هذا هو القسم الثالث من دراسة السيرة الدنيوية “السياسية” للدعوة الإسلامية الأولى. ويبدو لي أن راهنية هذه السيرة (وهذا القسم بوجه خاص) تساوي ولعلها تتفوق على تاريخيتها، نظراً إلى أن هذه السيرة تشكل مرجعية ومنهل لا ينضب لحركات سياسية فاعلة في حياتنا السياسية، حركات تتناول هذا الإرث بطريقة “كلامية” (نسبة إلى علم الكلام) لا عقلانية، أي بطريقة تهدف إلى التعبئة وليس إلى المعرفة. وهذا ما قد يعطي لهذا العمل قيمته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:قرن الشهادتين
:لنصغي إلى هذا الحديث بين محمد وأبي سفيان حين كان جيش المسلمين على أبواب مكة قبيل فتحها
محمد: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟
أبو سفيان: والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئاً بعدُ.
محمد: ويحك يا أبا سفيان, ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟
أبو سفيان: أما والله هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً!
غير أن أبا سفيان ينطق الشهادتين تحت سيف العباس الذي توجه إلى النبي قائلاً: إن أبا سفيان يحب الفخر فاجعل له شيئاً, فقال رسول الله “نعم! من دخل دار أبي سفيان فهو آمن”.(*)
تردد أبو سفيان في ربط الشهادتين لأنه تردد في تقديم الطاعة للسلطة الزمنية. فالشطر الأول من الشهادة لا يلزمه بشيء عملياً, لكن الشطر الثاني يعني خضوعه لمركز دنيوي أعلى هو جنين دولة. وقد جاء سيف العباس ليحسم تردد أبي سفيان, ثم جاء طلب العباس ليعزز المكانة الدنيوية “السلطة المركزية”, لمحمد بكسب زعيم قريش من خلال منحه شرفاً ما “أمانة داره”.
لقد كان محمد حازماً في ربط الشهادتين, وكان هذا الربط هو الجسر الذي عَبَر عليه اللازمني لمؤازرة الزمني, أو قل هو النافذة التي أطل منها الدين على الدنيا. وهذا الربط هو ما أخرج محمد من الدائرة المفرغة التي استهلكت جهود ونشاطات الحنفاء السابقين الذين اقتصرت دعوتهم على الوعظ الديني الذي اعتمد أركاناً أربعة لم يخرج عنها محمد:”حجّ البيت, اتباع الحق, وملّة ابراهيم, والإخلاص لله وحده(**).
فلم تكمن الثورة التي حققها محمد قياساً على الحنفاء في دائرة الدين حصراً بل في إدخال العنصر السياسي في مجال نشاطه منقذاً نفسه من الدائرة الحنيفية المفرغة. بكلام آخر: لم يكن في أفق الدعوة الحنفية الانتقال من سلاح النقد إلى النقد بالسلاح؛ وقد كسر محمد هذا الأفق الضيق حين زاوج بين الوعظ الديني والعمل السياسي زواجاً أثبت أنه مدهش في خصوبته. ومن يفوته ملاحظة هذا الاختلاف بين محمد والحنفاء لن يعثر على تفسير نجاح محمد وفشل الحنفاء بالرغم من طول مدة وعظهم وعراقته (هناك من يعيد جذور الإيديولوجيا الحنفية إلى ما قبل الميلاد في اليمن حيث كان أهل اليمن يعبدون إلهاً يدعى “ذوى سموى” أو إله السماوات, كإله واحد, وكان يعرف عبّاد هذا الإله بالحنفاء)(***)ومن أهم الشخصيات التي تبنت هذا الوعظ (قس بن ساعدة الإيادي, عامر بن الظرب وهو من الثلاثة الذين دانت لهم العرب قبل الإسلام مع ربيعه بن وائل وكليب بن ربيعه, زيد بن عمر بن نفيل, أمية بن أبي الصلت, زهير بن أبي سلمى وعبد المطلب جد الرسول…). وقد تميز الحنفاء عن غيرهم بالاختتان وحجّ مكة والإيمان بالبعث والاغتسال من الجنابة واعتزال الأوثان والإيمان بإله واحد بيده الخير والشر وتحريم الخمر الأزلام, وهي عناصر أخذها محمد حرفياً. وحين يؤكد باحث مثل هادي العلوي (أن محمد بدأ دعوته واعظاً دينياً ثم انتقل بعد الهجرة إلى رجل سياسة)(****) فإنه يحرم نفسه من إمكانية فهم سبب نجاح محمد خلال الفترة المكية وسبب خشية مكة منه بالرغم من أنها كانت تحتمل الكثير من الحنفاء بين ظهرانيها.
بالفعل ظاهرياً كانت الدعوة, قبل أن تحمل السلاح, وعظية ولكن بشيء من التدقيق نكتشف أن السياسي كان يختبئ في ثنايا الديني, السياسي كان يتحكم بالديني ويغيب فيه. وأول وأهم خطوة سياسية أقدم عليها محمد هي إصراره على ربط الشهادتين, أما آلية السير بالدعوة فقد كانت آلية سياسية بامتياز. الوعظ الديني يكتفي بالهداية دون أن يتطلب من الشخص المهتدي التزامات معينة, الالتزام بسرية الدعوة وبالتعاليم “الدنيوية” للداعي والالتزام المسبق بما سيأتي من الله ومحمد لاحقا, هذا النوع من التنظيم يميز الأحزاب السياسية وليس الرسالات السماوية. والواقع أن محمد لم يخف هذا الأمر عمن يريد أن يرى؛ هو الذي كان يكرر “جئتكم بخير الدنيا والآخرة” ولم يكن قوله هذا مناورة سياسية لكسب أنصار دنيويين بل كان تعبيراً عن روح دعوته. إذا كان المسيح قد انتصر لأن سبارتاكوس قد انهزم, كما يرى ماركس, أي أن وهم الخلاص قد انتصر لأن الخلاص الواقعي قد انهزم, فإن محمد شكل نوعاً من المزج بين المسيح وسبارتاكوس, المزج بين وهم الخلاص والخلاص الواقعي, بين الدنيا وملكوت السماء. لم يكن مشروع الدعوة مجرد مواساة لقبائل أنهكها الجوع وغدر الصحراء والتنازع الدائم بل كان فوق ذلك حلاً لمشاكلها الملموسة عبر توجيه الأنظار نحو الفتح كأفق في البداية والفتح الفعلي بعدئذٍ.
شهدت الجزيرة العربية قبل محمد تشكل مركز سياسي غير ديني, مثال ذلك دولة كندة؛ كما شهدت بروز دعوات دينية لم تسع ولم تضع في أفقها أصلاً السعي إلى إنشاء مركز سياسي, ومثال ذلك الأحناف. وقد نبعت أصالة محمد من دمجه هاتين الظاهرتين المستقلتين أحدهما عن الأخرى. فسعى في البداية إلى دمج الدين والدنيا, العقيدي والسياسي, الزمني واللازمني. أو بكلام آخر: سعى إلى تأسيس مركز سياسي ديني. تلك كانت ثورته على من سبقه من الأحناف وكانت سبب “سر” نجاح مسعاه هذا النجاح المبهر حيث فشل الآخرون سواء دولة كندة أو الأحناف.
ولا شك أن الدعوة المحمدية استندت, إضافة إلى تكوينها الذاتي الذي سند الدين بالدنيا والعكس, إلى شرط موضوعي مهم تمثل في حاجة العرب المشتتين إلى التوحد, هذه الحاجة التي انتقلت في حقبة محمد من ساحة اللاوعي, إذا صح القول, إلى ساحة الوعي؛ وعبرت عن نفسها في لهفة العرب إلى “رسول” وإيمانهم أن ثمة رسول آن أوانه. ومعلوم أن مشاعر كهذه لا تعم إلا حين يصل المجتمع المعني إلى أزمة خطيرة في سياق إعادة إنتاج وجوده الاجتماعي ذاته.
وقد ازدادت حدة هذا الشعور عقب فشل المراكز السياسية العربية التي تشكلت على أطراف الجزيرة سواء تلك التي كان لها حضارة عريقة في قاعها “اليمن” أو تلك التي تشكلت كتوابع للإمبراطورية الفارسية أو البيزنطية في فوهتها “الغساسنة واللخميين”. فقد وصلت العلاقة بين العرب الغساسنة والروم إلى لحظة التصادم المباشر مما دفع بيزنطة إلى محاولة قتل المنذر ملك الغساسنة؛ وكذا الأمر بين كسرى والنعمان ملك اللخميين الذي فرّ خوف انتقام كسرى ولم تجرؤ القبائل العربية أن تجيره إلى أن أجارته شيبان من بكر بن وائل وأقنعه سيدها هانئ بن مسعود أن يسلم نفسه إلى كسرى فيعفو عنه ويعود ملكاً عزيزاً أو يقتله وهذا خير له من أن يتلاعب به صعاليك العرب. وهذا ما حصل, غير أن كسرى قتل النعمان وطلب أمانته من هانئ بن مسعود الشيباني الذي رفض تسليمها وخاض جراء ذلك الوقعة الشهيرة باسم “ذي قار”, وكانت في أوائل سنوات دعوة الرسول.
وحين نقول أن المراكز السياسية العربية التي تشكلت في فوهة وقاع شبه الجزيرة فشلت نقصد أنها فشلت في توحيد العرب وتأسيس مركز حضاري مستقل, ومن الواضح أن مثل هذا الأمر لم يكن بعيداً عن وعي زعماء هذه المراكز, فمحاولة الإمبراطور البيزنطي قتل المنذر جاءت بسبب خشية الإمبراطور “جوستين” أن يقوم المنذر بتأسيس دولة مونوفستية في سوريا, أي الاستقلال عن بيزنطة. وواضح أن للمنذر ثقل مهم أجبر الإمبراطور أن يعقد معه صلحاً, بعد أن ترك المنذر الأراضي السورية تحت رحمة اللخميين الذين سبوها طيلة ثلاث سنوات هي فترة اللاوفاق بين الغساسنة وبيزنطة, وسوف يؤكد موقف الغساسنة إبان معركة اليرموك أنهم لم يستسلموا طوال فترة خدمتهم الإمبراطورية البيزنطية إلى موقع التابع وأن شعورهم بالتمايز قادهم إلى نقل البندقية من كتف إلى كتف حين سنحت الفرصة.
ولكن لو افترضنا جدلاً أن أحد المراكز السياسية التي نشأت قبل الإسلام نجحت في التحول إلى دولة مستقلة لها كيانها وقدرتها على استقطاب القبائل العربية وعلى الفتح والإخضاع, لنفترض أن اللخميين استولوا على فارس كما استولى الساميين على بابل, (لقد كان موقع الساميين من السومريين “أصحاب بابل” شبيهاً بموقع اللخميين من الفرس), إذن لتداعى الشرط الموضوعي الذي شكل دعامة نهوض ونجاح الدعوة الإسلامية الأولى. لكن طالما أن ذلك لم يتحقق وطالما أن القبائل العربية كانت تنتظر خلاصاً ما, فإن النشاط الذي قام به محمد موحداً في شيء واحد الدين والسياسة, كان النشاط الوحيد القادر على حرث شبه الجزيرة العربية وجني المحصول الذي جناه.
*************************************
في القسم الرابع سنتناول موضوع علاقة التوحيد (الإيمان بإله واحد “المركزية الدينية”) بالوحدة (الانتماء والولاء لسلطة مركزية تقوم على بقعة معينة “المركزية السياسية”). هل صحيح أن الدين التوحيدي يقود أو شرط ضروري للوحدة؟ وهل كانت كل الحضارات المركزية تعتمد ديناً توحيدياً؟