راتب شعبو/ كاتب

الانتفاضات العربيّة ومآلاتها

نُشرت في مجلة الآداب 2012
لدى تناول مآلات الانتفاضات العربيّة، لا بدّ من التفريق بين مآل الانتفاضات التي نجحتْ في إسقاط رأس النظام وباتت في مرحلة بناء نظامٍ جديدٍ ومواجهةِ ثقل عطالة النظام السابق وارتداداته (تونس، مصر، ليبيا)، ومآلِ الانتفاضات التيما تزال دون ذلك (سوريا، اليمن). وما يسوِّغ هذا التفريقَ هو تعثّرُ انتفاضتيْ سوريا واليمن، وطولُ أمدهما، إلى حدٍّ يبرِّر تناولهما تحت بندٍ مستقلّ. أكثر من ذلك، لا بدّ من التمييز بين الثورة الشعبيّة السلميّة التي أنجزتْ إسقاطَ النظام في وقت قصير (أيّام) ومن دون تدخّل عسكريّ خارجيّ، كما في تونس ومصر، وبين الثورة المسلّحة المديدة (أشهر) التي لم تتمكّن من الحسم من غير تدخّلٍ عسكريّ خارجيّ، كما في ليبيا.
على أنّ هذا التمييز لا محلّ له في تناول الدوافع العميقة لاندلاع هذه الثورات. فالبلدان العربيّة تسودها أنظمةٌ ذاتُ مضمونٍ استبداديٍّ واحد، وإن اختلف شكلُ الحكم فيها. بل إنّ هذا المضمون راح، مع الزمن، يقارب بين أشكال الحكم، الملكيّ منها والجمهوريّ، محيلاً الفارقَ الشكليَّ بينها إلى مجرّد فارق لفظيّ. فمن طبيعة الاستبداد إقصاءُ الناس عن الشأن العامّ؛ ولهذه الغاية يتمّ الحطُّ من مستواهم الحضاريّ والمعرفيّ، مقابل رفع الفئة الحاكمة إلى مرتبةٍ عاليةٍ من الحكمة والإلهام وصلتْ في سورية مثلاً إلى حدّ أنّ صحيفة البعث السوريّة الرسميّة كانت تستخدم صفة “العظيم” في الإشارة إلى الرئيس السابق الراحل. والحقّ أن هذه المغالاة ليست زخرفةً على صرح النظام الاستبداديّ، بل لها وظيفتُها: وهي تطبيعُ حقيقة أنّ الشأن العامّ هو موضوعُ اشتغالٍ خاصٍّ بالقائد الملهم الذي لا يتّخذ قرارًا إلّا لحكمةٍ تَدقٌّ على أفهام “العوامّ،” الذين عليهم أن يشكروا القيادة ولو على المكروهات! إنه واقع يقلّد العلاقةَ بين العِباد وربّهم، الذي له حكمةٌ خيّرةٌ في كلّ أمر. وإذا كان القائد على هذا المستوى من “العظمة،” فمن الطبيعيّ أن يَحْكم مدى الحياة، وأن “تُنكبَ” الأمّةُ بموته، وأن ترجو النجاةَ في من قد يرثون مواصفاتِه من سلالته!
لعقودٍ طويلة استندتْ علاقةُ الاستبداد إلى ثلاثة مرتكزات: الحرب الباردة (أو الاستقطاب العالميّ بين معسكرين اشتراكيّ ورأسماليّ)، والعزلة النسبيّة للشعوب التي كانت محتكرة إعلاميّاً وثقافياً لصالح النظام السياسيّ في بلدها، والقمع المنهجيّ الذي يتكفّل بقتل أيّ بادرةٍ مستقلّةٍ  في مهدها ـ أسياسيّةً كانت أمْ ثقافيّةً أمْ رياضيّةً أمْ خيريّةً. وبعد انتهاء الحرب الباردة وتفجُّر ثورة الإعلام، المتمثّلةِ في القنوات الفضائيّة والإنترنت، ضعفتْ ركائزُ هذه الأنظمة، وفُتح بابُ تغييرها.
لم يعد المعسكرُ الرأسماليّ مستنفرًا ضدّ أيّ تغيير يطاول أحدَ الأنظمة الحليفة مخافة أن يصبّ في صالح المعسكر الاشتراكيّ ( ولاسيّما أنّ هذا الأخير ظلّ لفترةٍ طويلةٍ يشكّل نموذجَ جذبٍ لشعوب البلدان النامية في وصفه نظامًا عادلاً في توزيع الثروة في الداخل وفي المواقف من قضايا الشعوب في الخارج). بل صار في مقدور البلدان الرأسماليّة الفاعلة (الاتحاد الأوروبيّ والولايات المتحدة) أن تتعامل بأعصابٍ باردةٍ مع حركات التغيير الناشئة، لا بل أن تتبنّاها وتساندَها وهي مطمئنّة إلى أن “خراجها لها أينما أمطرتْ،” استنادًا إلى آليّات النهب الاقتصاديّ المدعوم بسيطرةٍ سياسيّةٍ وعسكريّة. لم يعد تغييرُ النظام الرأسماليّ مدرجًا اليوم كمهمّةٍ سياسيّةٍ عقب انتكاس الاقتراح الاشتراكيّ الذي بشّر بنسف الأساس الموضوعيّ للظلم الاجتماعيّ من خلال نسف الملْكيّة الخاصّة لوسائل الإنتاج. فانتهاءُ الحرب الباردة حرّر الصراعاتِ الاجتماعيّة السياسيّة من وطأة الاستقطاب (الاشتراكي ـ الرأسماليّ) الذي فرضتْه تلك الفترة، وأظهر أنّه كان طارئًا أو زائفًا، وأنّ ما يَحْكم تاريخَ العالم الحديث في العمق هو التوتّرُ بين توحّد العالم اقتصاديّاً (وما يقتضيه من عولمة) وتفتّتِه السياسيّ. لم يختفِ حلفُ الناتو العسكريّ مثلاً باختفاء حلف وارسو العسكريّ؛ ذلك لأنّ السبب الأساس لوجود الناتو هو أنه القوة المباشرة لحفظ مصالح المراكز الرأسماليّة المسيطرة، إنْ من حيث تأمين المواد الأوليّة والممرّات المائيّة والنقل، أو من حيث تأمين الأسواق. يمكن القولُ اليوم، إذن، إنّ السياسة هي ما يعوِّق توحّدَ الاقتصاد العالميّ (بتفتّت العالم سياسيّاً إلى دول يُفترض أنها ذاتُ سيادة)، وهي ما يسهّله في الوقت نفسه (بالهيمنة السياسيّة والاتفاقيّات والتدخّل العسكريّ…). وربّما يساعدنا هذا الإطارُ في فهم مجال تحرّك الانتفاضات العربيّة.
وممّا ساعد أيضًا في اندلاع هذه الانتفاضات تحرّرُ الوعي العامّ، جرّاء ثورة الاتصالات الهائلة،  من الاحتكار الرسميّ. فبانت الأنظمة العربيّة، أمام الوعي العامّ، أنظمةً عائليّةً فاسدةً مستبّدةً ذات دورٍ رئيسٍ في بؤس الناس وإذلالهم وإفقارهم. وكان من شأن ثورة الإعلام والتواصل أيضًا أنْ حدّت من حريّة أجهزة الأمن، إذ باتت تصرّفاتُ هذه الأجهزة مادّةً إعلاميّةً تُعرض على الملأ وتؤثّر تأثيرًا كبيرًا في تعرية الأنظمة الاستبداديّة أخلاقيّاً.
هذه التغيّرات المهمّة مهّدتْ لتفجّر القهر المزمن المتراكم على شكل انتفاضاتٍ شعبيّةٍ اتصفت بأنها:
1ـ انتفاضاتٌ بلا منظّرين وبلا قيادة سياسيّة (هل ستنقُضُ هذه الانتفاضاتُ الأطروحةَ اللينينيّةَ الشهيرة: “لا حركة ثوريّة من دون نظريّة ثوريّة”؟). فقد ابتكرتْ قيادتَها الميدانيّةَ والسياسيّةَ، في حين اكتفت القياداتُ المعارضةُ التقليديّة بتكرار القول إنها “صدًى لصوت الشارع،” مستقيلةً بذلك من أيّ دور قياديّ فعليّ. والحال أنّ هذه القوى غرقتْ سنواتٍ طويلةً في وضع برامج سياسيّة تمكّنها من أن تبرّر وجودَها، وأن تثْبتَ ـ نظريّاً ـ جدارتَها بقيادة المجتمع، بما يسوِّغ لها طرحَ نفسها بديلاً من النظام القائم؛ وكانت ترى أنّ طرحَ شعار “إسقاط النظام” من دون تقديم برنامج متكامل للمجتمع ضربٌ من “الولدنة السياسيّة.” ومع كساد برامج التغيير خلال العقود الثلاثة الأخيرة وجدت القوى المذكورةُ نفسَها على الهامش، إلى أن جاءت الانتفاضاتُ الشعبيّة الكبيرة فأعطتها المسوِّغَ الأخلاقيّ والسياسيّ لطرح فكرة “إسقاط النظام” بصفته التكثيفَ الملموسَ لكلّ عناصر تخلّف المجتمع وذلّ أبنائه. إنّ انتفاضاتٍ كهذه هي وحدها من تستطيع أن تقول بكلّ بساطة إنّ “الشعب يريد إسقاط النظام،” وأن تحوز قبولاً واسعًا لم يكن يمكن أن تحوزه لو كانت تحت قيادة جهةٍ سياسيّةٍ معيّنة، إذ كان سيبدو الأمرُ صراعًا على السلطة لا مسعًى تغييرًا حقيقيّا، في حين أنّ هذه الانتفاضات غير حزبيّة وغير إيديولوجيّة، أيْ إنّها “بريئة” سياسيّاً ولا يمكن تشويهُ تحرّكها بأنه صراع على سلطة. وهذا شكّل نقطة قوة للانتفاضات، لكنه شكّل مع الوقت نقطةَ ضعفٍ لها في البلدان التي صمد فيها النظامُ طويلاً في وجه انتفاضته.
2ـ انتفاضاتٌ يغلب عليها عنصرُ الشباب: شباب تجاوزوا حدودَ أسلافهم، وابتكروا أشكالَ الاحتجاج والشعارات الخاصّة بهم. لكنْ، إذا كانت هذه الصفة فعّالةً في زعزعة النظام، نظرًا إلى كفاحيّة الشباب العالية واستعدادهم للتضحية ومهاراتهم الميدانيّة، فإنها لا تخدم في مرحلة البناء اللاحقة المفترضة حيث لا برنامج محدّد ولا رؤية سياسيّة واضحة ولا خبرة.
3ـ انتفاضاتٌ خرج فيها المتظاهرون على الواقع المزري بشعاراتٍ سياسيّة/اجتماعيّة “داخليّة” محض (حريّة، ديموقراطيّة، رفض الفساد والذلّ، إسقاط النظام، الخ)، أيْ من دون أدنى إشارة إلى المسائل “الوطنيّة” التي تعانيها هذه البلدان. لم يتمّ التطرّقُ كثيرًا إلى اتفاقيّة كامب ديفيد في مصر مثلاً، كما لم يهتفْ متظاهرو سوريّا ضدّ إسرائيل التي تحتلّ أرضَهم ولا ضدّ أمريكا التي تساندها في اغتصابها وعدوانها. لقد بدت هذه الانتفاضاتُ تجسيدًا حيّاً لفكرة إدوارد برنشتاين “الهدف لا شيء، الحركة كلّ شيء” ـ وهي فكرةٌ طالما هوجمتْ، وتعني حلّ المشاكل المباشرة الملموسة التي تعترض الناسَ من دون توجيه نشاطهم أو قياسه على هدفٍ بعيدٍ موضوعٍ سلفًا.
حدود التوقّعات
تتحرّك هذه الانتفاضاتُ ضمن حدودٍ ضيّقة، ويبدو لي أنّ مآلاتها سوف تقصر عن أحلام صانعيها وأنصارها، على الأقلّ في المدى المنظور. فالبلدان التي نجحتْ فيها الانتفاضة في إسقاط رأس النظام تمرّ في مرحلةٍ انتقاليّة، تطول أو تقصر، مضمونُها الأساسُ نزعُ جذور النظام القديم الذي يمتلك القدرةَ على التخريب في ظلّ ليونة عُود النظام الجديد، وهو ما قد يصل بالبلد إلى فوضى تدفع بالناس ربّما إلى قبول انقلابٍ عسكريّ لإعادة الأمن حفظًا للحياة والممتلكات. ولا أظن أن حلفاء هذه الانتفاضات اليوم، ولاسيما العرب منهم، سوف يستاؤون من وعورة هذا البرزخ بل أخالهم سوف يساهمون في زيادة وعورته لجعل هذه الانتفاضات التي فرضت نفسها عليهم نموذجاً لا يحتذى. تماماً كما فعلت الدول التي خافت أن يتكرر سيناريو احتلال العراق فيها فلم تكتف بدعم مقاومة هذا الاحتلال (لكي لا تفكر أمريكا باحتلال آخر) بل ساهمت أيضاً في التقتيل الطائفي الرهيب والعبثي (لكي لا يرغب الناس في التجربة العراقية، ولا غير العراقية، في “الديموقراطية”).
وسوى الخشية من مثل هذا الانقلاب العسكريّ، فإنّ هناك خطرَ الاستسلام للتيّار الإسلاميّ. هذا التيّار يمتاز بقدرته على الحشد الواسع والسريع، وعلى الانضباطيّة والمرونة التنظيميّة، بما يرشّحه لحلّ مشكلة الفوضى وغياب الدولة إذا وقعتْ ودامت طويلاً. وأنا أسمّي ذلك “خطرًا” لأنّ هذا التيّار، مثل التيّار الشيوعيّ، إقصائيّ واستعلائيّ وغيرُ ديموقراطيّ بطبعه ما لم يُفرضْ عليه (من قوًى داخل المجتمع) أن يعدّل من طبيعته. فإذا كان الشيوعيون يروْن في أنفسهم ممثّلين للحتميّة التاريخيّة (ولا يعتقدون أنّ الناس سيقفون بين أيديها يومًا ليسألوا عمّا كانوا يفعلون!) ويروْن أنّ هذا يخوّلهم إقصاءَ “الرجعيين،” فكيف بالإسلاميين الذين يروْن في أنفسهم ممثّلين لمشيئة الله؟! وما يزيد في الخشية من هذا الخطر هو شحنُ الجمهور المنتفض بشعار “الديموقراطيّة السياسيّة” الخالية من أيّ مضمونٍ عداليّ اجتماعيّ. غير أنّ هذا الخطر الإسلاميّ يتراجع إذا تمكّنت القوى العلمانيّة والمدنيّة من تنظيم نفسها وتثقيل كفّتها في المجتمع.
أما على مستوًى أعمق، فتجد الحركةُ الشعبيّةُ العارمةُ نفسَها محصورةً في حدود العلاقات الرأسماليّة التي لا تنضب وسائلُها في إعادة إنتاج علاقة السيّد والعبد. ولتوسيع هذه الحدود (ولا نقول كسرها) وتحقيقِ مستوًى ما من العدالة الاجتماعيّة، يتعيّن على هذه الحركة المضيُّ طويلاً في طريق إسقاط سلسلة استبداداتٍ مفروضةٍ من الداخل والخارج. وهذا ما تشهده مصرُ اليوم، ويمكن أن يفضي على المدى البعيد إلى ترسيخ آليّاتٍ تحمي المواطنَ نسبيّاً من جور النظام الرأسماليّ الذي يعمّم ثقافة الديموقراطيّة وحقوق الإنسان ولكنه يولّد في الوقت نفسه المزيدَ من الإفقار والتهميش.
أما في سورية واليمن، حيث لم يُحسم الصراعُ بعد شهورٍ طويلةٍ من الحراك المتواصل، فإنّ المخاطر تبدو أشدّ. من القواسم المشتركة بين الحالتين: 1) التماسكُ النسبيّ للدولة، وتماسكُ الجيش وعدمُ حياده، رغم طول أمد الانتفاضة وحجمها. 2) فتورُ المواقف الدوليّة والعربيّة منها. في مصر وتونس، حُسم الصراعُ سريعًا بفضل حياد الجيش، ولكنّ وقوف الجيش في وجه الحراك في سوريا واليمن يهدّد الانتفاضةَ أو سلميّتها ـ وفي الحالين خسارةٌ كبيرة: فعسكرةُ الانتفاضة ليست طريقًا لانتصارها إلّا إذا حصلتْ على دعم عسكريّ خارجيّ لن يكون بلا ثمنٍ ثقيل (كما في المثال الليبيّ)، وتراجعُ الانتفاضة بعد كلّ هذه التضحيات والخسائر سيعني نكوصًا اجتماعيّاً لعقودٍ قادمة (كما في المثال البحرينيّ). وبين الاحتمالين، تختطّ الانتفاضتان السوريّة واليمنيّة لنفسيهما طريقًا شاقّاً للنصر.
وفضلاً عن طبيعة المخاطر المحيطة بهاتين الانتفاضتين، اللتين تلمسان التشابهَ بينهما وتعبّران عنه في الهتافات هنا وهناك، وقد كان اسمُ جمعة 30/9/2011 مشتركًا بينهما (“النصرُ لشامنا ويمننا”)، فإنّ طول أمد القمع وشراسته يحصران حركة الاحتجاج في المناطق والفئات الأكثر استعدادًا للتضحية والأكثر راديكاليّة. ومن شأن هذا أن يعطي صورةً مجزوءةً عن جمهور الانتفاضة الحقيقيّ، الأوسعِ والأكثرِ تنوّعًا والأقلِّ ظهورًا، وأن يعكس نفسه على مرحلةِ ما بعد تغيير النظام.
Archives
April 2024
M T W T F S S
« Jul    
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
2930