سنتناول في هذا القسم مسألة شديدة الحساسية هي مسألة العلاقة بين محمد الرسول ومحمد القائد السياسي، ومحنة العقل في هذا التجاذب المستمر بين الدين والسياسة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بين الدين والسياسة
في الجاهلية كان الدين حاضراً في الدنيا ولكن على نحو مختلف عن حضور الدين الإسلامي في الدنيا. قريش مثلاً لم تكن تؤمن باليوم الآخر, كانت تعتقد
أن رضا الآلهة عن الفرد ينعكس مباشرةً في توفيقه في الدنيا, أي العلاقة بين رضا الله ورضا الفرد علاقة شفافة ومباشرة. ولعل هذا ما يفسر استغراب زعماء قريش وثقيف من اختيار الله محمداً للرسالة دون غيره وهو رجل متوسط الحال. فاليسار الذي يحياه هؤلاء عنى لهم رضا من الله, لذلك من الطبيعي أن يختار الله لرسالته واحداً من الذين يرضى عنهم. وقد جادل بعضهم محمداً في هذا. لاحظ الآية 31 من سورة الزخرف: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}؛ الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي مثلاً.
وقد جاء محمد ليخلخل هذه العلاقة ويفك الارتباط بين رضا الفرد ورضا الله, بتأكيده على يوم الحساب. رضا الله, حسب الدعوة الإسلامية, أمرٌ في علم الغيب؛ الشيء الذي يشكل إطاراً ملائماً للنشاط السياسي من زاويتين:
1- نزع الشعور الساخط الذي يعتمل نفوس الفقراء ضد آلهة ضنينة, وفتح أفق واسع لكرم الله (كرم أخروي).
2- تحفيز الأفراد للسعي وراء رضا الله الذي يعني الخلود في النعيم.
وقد بقي موقف الله من الفرد أمراً بعيداً عن مدارك العقل, حتى أن صحابة محمد الذين حملوا الدعوة على أكتافهم لم يكونوا مطمئنين إلى رضا الله عنهم, وهذا ما يفسر القيمة الكبيرة التي أولاها المسلمون الأوائل لتبشير محمد إياهم بالجنة. يلفت النظر ما يروى عن أحد المبشرين بالجنة (عبد الله بن رواحة), وهو من الذين أسلموا قبل الهجرة وأحد النقباء بعد بيعة العقبة كما أنه كان من كتبة الوحي ومن المشاركين في غزوة بدر(*), أنه كان يبكي كلما تليت الآية التي تقول: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيا}, قائلاً لست أدري أأنجو منها أم لا. ومعلوم أن عبد الله ابن رواحة هذا كان القائد الثالث في حملة مؤته بعد زيد بن حارثة وجعفر ابن أبي طالب, التي قتل فيها زيد بن حارثة ثم جعفر ابن أبي طالب فتردد ابن رواحة في تسلم الراية ومواصلة قتال غير متكافئ لكنه تمالك نفسه وأقدم وقُتل. وهذا التردد اللحظي جعل سريره في الجنة منحرفاً عن سريري القائدين السابقين كما رأى الرسول فيما يرى الرسل.
واضح أن هذا التشدد في رضا الله ساند الجانب السياسي واستجر أقصى قدر من الانضباط. وإذا كان محمد قد تعامل مع الواقع القبلي بحذر متلافياً الاصطدام به بالقدر الممكن, فإنه ألغى هذا الواقع في السماء بحزم, ففي السماء لا تزر وازرة وزر أخرى ولا يغني عن المرء ماله وما كسب. الحقيقة أن هذا التوتر بين الأرض والسماء يسم التاريخ الإسلامي بميسمه؛ وقد تجلى ذلك في حركات أرادت أن تشد الأرض إلى السماء أو العكس. في الدين العلاقة مباشرة بين الفرد والله, ليس ثمة تراتبية دينية في الإسلام. إن قول محمد: “لا طاعة في معصية”, يعني أن هناك فكاك بين الموقع السياسي والموقع الديني, فالحاكم السياسي قد يأمر في ما يعارض الدين وعندئذٍٍ يجب عدم طاعته. إحدى فرق الخوارج (النجدات) أرادت مثلاً أن تطابق السياسي على الديني مباشرة فدعت إلى إلغاء أي تراتب رافضين وجود خليفة أصلاً.
وتجد هذه التوترات منشأها في حقيقة أن محمداً كان في كل لحظة من لحظات دعوته تتنازعه لحظتان سياسية و دينية, لكل منطقها الخاص. اللحظة السياسية لحظة ظرفية تتحرك على مستوى الإرادة, لحظة كسب الأتباع وتعبئتهم وقيادتهم, وهذه اللحظة تعتمد مبدأ الجدوى ولا تكترث بالاتساق المنطقي, فالعقل السياسي عقل غائي لامنطقي؛ في حين أن اللحظة الدينية تتطلب مقداراً من الاتساق المنطقي والابتعاد عن الظرفية, فهي لحظة عقلنة الشعور الديني اللاواعي وإحضاره إلى ساحة الوعي وضبطه في صيغ معقولة. والتداخل بين تينك اللحظتين خاصية إسلامية بارزة, اللحظة السياسية تحمي اللحظة الدينية وهذه تؤازر تلك. والواقع أن هذا التداخل إشكالية إسلامية مستعصية. وعلى تربة هذه الإشكالية نشأت وتنشأ حركات ما يعرف باسم الإسلام السياسي.
ِِِِِِ العقل بين الديني والسياسي:
كان العقل هو الطريق الذي سلكه محمد للوصول إلى الله, وخلافاً للرسل السابقين جميعاً, لم يأت محمد بمعجزة تخترق حدود العقل. وقد كرر محمد قوله بأن المعجزات التي أتى بها من سبقه من الرسل لم تقف حائلاً دون تخلي العباد عنهم واضطهادهم. إذن ليس أمام الدعوة إلا أن تحمي نفسها بنفسها في وجه المترفين، أي أصحاب السلطة. وقد اعتبر المسلمون هذا الأمر ميزة للدعوة الإسلامية, اسمع البوصيري يقول:
لم يمتحنا بما تعيا العقول به حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهم
وحين نقول إن محمداً اعتمد العقل وسيلة لبلوغ الله لا نقصد أنه اعتمد التفلسف بل أنه أيقظ في العقل ملكة التأمل، وقد حدد له الوحي دوره في الفترة الأولى بالتذكير وهو يعني كسر حالة الألفة التي تنشأ بين الناس والمحيط وتحريض التساؤلات الأولية لديهم. ها هو القرآن يوقظ في الإنسان الأسئلة التي خدرها الاعتياد و الألفة؛ انظر مثلاً سورة الغاشية المكية: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فذكر إنما أنت مذكر}.
ليس في هذا الطريق العقلي تفلسف من أي نوع؛ إنه استقراء لاهوتي، إن صح القول، أقصد بذلك الخروج من واقع ملموس إلى حقيقة مطلقة، من غنى الطبيعة إلى وجود الخالق. هذا في الجانب العقيدي أما في مجال السياسة فيتوجب تحييد عقل الجمهور بالقدر الممكن ذلك لأن السياسة تحتاج إلى جيش منفذ, جيش بأعلى قدر من الطاعة وأقل قدر من النقد والتفكير. ولأن محمد تحرك أساساً في هذا المجال فقد اقتضى منه الأمر أن يرد العقل إلى حالة معدومة الفعالية تقريباً. وإذا كان الرسول قد نبّه في عقول جمهوره ملكة التأمل والتساؤل في المسائل الكبرى كي يصل بهم إلى الله عبر عملية استقراء لاهوتي, فإنه كرّس, حين انتقل إلى ساحة السياسة، حالة لاأدرية، ليس للعقل فيها فاعلية تذكر. الآية 211 من سورة البقرة ترمي العقل في متاهة لا أمل له فيها: {قسم يقولون آمنا وهم لا يؤمنون … في قلوبهم مرض وهم لا يشعرون}. إذا كانت حالة النفاق مفهومة على أنها سلوك واع يمارسه الفرد لغرض محدد، فإن الحالة التي تذكرها الآية المذكورة تعني أن المرء لا يستطيع أن يعرف بقدراته العقلية هل هو مؤمن أم كافر. الأمر نفسه ينطبق على الآية 216 من السورة نفسها: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}. وفيما ينقل من أحاديث عن الرسول يلفت النظر وصيته لزيد ابن حارثة قبل غزوة مؤته: (إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم ولكن أنزلهم على حكمك فأنت لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا). هناك إذن دائرة لا يصلها العقل، المؤمن متروك بالتالي في رهبة دائمة أيكون مرضياً عنه أم لا, ولا دليل له في هذه المتاهة سوى طاعة الرسول وأولي الأمر لأن الله أمر بذلك. هذا المناخ النفسي ملائم تماماً لخلق جيش سياسي منفّذ.
كان الإنسان في الجاهلية يختبر الآلهة ويكافئها وليس العكس. يطلب الجاهلي من آلهته شيئاً ثم يكافئها إذا ما حققت الأقدار له مطلبه أو يغضب إذا لم تحققه. لاحظ مثلاً قصة عبد المطلب (جد الرسول) وعزمه التضحية بأحد أبنائه العشرة لأن الآلهة استجابت له بأن رزقته عشرة أبناء. وسوف تعود هذه الذهنية بعد أن يتحول الإسلام من دين حركة إلى دين استقرار. لا يستوعب الرجل كيف يصلي لإله لا يرزقه سعة في الدنيا:
تلوم على ترك الصلاة حليلتي فقلت اغربي عن ناظري أنت طالق
لماذا أصلي؟ أين باعي ومنزلي وأين خيولي والحلي والمناطق؟
وأين عبيد كالبدور وجوههم؟ وأين جواريّ الحسان العوانق؟
أصلّي! ولا فتر من الأرض يحتوي عليه يميني ! إنني لمنافق!
أن يصلي الفقير إلى الله يبدو في نظر الشاعر نفاقاً لأن الشعور الحقيقي لدى الفقير تجاه
الله هو السخط. هذا الإحساس القوي بالدنيا لا يصلح كأساس لحركة سياسية تتطلب تضحيات، بل يصلح كأساس للصعلكة التي تسعى لانتزاع التوفيق من الله انتزاعاً. ها هو القرآن مرة أخرى يفك الارتباط بين التوفيق الدنيوي ورضا الله. {زين للذين كفروا الحياة الدنيا} الآية 212 من سورة البقرة. العمل الصالح هو الثروة السماوية التي لا تفنى وهي متاحة للجميع.
هذا القلب في العلاقة بين رضا الله ورضا الفرد واكب القلب الذي حققته الدعوة أو سعت إليه بين أولوية الولاء للقبيلة أم للأمة. وكلا التحويلين صبّ في خانة واحدة هي تشكيل حزب متماسك للدعوة.
في مجال الدين اعتمد محمد الاستقراء اللاهوتي، أي اعتمد العقل وكرّس الثقة بحكمه؛ فالقرآن يكرر التساؤل: {أفلا يعقلون}، كما أن آياته تتوجه {لقوم يعقلون}. أما في المجال السياسي فقد حيّد العقل ليجد المسلم نفسه في متاهة خيطه الوحيد فيها هو طاعة الرسول وأولي الأمر. وكي يحقق هذا التحييد “السياسي” اتكأ الرسول على القوة الدينية للوحي. على العقل أن يستيقظ من خدر العادة وبلادة التقليد كي يصل من عظمة الطبيعة إلى عظمة الخالق، ثم عليه أن يستقيل بعدئذٍ مستسلماً لمقتضيات حزب الدعوة. سوف يكون من باب ضيق الأفق محاولة فهم المستوى الديني في الدعوة المحمدية بعيداً عن المستوى السياسي. للمستوى السياسي منطقه الذي لا يقبل إقحام منطق آخر عليه، لذلك كسر المتمنطقون (علماء الكلام) رؤوسهم في حل المسالة التي عرفت في التاريخ الإسلامي باسم مسالة التسيير والتخيير؛ وقد كسروا رؤوسهم لأنهم كانوا يحاولون تربيع الدائرة. كيف ستجد منطقاً غير سياسي في هذا التباين بين الآيات التالية:
{لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون}. (تخيير). السورة21 الآية23.
{من يرد الله أن يهديه يشرح له صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقاً}. (تسيير). السورة6 الآية125.
فما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله}. (تسيير). السورة 10 الآية100.
{قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}. (تخيير). السورة18 الآية29.
لا تتسق هذه الآيات إلا بردّها إلى المستوى السياسي(*) الذي يعطيها تماسكها “الإيديولوجي”. أما المستوى العقائدي الذي يتطلب حداً معيناً من المنطق فمن العبث البحث عنه، و”تخريجات” علماء الكلام دليل على ما نقول. ومن المناسب أن نذكر هنا ما توصل إليه المعتزلة بعد طول محاجة مع الأشاعرة من أن الكلام يُحمل كما يشاء الباحث، فمعرفة دلالة القرآن مستحيلة إلا بعد العلم بالمتكلم “الله” ومعرفة أنه “واحد وعادل”(+). وبدفع هذا المنطق قليلاً يتوصل أصحابه إلى أن معرفة الله سابقة على معرفة القرآن وبالتالي فإن القرآن نافل، طالما أن قصد المتكلم لا يعرف من الكلام بل من معرفة المتكلم بالعقل. اللغة (بما فيها لغة القرآن) أداة التباس إذن وليست أداة تواصل.
مسألة الناسخ والمنسوخ تنتمي أيضاً إلى الإشكالية ذاتها التي لا تجد حلها إلا في ردّها إلة مستواها، المستوى السياسي. تتماسك هذه العناصر المتفارقة بردها إلى المستوى السياسي المعاصر لحركة الدعوة بما هي حركة تغيير ثوري في مجمل حياة الجزيرة العربية, ولكنها تعود لتفقد هذا التماسك حين تغدو عناصر في إطار سلطة مستقرة. ولا حل لهذه المشكلة التي لم تنفك تتفجر عبر تاريخنا كله، إلا بفرز السياسي والديني، الزمني واللازمني في الدعوة. إن السعي إلى إيواء الزمني تحت سقف اللازمني، أعاق ولا يزال محاولة سيطرة مجتمعنا على تاريخه. ندرك أن التداخل بين الزمني واللازمني في الدعوة المحمدية ليس مفتعلاً، واستمراره اليوم لا ينبع من سيطرة أيديولوجيا رجعية ما على مجتمعاتنا، كلا، إن هذا التداخل سمة مميزة للدعوة المحمدية، لذلك فإن مهمة الفرز بين الزمني واللازمني ليست مهمة أيديولوجية بل مهمة علمية ستجد نفسها مضطرة للخوض في المجال المقدس كي تخرج اللامقدس من الدائرة القدسية. وإلا فإن الفشل هو مصير كل التنظيرات التي تتناول موضوع العلمانية. يتيح لنا فهم تداخل السياسي والديني أن نتحرر من معضلة التأويلات اللامتناهية والعقيمة مع ذلك للنصوص، التأويلات التي ترفع النص من سياقه وتعمل فيه تأويلاً مسبغةً عليه طابعاً إطلاقياً.
وإذا كان الدمج بين الدين والدنيا قد قاد منذ أكثر من أربعة عشر قرناً إلى نهضة حضارية رائعة فإن الفصل بينهما يبدو المخرج الوحيد من التدهور الحضاري الذي تعيشه مجتمعاتنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في القسم السادس والأخير سننظر فيما يمكن تسميته عادة الثورة، كيف ولماذا تأكل الثورة أولادها؟ هل ثمة قانون لهذه الظاهرة المطردة؟ وهل ثمة فكاك من هذه الظاهرة المأساوية؟