هذا هو القسم الثاني من دراسة السيرة الدنيوية للدعوة الإسلامية الأولى، وفيها يتم تقديم اقتراح لحل اللغز الذي ما زال يشغل عقول الباحثين: ما هو سر الهجرة إلى الحبشة؟ وما هي الغاية السياسية من ذلك؟ وكيف فكر الرسول في اتخاذ هذه الخطوة التي فيها تخلى عن قسم من خيرة رجاله، وفيها من الغموض الشيء غير القليل.
الهجرة إلى الحبشة: شكلت الهجرة إلى الحبشة موضوع خلاف وحيرة كل الباحثين الذين تناولوا الفترة المكية من دعوة محمد. منهم من رأى أن محمداً تذرع بالاضطهاد الذي مارسته قريش على المسلمين ليتخلص من قسم من أتباعه ممن كان يشك في التزامهم المنضبط ببعض الإجراءات المستقبلية التي قد يقدم عليها نظراً لطبائعهم الشخصية المستقلة, ذلك أن الشخصية الرئيسية في المجموعة المهاجرة كان عثمان ابن مظعون وهو من قبيلة “جمح”, وكان قد انضم إلى الحركة مصطحباً معه ابنه وأخويه وثلاثة من أقاربه, وجميعهم هاجر معه إلى الحبشة. والأرجح أنه كان يحمل أفكاراً مشابهة لأفكار محمد وعلى نحو مستقل عنه, كما جمع حوله دائرة صغيرة من الحنفاء الموحدين. وتشير المصادر إلى وجود مقدار من العداء بين هذا الرجل (عثمان بن مظعون) وبين أبي بكر وعمر اللذان كان محمد يتبع مشورتهما. وهناك من يرى أن محمد أرسل إلى الحبشة الضعفاء من أنصاره الذين خشي أن يردهم اضطهاد قريش عن إسلامهم. يدعم هذا التفسير أن الهجرة إلى الحبشة كانت, كما تبين لاحقا, بمثابة استقالة من العمل إذ لم يكن للمهاجرين ثمة أية مهمة, وفي الأخبار أن عمر سخر من ابن مظعون لأن هذا مات في فراشه, وقد اعتبر عمر, في جدال له مع أحد المدافعين عن ابن مظعون, أن الهجرة إلى الحبشة استجمام يصل إلى حد التخلّي عن الدعوة.(*) الواقع لا يدعم أياً من التفسيرين. فابن مظعون هذا لم يشكل أي خطر على محمد كمنافس, ذلك أن ابن مظعون رجل دين منقطع إلى العبادة ولا يشكل بالتالي منافساً لسياسي متمكن كمحمد. من المعروف أن ابن مظعون زاهد و منصرف عن الحياة الدنيوية حتى أن امرأته شكت منه إلى عائشة. وتروي الأخبار أنه طلب من محمد ذات يوم أن يقوم بعملية خصي ذاتي, كردة فعل عنيفة, فيما يبدو, على انغماس القرشيين في ملاذّ الدنيا. هذا النوع من الرجال لم يكن محمد آنئذ في حاجة إليه, على العكس فقد يشكل هذا الصنف عبئاً على الدعوة يستحسن الاستغناء عنه. أضف إلى ذلك أن عثمان ابن عفان وزوجته (ابنة الرسول) كانا في عداد المهاجرين ومن غير المعقول أن يكون هذان الشخصان من أنصار جهة تنافس الرسول أو لا تنصاع لتعاليمه. من جهة أخرى, فإن وجود شخص مثل جعفر ابن أبي طالب, وهو من المؤمنين شديدي البأس, كما تأكد ذلك في معركة مؤتة فيما بعد, يجعلنا نستبعد أن يكون محمد قد أمر بالهجرة إلى الحبشة من خشي عليهم من النكوص عن إسلامهم. التفسير المعقول برأينا والذي يحل معضلة هذا الإجراء الغامض الذي أقدم عليه محمد في إبعاد أكثر من نصف أنصار دعوته إلى الحبشة (83 من أصل 154 هم مجمل من أسلم من مكة قبل الهجرة) دون أن يظهر أن لهم أية مهمة يقومون بها هناك، يكمن في حرص محمد على أن يكسب قريش إلى الإسلام منيعة قوية. فقد حرص محمد أشد الحرص على أن لا تندلع في قريش حرب أهلية(*) تنهكها وتمهد الطريق إذن أمام قبيلة أخرى لتكرر السيناريو نفسه الذي نفذه قصي بن كلاب لانتزاع الكعبة من أيدي خزاعة. الأمر الذي سيكون من شأنه أن يقتل الدعوة المحمدية في مهدها. ويعكس القرآن خشية قريش هذه من أن تخسر سيطرتها على مكة ومن ثم على الكعبة إن هي وافقت محمد على دعوته {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} الآية 57 من سورة القصص. على هذا الأساس فإن كثرة الأتباع كانت تهديداً يومياً باندلاع نار لم يحن وقتها وقد لا تمكن السيطرة عليها. لاحظ مثلاً قصة إسلام عمر، لقد أسلم عمر في بداية مشادّة مع أخته وصهره بسبب إسلامهما أوصلته إلى ضرب أخته حتى الإدماء ولكن رقة قلبه أوصلته إلى الندم ثم إلى الإسلام. لنا أن نفترض أن عمر لم يسلم إذن كانت ستندلع نار في أسرته. وكلما كثر عدد الأتباع كثرت احتمالات الصدامات المشابهة، وبغرض التقليل من هذه الاحتمالات التي قد تنمو إلى حرب أهلية شاملة، قرر محمد إبعاد جزء مهم من أنصاره لم يكن وجودهم ضرورياً في تلك الفترة، أي قبل أن يأذن الله بالقتال الذي يستدعي الكثرة. بكلمة واحدة يمكن القول أن محمد رأى في تلك اللحظة أن الدعوة تجاوزت نفسها فحاول ضبط إيقاع تطور الدعوة بقرار الهجرة إلى الحبشة. ويلفت النظر أن الأذن بالقتال تزامن مع عثور محمد على الملاذ له ولدعوته في المدينة *أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وغن الله على نصرهم لقدير*(الآية 39 من سورة الحج). وطالما أن الملأ القرشي مصر على مواجهة المسلمين لم يكن أمام محمد إلا أن يتراجع ويقلل من الاحتكاك ويسعى في الوقت نفسه إلى إيجاد ملاذ يستطيع منه أن يمارس الضغط على قريش كي يكسبها إلى الإسلام وهي في قوتها، القوة التي ستكون ذات أهمية استراتيجية للدعوة. والهجرة إلى المدينة كانت جرياً على عادة العرب في الاحتكام إلى رجل حكيم من خارج القبيلة حين يشتد النزاع وينفتح على احتمال الإفناء المتبادل. معلوم أن حجر بن عمر تملّك على العرب في نجد لأن سفهاء بكر غلبوا على عقلائها وغلبوهم على الأمر وأكل القوي الضعيف، فنظر العقلاء في أمرهم فرأوا أن يملكوا عليهم ملكاً يأخذ للضعيف من القوي، ورأوا مع ذلك أن هذا لا يستقيم بأن يكون الملك منهم إذ يطيعه قوم ويخالفه آخرون(1). واضح إذن أن أهمية قريش حيوية بالنسبة للدعوة، هذا ما أدركه محمد وتصرف على ضوئه وهذا ما بينته الأحداث التي تلت وفاة الرسول. القبائل العربية اعتادت أن تدخل تحت جناح أحد المراكز السياسية التي تكونت في الجزيرة (غساسنة، لخميون، كندة، حمير). إذ كانت قبائل البدو ترغب في الدخول تحت حماية إحدى تلك الدول لتأمن على نفسها بسبب ما فطر عليه أهل البادية من التنازع والتغازي، فكانت كل قبيلة تسعى إلى الانضمام إلى دولة تحميها وقد يتسابق بعضهم إلى التقرّب منها للتفاخر بخدمتها. ومرّت برهة من الدهر كان فيها الانتماء إلى إحدى تلك الدول كالفرض الواجب(2). ها نحن أمام مركز جديد ما أن ثبّت أقدامه في الأرض حتى هبت القبائل تدين له بالطاعة في عام أُطلق عليه اسم عام الوفود. وإذ رأت قريش بأم عينيها “ما لها عند الله” فقد رمت بكل ثقلها لحماية هذا المركز السياسي/ الديني الذي ابتدأت القبائل العربية تعترف بالولاء له. لا غرو إذن أن نرى قريش وثقيف تقودان حرب محمد بعد أن مات محمد وهما القبيلتان اللتان استبسلتا في مواجهة محمد وكانتا من أواخر القبائل التي أقرّت بالإسلام. يتضح لنا على هذا الضوء كيف يغدو عكرمة بن أبي جهل أحد قادة جيش المسلمين في حروب الردة هو الذي كان من بين الأسماء السبعة عشرة التي أمر محمد، حين فتح مكة، بقتلها ولو كانت متعلّقة بأستار الكعبة. يمكننا القول إن النجاح السياسي الذي حققه المركز الإسلامي في يثرب يعود إلى أن محمد فعّل آليات (جاهلية) في خدمة تجاوز الجاهلية. طبيعي أن قريش لم تزجّّ كل طاقتها في حرب المسلمين ضد الردة انطلاقا ًمن موقف ديني بل من موقف دنيوي. فما أن لاحت لقريش فرصة أن تقود القبائل العربية من خلال مركز سياسي حتى تمسكت بها بكل ما لديها من قوة. فالقبيلتان الوحيدتان اللتان لم تشهدا أية حالة ردّة هما قريش وثقيف وقد خدمتا في الواقع كجهاز للدولة الإسلامية الوليدة, كما هما بآلياتهما القبلية الجاهلية. الثورة التي أنجزها محمد أو أسس لها هي قلب العلاقة قبيلة – أمة إلى علاقة أمة – قبيلة. بمعنى أنه عكس الأولوية من أولوية الولاء إلى القبيلة إلى أولوية الولاء إلى الأمة (الدولة), فغدت الأمة, ممثلةً بالدولة الإسلامية الوليدة, تعلو على القبيلة التي تم الحفاظ عليها كجهة ولاء ولكن تم وضعها في سياق جديد. ولكي يمكن ذلك كان لا بد من “تفعيل” مفهوم الأمة, وقد تحقق ذلك عبر مفهوم “أمة الإسلام” التي كانت في بداية الدعوة تعني أمة العرب, حتى أنها كانت مقصورة أثناء حروب الردة وعقبها مباشرة على الأنصار والقبائل التي لم تشهد حالات ردة (قريش, ثقيف), ذلك أن أبا بكر خشي أن يشرك في حروب الفتح القبائل التي خاضت حروب الردة ضد المركز الإسلامي إلى أن قرر عمر بن الخطاب زجّ كل القبائل العربية في حروب الفتح, ليس فقط لأن الفتح يخاطب غرائز دنيوية “لا دينية” لدى القبائل فلا يُخشى بالتالي من التخاذل طالما ثمة غنائم, إنما أيضاً لأنه خشي إن بقيت القبائل العربية في الجزيرة في حين خرجت قريش وثقيف والأنصار للفتوحات أن تنقض هذه القبائل على المدينة وتستولي عليها. الولاء إلى مركز سياسي عاده اعتادتها القبائل العربية استجابة لضرورة الأمن التي كانت مسألة مطروحة على الدوام. فكانت القبيلة تقدم أتاوات إلى الدولة التي تكفل لها الحماية, وكانت القبيلة تنتهز فرصة ضعف هذه الدولة للتخلص منها مع ذلك, خصوصاً حين تتحول علاقة الحماية إلى علاقة سيطرة. فقبائل معد مثلاً تنزل كليب بن ربيعة منزلة المحرر لأنه خرج بها, بعد أن وحدها, من سيطرة حمير. وطبيعي أن تنوس علاقة القبائل البدوية بالدول المجاورة بين الخضوع والغزو, ذلك أن غنى الدول المجاورة كان يشكل عامل جذب للقبائل التي كانت تعاني مشكلة الجوع المزمن. ومعروف أن حاجة فارس وبيزنطة إلى حرّاس حدود يقفون في وجه غزوات القبائل البدوية, كانت في أساس نشوء دولتي الغساسنة واللخميين. والآن ها هو مركز سياسي ينشأ في الجزيرة العربية, مركز يضع الجميع (جميع العرب) على قدم المساواة (من حيث الدين أو من حيث المبدأ), ويوجه أنظار الجميع نحو الخارج, نحو الفتوحات التي تلهب خيال القبيلة. والأهم من ذلك أن الرسول رسم أمام أنظار العرب شخصية عربية متمايزة, شخصية تاه عنها العرب طويلاً في امتداد الصحراء المقفر السحيق, وتاقوا إليها؛ الآن تخاطبهم الذات الإلهية مباشرة عبر أحد أبنائهم وبلغتهم, وها هم “خير أمة أخرجت للناس”, ولا شك أن هذا الشعور “القومي” مارس فعالية لا تقل عن الشعور الديني. ولكن ما كان يمكن لهذا الشعور “القومي” أن يفعل ما فعل لولا استناده إلى الشعور الديني. الله في السماء ومحمد على الأرض. الإيمان بالله يستوجب الإيمان برسوله. السماء فوق الجميع وكذا رسول السماء. هذا هو المعبر الذي اختاره محمد (ولعله المعبر الوحيد الذي كان يمكن أن ينجح) للخروج بالعرب من تشتتهم القبلي إلى وحدتهم “القبلية” أيضاً أي وحدتهم كقبائل. يلفت النظر أن قصة الحجر الأسود التي تروى عن محمد قبل نزول الوحي عليه تلخص بامتياز ما قام به في دعوته، تلخص “استراتيجيته”. فمحمد حلّ معضلة النزاع بين القبائل على شرف وضع الحجر الأسود في مكانه, بأن وضع نفسه فوق الجميع فقطف شرف وضع الحجر الأسود على عباءته ثم أضفى الشرف على القبائل بأن طلب من ممثلي القبائل رفع الحجر كلٌ من طرف من أطراف العباءة. فتوحيد أيدي القبائل العربية في الجزيرة تطلّب, كما تطلّب الأمر في قصة الحجر الأسود, وجود جهة أعلى تعترف بها القبائل وتنصاع لإرادتها, وهذا في الواقع ما أنجزه محمد حين قََرَن الشهادتين. الإيمان بالله لا ينفك عن الاعتراف برسوله. ومن الجلي أن الاعتراف هذا ينطوي، إضافة إلى الجانب العقيدي، على جانب سياسي هو الالتزام بقيادة الرسول في سياق صراع الدعوة مع خصومها. ***************************
في القسم الثالث سأتناول الربط بين الشهادين. لماذا أصر الرسول على ربط الشهادتين؟ ما الأثر الذي تركه ذلك على مجمل الحركة؟ وكيف كان هذا الربط هو النافذة التي أشرف منها الدين على الدنيا وسيرها؟