فقريش قبيلة غنية نسبياً ويمكن لنوع من التوزيع العادل أن يحل مشكلة الفقراء ولكن حين تكون الجزيرة العربية بأسرها هي ساحة الدعوة المبكرة فإن العدالة لم تكن تعني في الواقع أكثر من التساوي بالجوع، ولا يمكن للعدالة أن تشكل أساساً لحركة بهذا الاتساع وسط هذه الشروط. المخرج الوحيد كان توحيد القبائل وخلق مركز سياسي ثم الشروع بالفتح، وهو تماماً ما اعتمده محمد ووضع آلية تحققه.
لا شك أن الأفق العالمي حاضر في الدعوة الإسلامية منذ البدء ولكن العرب في الجزيرة العربية هم وقود الدعوة وعلى مشاكل هؤلاء يجب أن تجيب لكي تنطلق إلى أفقها العالمي. لذلك طبيعي القول أن الإسلام دين عربي أولاً. ليس فقط بمعنى أن القرآن نزل بلغة عربية بل أيضا لأن العرب هم من حمل نار الدعوة، وهم لم يفعلوا ذلك إلا لأن الدعوة رسمت لهم أفقاً دنيوياً في فوضى حياتهم وبؤسها.
المرجعية الدينية التي كرّسها محمد هي إبراهيم وقد جعله جد العرب. واضح أن رد العرب إلى إبراهيم ثم إحياء دين إبراهيم الذي هو الإسلام، يخضع لمتطلبات البيئة التي انطلق منها الإسلام، أي أنه تحقيق لتوق العرب إلى العثور على هوية خاصة متبلورة وسط عالم يهدد هويتهم إن لم يكن وجودهم. وتعكس الآيتان 67،68 من سورة عمران صراع الإسلام مع النصارى واليهود على الماضي، على الهوية: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين / إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله وليّ المؤمنين}. فالتأصيل للدين الجديد كان في الوقت نفسه تأصيل للعرب.
ومن الناحية الروحية فإن العودة إلى دين إبراهيم يعني العودة إلى زمن النقاء وفي ذلك إيحاء بالعودة في الزمن أي بالتغلب على الزمن والاغتسال من آثاره. هذا التوق إلى العودة إلى المنابع يلاحظ لدى معظم الجماعات البشرية(*).يُلاحظ أن محمد يحاكي ابراهيم كما أن عبد المطلب يحاكي ابراهيم في قصة التضحية بالابن.
مؤدى الكلام أن الخروج من الأزمة التي كانت تطحن القبائل العربية وتهدد وجودها ربما، ولاسيما بعد انهيار المراكز السياسية العربية في شمال الجزيرة وجنوبها، الأزمة التي انعكست في الوعي الاجتماعي على شكل فكرة اقتراب هبوط رسالة، أقول إن الخروج من الأزمة كان في البحث عن مصادر جديدة للثروة وليس في المساواة في توزيع ما في اليد. وكان على الدين الجديد أن يسعى في هذا المنحى إذا أراد أن يدخل قلوب العرب وعقولهم.
فوق ذلك كان ثمة تهديد سياسي وعسكري أحياناً لمكة نظراً لأهميتها الدينية والتجارية. معلوم أن بيزنطة حاولت السيطرة عليها من خلال عثمان ابن الحويرث وهو واحد من الحنفاء تنصّر وأراد أن يكون ملكاً على مكة تابعاً لبيزنطة لكنه فشل بسبب مقاومة قريش لمسعاه. ومعلوم أيضاً أن أبرهة الحبشي حاول هدم مكة كي يصرف الناس عنها إلى “القلّيس” الذي بناه في نجران. بالمناسبة، لم تكن مكة تشكل منافساً لليمن في تجارة الترانزيت وبالتالي لم تكن المنافسة التجارية هي التي دفعت أبرهة الحبشي لمحاولة هدم الكعبة، كما يرى سيّد القمني مثلاً(**)؛ فاليمن لا يمكنها, بقوة الجغرافيا، أن تحل محل مكة. ما دفع أبرهة الحبشي إلى غزو مكة هو، في الغالب, صرف الناس عن الكعبة كمركز ديني إلى القليس، وما لهذا من أثر سياسي وتجاري ولكن بمعنى التجارة التبادلية وليس تجارة الترانزيت. ولعل الدافع التجاري التبادلي (الأسواق) هو الأهم نظراً إلى أن القليس كنيسة للنصارى والعرب ليسوا نصارى.
مهما يكن من أمر، هناك من ينسف كل هذه الاحتمالات معتبراً أن أبرهة كان في طريقه إلى الشام لينضم إلى الجيوش البيزنطية في صراعها هناك مع الساسانيين، وأنه لم يستهدف مكة في شيء لكن حملته لم تنجز بسبب وباء اجتاح جيشه هو الوباء الذي يكني عنه القرآن بالطير الأبابيل وحجارة السجيل(***). يبقى مما لا شك فيه أن مكة كانت لقمة شهية، وطبيعي أن تطمع فيها القوى السياسية الكبرى آنئذٍ. وقد تكون رحابة صدر النجاشي في استقبال المهاجرين المسلمين نابعة من طموح سياسي وليس من سماحة دينية كما تصور المراجع. ويعزز قولنا هذا أن الحبشة حاولت في أواخر أيام محمد (أو إبان خلافة عمر) أن تغزو الجزيرة. فإن صح هذا الخبر يكون تفسيره الخيبة التي منيت بها الحبشة من أن الدعوة ابتدأت تختط لنفسها طريق السادة لا طريق التابعين.
يتضح من هذا أن السيطرة على الغير، أي الفتح، يشكل الحل الوحيد أمام العرب لتفادي خطرين محيقين بهم: أولاً الجوع، وثانياً الخضوع لسيطرة الغير. وكما قلنا كان على الدعوة أن تجد هذا الحل وتجترحه لكي تصبح ديناً للعرب بدايةً ثم لكي تنفتح تالياً على بعدها العالمي.
كلمة أخيرة:
لا معنى إذن لإلباس الدعوة المحمدية ثوباً لا تطيقه، كاعتبارها، سياسياً، انتصاراً للفقراء؛ فهي في الجانب السياسي تنظيم هجوم البداوة على الحضارة، هذا التنظيم الذي قام على ركائز جاهلية في معظمه، ماخلا المركزية السياسية الدينية التي تكرّست لقريش إثر وفاة الرسول، وللفرع التجاري منها (أمية) وليس للفرع العقائدي (هاشم). ولم يكن في منطق هذا النشاط عكس العلاقة بين المالكين وغير المالكين. ولا معنى لالتماس ثورية محمد من افتراض أنه ناصر الفقراء على الأغنياء، فحركة الدعوة الإسلامية الأولى في غنى عن مثل هذا الالتماس لاكتساب الصفة الثورية.
Archives
December 2024
M T W T F S S
« Jul    
 1
2345678
9101112131415
16171819202122
23242526272829
3031