في هذا القسم الرابع سنتناول العلاقة التي تربط السياسي بالعقيدي، وأصالة الفهم الذي أبدته الحركة الإسلامية الأولى لهذه العلاقة. وسنلمس أنه لا توجد علاقة ضرورية بين التوحيد (المركزية الدينية) والوحدة (المركزية السياسية)
:التوحيد والوحدة
اللحظة السياسية في الجزيرة العربية مع بداية القرن السابع الميلادي هي التي صاغت شكل وآلية الدعوة المحمدية, فمحمد استلم الرسالة عندما كان في الأربعين من عمره, أي بعد أن عاش مشاكل قومه وفكر فيها طويلاً. رجل في الأربعين, لا شك أن مسائل الدنيا نسجت وعيه واستجاباته ومسالكه. ومن المعلوم أن محمداً كان خبيراً بتفاصيل حياة العرب في الجزيرة العربية, وليس من الأمانة القول أنه عاش حياة تنسك, فمن عاش كذلك لن يستطيع مخاطبة الوفود التي وفدت إليه مسلمةً كل بلهجته؛ ومن عاش كذلك لن يكون لديه ذلك الحس العملي الرائع الذي ميّز الرسول ومكّنه من تلافي أزمات كان يمكن أن تكون قاتلة. كل هذا ناجم عن تمرس دنيوي جيد وليس عن وحي, فالرسول نفسه أكد مراراً أن الوحي يقتصر على القرآن. ومعلوم أن قصة الحجر الأسود, التي أظهر فيها الرسول براعة وحكمة دنيويين جرت قبل هبوط الوحي بسنوات. وقد تجلّى الوعي “الدنيوي” عند محمد في أمثلة كثيرة, منها مثلاً قراره في الهجرة إلى الحبشة, ثم قراره في أن لا ينزل منزل أحد من الأنصار تاركاً الأمر لناقته “المأمورة” كي يتجنب جرح مشاعر طرف في مجتمع للمشاعر فيه مكانة مرموقة لا تقل عن مكانة الماء والعشب وقد تزيد؛ ثم فكرته الخصبة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ ثم تجنبه التصادم الوشيك بين المهاجرين والأنصار على طريق العودة من غزوة بني المصطلق,حيث أمر الركب بعدم التوقف عن المسير إلى أن وصلوا المدينة ولم تبق لديهم طاقة للمشاحنة فناموا ونامت الفتنة فيهم؛ ثم فكرته في بناء المسجد الذي لعب دوراً هاماً في تلك الفترة من الدعوة, حيث مثّل مركز إعلام وتعبئة ووئام روحي واجتماعي لا حدود لفاعليته؛ ومعلوم أن المسجد حلّ مشكلة العبيد المهاجرين الذين رفض الأنصار مؤاخاتهم لأنهم ليسوا أبناء قبائل, فكان المسجد مأواهم ودعوا باسم أهل الصفّة الذين من بينهم كبار الصحابة “سلمان الفارسي, المقداد, عمار بن ياسر, أبو ذر الغفاري…”. وسنلاحظ هنا، مروراً، عدم اصطدام محمد مع الأنصار في موقفهم “اللاإسلامي” من المهاجرين العبيد. ومن الدلائل أيضاً على وعي الرسول وإدراكه للعلاقات الاجتماعية التي كان يتحرك في إطارها, اختياره فريقاً من الأوس وهم حلفاء قريظة, لاغتيال كعب ابن الأشرف, وهو من يهود قريظة, وذلك لمنع ردود الفعل المحتملة في أوساط الأوس إثر مقتله. وهذا أيضاً ما طبقه الرسول في تنفيذ عملية اغتيال يهودي آخر من بني النضير أحلاف الخزرج.
كل هذا إضافة إلى مهارته في التخطيط العسكري والتنظيم السياسي, وهي أشياء تقع في مجملها خارج دائرة الوحي, تشي بأن محمداً فكّر مليّاً في شؤون مجتمعه قبل أن يبدأ بالدعوة, الأمر الذي يبرر قولنا أن السياسي كان حاضراً في الدعوة منذ نعومة أظفارها. وسوف نحاول إبراز هذا الأمر في الفقرة التالية, أما في هذه الفقرة فيهمنا أن نناقش فكرة شائعة على نحو واسع لدى العلمانيين الذين يبحثون في الدعوة المحمدية. أقصد الربط بين التوحيد الإلهي والوحدة السياسية. تعتمد هذه الفكرة على ترابط ميكانيكي موهوم بين التعددية والتفكك وبالتالي بين التوحيد والوحدة: كان العرب قبائل مشتتة وكانت آلهتهم بعدد قبائلهم لذلك توجب توحيد الآلهة لتوحيد القبائل. هذا هو منطق أصحاب هذه الفكرة وهو منطق بسيط لا شك, ذلك لأن المراكز الحضارية التي عرفتها البشرية لم تكن تعتمد التوحيد, “اليونان والرومان والفرس”, ومع ذلك فقد حققت وحدة سياسية متينة ومديدة. وليست هذه الخاصة ببعيدة عن العرب فالدول اليمنية الجنوبية (معين, سبأ, حمير) لم تعتمد ديناً توحيدياً. فقد عبد العرب الجنوبيين عدداً كبيراً من الآلهة والإلهات أهمها عشتار والمقة في سبأ و(وَدّ) في معين و(عمّ) في قتبان و(سين) في حضرموت. ومعلوم أن محاولة الفرعون أمنحوتب الرابع (آخناتون) تبني دين توحيدي شمولي انتهت إلى فشل ذريع, الأمر الذي يبرهن على غياب الترابط بين المركزية السياسية (الوحدة) والمركزية الدينية (التوحيد). فقد انتهى الفرعون إلى فشل سياسي وديني معاً, إذ تخلّى عن العرش لزوج ابنته, وبعد وفاته تم محو آثار ديانته (الآتونية) بما في ذلك اسم المؤسس (أخناتون) الذي محي حتى عن تابوته وعن الصفيحة الذهبية التي تحيط بجسده المحنط لكي تظل روحه محرومة من الراحة الأبدية. الشيء نفسه نراه مع أحد أبناء الأسرة السورية التي حكمت روما في أوائل القرن الثلث الميلادي المعروف باسم (إيلاجابال). فقد حاول أن يفرض ديانة شمولية هي ديانة شمسية تؤمن بإله واحد يدعى إيلاجابال. وقد انتهى الإمبراطور هذا مقتولاً على يد جنوده بعد أن خسر آخر أتباعه(*)
الشرط السياسي في الجزيرة العربية هو ما فرض أن يكون الدين المحمدي توحيدياً شمولياً, لأن الشرك مثّل دين التشتت والتنازع الدائم, فكان السعي إلى تغيير الواقع التعددي القبائلي المتنازع يوجب نقد الدين الذي توافق مع هذا الواقع. وحين يكون الصراع الاجتماعي خافتاً ومشتتاً فإن الحركات السياسية تستمد قوتها من الأفكار المتعالية؛ وكذا الحال في الجزيرة العربية حيث شكّل المدخل الديني ضرورة لأي مسعى تغييري في الشروط الملموسة التي يعيشها الناس. والواقع أن الاعتماد على الدين في المجتمعات ضعيفة التمايز الطبقي هو محاولة لا بديل عنها لحشد الناس في الحركة اعتماداً على الشعور الديني الملازم للإنسان إطلاقاً. وقد تحولت حتى الأفكار العلمانية إلى ما يشبه الدين في المجتمعات ضعيفة التمايز الطبقي, والماركسية مثال واضح على ذلك. ولا غرو في ذلك, فالأفكار الإطلاقية تخلق لحمة جماهيرية بديلاً عن اللحمة المفتقدة التي يفترض أن تخلقها حركة التمايز الطبقي في المجتمع.
لقد لعب الدين في المجتمعات قبل الرأسمالية دوراً مهماً في تأليف الناس وسياستها ولذا كان الدين ميدان حركة الطامحين للتغيير. وقد دخل محمد هذا الميدان ناقداً للشرك مُحيياً التوحيد الكامن أصلاً في الشرك, فالدين القرشي لم يكن وثنياً, أي الأوثان لم تكن تعبد لذاتها, كما هو معروف, بل كانت واسطة إلى الله, والشيء نفسه ينطبق الآن على الكثير من ممارسات الإسلام الشعبي (التقرب إلى الله عبر المزارات أو أصحاب الكرامات..الخ).
اعتبر محمد أن الديانة الأصلية للعرب هي التوحيد, دين إبراهيم جد العرب, وذلك رداً على من انتقده بأنه (يسفّه حلوم آبائنا), متلافياً الاصطدام بعنصر مهم في العرف القبلي, أقصد احترام الأسلاف. فقد وضع محمد نفسه في تحالف مع الأجداد ضد التشويه الذي يمارسه القرشيون بحق ديانة الأجداد التي جاء ليعيد لها مكانتها. وانسجاماً مع شمولية الدين الإسلامي اعتبر محمد أن الإسلام هو دين الفطرة, هو دين الإنسان.
إذن محمد لم يأت بدعةً في أيامه بل جاء يحيي ما هو كامن أصلاً في الدين القرشي الإشراكي. وقد كان شديد التأكيد على اعتبار الشرك محرق النقد والمحاربة؛ فالله يغفر كل شيء ما خلا الشرك.
ليس ثمة توافق ضروري بين الدولة المركزية والدين التوحيدي, لكن ثمة توافق ضروري بين التوحيد والحركة السياسية التي تنشأ في ظل تفتت سياسي وعقيدي وتهدف إلى بناء دولة مركزية انطلاقاً من هذا الواقع.
************************************
سنتناول في القسم الخامس الخيط السياسي الذي يشبك أحداث الدعوة سواء في طورها السري والجهري، كما سنتطرق إلى الطبيعة الشخصية للرسول، هذه الطبيعة التي كان لها دور غير قليل في إنفاذ الدعوة ونجاحها.