راتب شعبو/ كاتب

دنيا الدين الاسلامي الأول 1 من 3

نُشرت بتاريخ 27/06/2005 على موقع الحوار المتمدن
تشكل الفترة التي تتناولها هذه الدراسة مرجعية لا تنضب لحركات سياسية معاصرة وبالتالي فإن تناول هذه الفترة لا تخص التاريخ أكثر مما تخص الحاضر، ومن هنا تنبع أهميتها السياسية
:تعريف
تتناول هذه الدراسة الجانب الدنيوي من حركة  الدعوة الإسلامية الأولى, وليس في موضوعها الجانب الديني بمعنى حصري أو أساسي. فقد كانت
هذه الحركة محكومة لقوانين الواقع في سياق تطورها, ولم تكنركة معجزات. وحتى إذا كان ثمة إرادة متعالية ومفارقة وراء هذه الحركة, لمن يريد, فإن هذه الإرادة تحققت وفق قوانين الواقع وليس خرقاً لها. وعندما خاطب الله الناس خاطبهم بلغةٍ محددة لها قواعدها “البشرية”, أي بلغة “دنيوية” مفهومة. لذلك يحق لنا دراستها وفق قوانين العقل البشري واستخلاص ما تنطوي عليه من دروس، دون تجاوز أو انتهاك لأي معتقد ديني، لا بل إن في مثل هذه الدراسة، التي يتطلبها العقل، تماشياً مع البعد الديني في الدعوة التي كثيراً ما تخاطب العقل وتستفزه وتدعوه إلى التبصر والتفكير
ليس هدف هذه الدراسة إذن الخوض في الخلاف على وجود أو عدم وجود إرادة متعالية حكمت أو لم تحكم سير الحركة. إننا واعون تماماً حدودَ موضوعنا, ونصدر فيما نقول عن فكرةٍ أساسية مفادها أن الحركة الإسلامية الأولى لم تكن لتحقق النصر الذي حققت “تعبئة عرب شبه الجزيرة العربية وراء قيادة واحدة وما تلا ذلك من انتشار” إلا عبر عملٍ سياسي, بالمعنى الدقيق للكلمة, وعبر فهم العلاقات الاجتماعية السائدة آنئذٍ فهماً جيداً؛ أكان وراءها إرادة مفارقة أم لا. وهذه هي المقاربة الوحيدة التي تتيح لنا إدراك القيمة السياسية التي تمتع بها الرسول ودراستها
الخيط الرفيع
في الأخبار أن “أبو قتادة الأنصاري أراد أن يمثل بجثث القرشيين بعد وقعة أحد مثلما مثلوا بجثة حمزة بن عبد المطلب فأجابه محمد قائلاًًًًًًًًًَ: يا أبا قتادة، إن قريشاً أهل أمانة، من بغاهم أكبه الله تعالى إلى فيه، وعسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم، وفعالك مع فعالهم. ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله”.
يقول محمد هذا في واحدة من أقسى اللحظات إن لم تكن أقساها على الإطلاق في سياق حركة دعوته، عقب هزيمة أتباعه في وقعة أحد وتشتتهم واضطرابهم إلى حد جعل أحدهم يطعن أخاه ظاناًًًًًًًًًَ أنه مشرك قرشي؛ وعقب تعرض محمد إلى الأذى المباشر أكان ذلك بإصابته الجسدية التي ظن القرشيون أنها أصابت منه مقتلاًًًًًًًًًَ أو بتخلي أقرب صحابته عنه مبتغين “عرض الحياة الدنيا”.
قول محمد هذا يدل على أنه كان يمسك منذ اللحظات الأولى لدعوته بخيط دقيق من الوعي غالباً ما يفوت رجالات الثورة. أقصد بذلك إدراكه حدود حركته وبالتالي مسارها. بتعبير آخر: يسهل على الثوريين نقد الواقع الذي يثورون عليه وتخيّل الواقع المأمول ولكن يصعب عليهم ربط القائم بالمأمول أو اشتقاق هذا من ذاك، فهم غالباً ما يتوهون في شعاب ثورتهم منتهين إما إلى التصالح مع الواقع وتكريسه تالياً برموز جديدة وإمّا إلى طرح مأمولهم كبديل مباشر لاغين بذلك السياسة بقدر ما تعني التحرك في ميدان صراعات اجتماعية ملموسة تولدها تناقضات البنية الاجتماعية القائمة. بين هذين المآلين ـ الهوتين استطاع محمد أن يتوازن، ولعل هذا التوازن النادر هو ما قاد بعض دارسي الحركة الإسلامية الأولى إلى نزع الصفة الثورية عن محمد، “لم يكن محمد ثورياً، على النقيض من ذلك، كان يفضل المساومة والتدرج في الانتقال والتكييف ثم الدمج… لقد كان يستطيع القول إن الزمن معي”(1). وهذه فكرة يأخذها ماسيه عن لامانس ويؤيدها، أو قاد بعضهم إلى نزع الصفة السياسية عنه معتبرينه رجل دعوة دينية وجد نفسه متورطاً في السياسة شيئاً فشيئاً نظراً إلى أن الملأ القرشي واجهه سياسياً، “أما مسألة ما إذا كانت الدعوة المحمدية قد حملت منذ منطلقها مشروعاً سياسياً معيناً، هو ذاك الذي حققته، أي إنشاء دولة من العرب تقوم بغزو الفرس والروم.. الخ. فهذا من الأمور التي فيها نظر”(2).
كما هو واضح فإن هنري ماسيه يقرن صفة الثوري بالعنف والقطع والتغيير السريع “المرسومي” أي يضحي بمضمون الثورة لصالح بهرجها، كما أن الجابري يختزل السياسي إلى “المشروع السياسي المعين” وبذلك يقصي من البحث الآلية السياسية في الدعوة، هذه الآلية التي وسمت دعوة محمد منذ أيامها الأولى. فهو لم يكن يكتفي بالوعظ ونقل كتاب الله إلى عباده بل تجاوز ذلك إلى التنظيم المركزي الانضباطي، وهذا بالضبط ما أثار مخاوف قريش ودفعها للتصدي له، ليس دينياً، فالدين بالنسبة لقريش أمر تجاري، أي دنيوي أو سياسي إن شئت، بل سياسياً لأن اللون السياسي كان بادياً لكل ذي بصرٍ سياسي من أمثال أبي جهل. ولقد وظف محمد هذا الالتباس والتورية بين الدين والسياسة توظيفاً حسناً.
ليس من العقيدة في شيء أن يتدرج محمد في الإعلان عن دينه وفي بث هذا الدين. السياسية هي التي تحكمت في الدعوة بين السر والجهر ثم بين المسالمة والمصادمة، السياسة التي تدرس علاقات القوى القائمة في لحظة ما وتدرس نقاط الاختراق المناسبة ولحظة الاختراق المناسبة، وليس مقياس سياسيّة الدعوة أن تطرح سلفاً برنامجاً سياسياً واضحاً “مشروعاً سياسياً معيناً” بتعبير الجابري، بل أن تتجاوز حدود العلاقة بين العبد والخالق إلى محاولة إعادة صياغة العلاقات الاجتماعية وفقاً لمبادئ محدّدة. وقد كانت الدعوة المحمدية تنطوي منذ البداية على هذا الميل الذي برز أول ما برز في آلية ربط الأفراد وتنظيمهم اعتماداً على قوة الإيمان ضد قوة العشيرة والعادة. والراجح أن الملأ القرشي ابتدأ يتحسس خطورة محمد من هذا الميل السياسي الكامن وليس من شتمه آلهتهم وتهجّمه على الأوثان ولم تكن هذه سوى الذريعة التي وظّفها الملأ “أيديولوجياً” لقمع حركة محمد. فمن المعلوم أن أهل الكتاب كانوا يسخرون من ديانة العرب الوثنية ومع ذلك لم يقف هذا حائلاً دون التعايش معهم والتعامل والتحالف معهم. ومن المعلوم أيضاً أن كبار رجالات قريش كانوا زنادقة دهريين بمن فيهم الوليد بن المغيرة وأبو سفيان وأبو جهل، فلا يعنيهم كثيراً التهجم على الأوثان إلا إذا كان وراء ذلك ما وراءه!
لقد كان السياسي يختبئ في ثنايا الديني أول الأمر، كان يوجهه ويغيب فيه وهذا ما سمح للجابري أن يستنبط العقل السياسي العربي منذ الفترة تلك.
لعلنا نقول إن حضور السياسي شكل الثورة في الحركة المحمدية كما أن الثورة في هذه الحركة كانت انطوائها على السياسي. بمعنى أن الرسول حقق ما حقق لأنه خرج عن حدود العلاقة بين الفرد والله إلى فضاء العلاقات بين الأفراد والجماعات, أي خرج من العقيدي إلى السياسي، وهذا الخروج هو ما فتح الباب أمامه لتحقيق ثورته. من جهة أخرى فإن إدخال السياسة في مجموعة عناصر الدعوة كان بمثابة الثورة قياساً على دعوات الحنفاء السابقين الذين اقتصروا على النقد والهداية بالموعظة الحسنة التي لم يكن في أفقها الإنتقال من سلاح النقد إلى النقد بالسلاح. بناءً على هذا يمكن القول إن أصالة الحركة المحمدية تنبع من جدل العقيدي على السياسي الأمر الذي يعني أن عناصر الدعوة (التوحيد, اليوم الآخر, الشمولية…) اكتسبت حركتها بعد أن تكاملت في إطار بنية لم يسبق أن تكاملت عناصرها من قبل. التوحيد المحمدي, على هذا, يختلف في العمق عن التوحيد الحنفي, ذلك لأن التوحيد المحمدي بات في الحركة المحمدية عنصراً في بنية أشمل, تشكل السياسة العنصر الديناميكي فيها. وهذا بالضبط هو ما أنقذ الرسول من مصير من سبقه من الأحناف أمثال عثمان ابن الحويرث وورقة ابن نوفل وعبيد الله ابن جحش.
بكلامٍ آخر: حين يقول محمد “إنني جئتكم بخير الدنيا والآخرة” فإنه لا يقول ذلك في مسعىً آني منه لكسب الأتباع “الدنيويين” بل يعبر بوضوح عن حقيقة حركته, فالدنيا كانت آخر المطاف في ذهنية العربي لأن العربي لم يكن يعتقد بفكرة الحساب, كان يعتقد أن الموت يعني الإنتقال إلى حالة شبحية باهته(3), الأمر الذي قوّى لديه الإحساس بالواقع. على هذا, فقد شدّ الرسول أزر الدين بالدنيا وشدّ أزر الدنيا بالدين, جاعلاً من الدين نافذةً إلى الدنيا. فكان التقدم في الدين (كسب الأتباع) يعني مباشرةً التقدم في الدنيا (الاقتراب من تحقيق وحدة القبائل العربية,الوحدة التي ستشكل رافعة لا مثيل لها لـ”دنيا” العربي). هذا التلازم العميق هو ما شكل أصالة الحركة المحمدية ورسم آفاق انتصارها.
نعود إلى ما قاله الرسول مخاطباً أبا قتادة الأنصاري كي نلاحظ:
أولاً: الرسول لا يضع قريش في موقع العدو الذي يجب كسر شوكته في سبيل انتصار الدعوة, بل يراها رأساً للدعوة في المآل الأخير.
ثانياً: إذا كان الرسول يرى في قريش قائدة للدعوة في المآل الأخير فإنه يضعها فوق باقي القبائل العربية, وهذا يعني إقراره بالواقع القبلي والتحرك على أساسه.
ثالثاً: لم يكف محمد عن إبلاغ قريش بما لها عند الله, ولكثرما كرر وعده لها بكنوز فارس وبيزنطة. هنا نلاحظ أن محمد يبدي خشيته من أن “تبطر” قريش, موحياً لأبي قتادة أنه يخبره سراً ما, وما من هدف وراء هذا الفن سوى لجم تمادي الأتباع ضد قريش. الرسول هنا يواجه المشكلة التي تعترض قائد أية حركة ثورية يعي حدود حركته, أقصد الضبط والتحكم بالقوة التي تحرك الجمهور الذي عبأه في الأصل. المبدع الذي يفقد السيطرة على إبداعه الخاص.
في الواقع لم يقطع محمد مع قريش في أية لحظة ولم يسمح لحركته أن تصل مع قريش إلى نقطة اللاعودة (وسيشكل هذا مفتاح فهم قرار هجرة أتباعه إلى الحبشة كما سنرى لاحقاً). وما ساعد محمد على نجاحه في هذا الحرص هو أن دعوته كانت تتحرك على مستوى ثنائية الإيمان والكفر, أو الأدق ثنائية الإسلام والشرك, وهذه الثنائية تنتمي إلى مستوى الإرادة, فبمقدور أي شخص أن يختار معسكره دون أي عائق موضوعي. ليس ثمة حدود موضوعية تحول دون حركة الأفراد بين المعسكرين, كالحدود الطبقية أو العرقية مثلاً. الدعوة المحمدية إذن ليست دعوة انقلابية بل هي بالأحرى دعوة تأليف, إذا صحت الكلمة؛ أي أن الحركة لم تكن تستهدف مصالح فئة معينة أو (طبقة) ولم تعمل على كسر سيطرة سياسية لفئة ما كي تعيد تنظيم الجماعة البشرية تحت سيطرة فئة أخرى. الحركة المحمدية تحتضن الوليد ابن المغيرة كما تحتضن عمار بن ياسر, الأمر الذي أعطى الحركة قدرة هائلة على التعبئة وعلى زعزعة دعامات الوضع الاجتماعي السائد آنئذ. وما كان يمكن للحركة المحمدية أن تكون هكذا لولا أنها انطوت بالأصل على ميل للتوسع والفتح بحيث تُحل أزمة القبائل العربية (الجوع والتقاتل واللااستقرار) على حساب شعوبٍ أخرى. أي أن ثمة “تصدير” للأزمة التي تحياها القبائل العربية ولن يكون حل الأزمة داخلياً على حساب فئة دون أخرى. وهذا بالتحديد ما جعل صدر الحركة المحمدية رحباً إلى حد أنها احتضنت خصومها العتاة, ووازت بين المسجد ودار أبي سفيان الذي لم يكن قد مضى على إسلامه (نطقه الشهادتين) سوى ساعات قليلة، وهو أسلم, فوق ذلك, تحت سيف العباس, كما هو معروف.
الباب مفتوح لقريش كي تدخل في جيش الدعوة دون أن تخسر شيئاً, فالمسألة الدينية عند قريش ليست بذات أهمية إلا بقدر ما تمس تجارتها, الديمقراطية الدينية في مكة كانت بمثابة وسيلة إنتاج لقريش وبالتالي دافعت قريش عنها بدافع دنيوي أكثر منه ديني. يبقى الأمر متعلقاً بمدى اقتناع قريش أن الدين الجديد أكثر (إنتاجية) من الدين السابق, وقد جعل محمد من (إقناع) قريش مهمة مركزية, معتمداً في البداية سبيل الموعظة الحسنة والمهادنة وتحريض العقل على التأمل ومن ثم , وبعد أن أذن الله بالقتال, اعتمد سبيل الضغط الاقتصادي ثم المجابهة العسكرية التي استجرها الضغط الاقتصادي. وقد أفلح محمد في فرض شروطه في المعارك إذ حدثت كلها, قبل فتح مكة, قرب المدينة وهذه نقطة في صالح محمد عسكرياً ولعل خسارته موقعة أحد نجمت عن تخليه عن نقطة استراتيجية كانت في حوزته, وهي البقاء في يثرب دون الخروج للقاء جيش قريش, متجاهلاً نصيحة عبد الله ابن أبيّ. المهم أن محمداً مارس ضغطاً مستمراً وحاك تحالفاته كلها في فترة ما بعد الهجرة حتى فتح مكة, لخدمة الهدف المركزي الذي هو كسب قريش للإسلام بأقل الخسائر الممكنة, ولنصغي جيداً إلى هذا التطمين الذي طالما ردده محمد على أسماع قريش “خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام”.
لم تتوجه حركة محمد ضد فئة اجتماعية معينة بل ضد فكرة معتقدية. ومن شأن هذا أن ينتهي إلى التوجه ضد الوضع الاجتماعي الذي تشكل هذه الفكرة غلافه، لكن التعبئة ضد معتقد ما في مجتمع ديمقراطي من الناحية الدينية مثل مكة لا تثير ردة فعل بنفس الحدّة التي تثيرها التعبئة المباشرة ضد الوضع الاجتماعي، خصوصاً إذا لاحظنا أن محمداً كان حذراً ولبقاً في انتقاده عبادة الأصنام. ولا شك أن الالتباس بين السياسي والعقيدي الذي وسم الدعوة المحمدية أشكل حتى على كبار رجال قريش مثل عتبة بن ربيعة الذي تنقل الأخبار أنه قام بحركة مساومة مع محمد عاد منها يرتأي على الملأ القرشي أن يتركوا محمداً وشأنه فليس فيما يقول خطر على قريش، أن يتركوه للعرب فإن تغلبت عليه استراحت قريش وإن اتبعته فلها فخاره. واضح من حركة عتبة بن ربيعة هذا أنه كان يريد أن يكتشف “مطامع” محمد، أي يكتشف السياسي المخبوء في عقيدته، ولذلك فقد عرض على محمد كل ما يمكن أن يتخيله قرشي من مطامع يطمع فيها رجل: “إن كنت تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا  لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً. وإن كنت تريد تشريفاً سوّدناك علينا فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا(4)”، ولقد كان محمد يجيد إبراز الجانب العقيدي أو السياسي حسب مقتضى الحال، فهو هنا يغسل موقفه من أي لون سياسي قد يلفت نظر عتبة ويكتفي بتلاوة سورة السجدة رداً عليه(*) ، في حين أننا سنراه لاحقاً لا يتردد أثناء عقده صلح الحديبية في أن يمحو بيده عبارة بسم الله الرحمن الرحيم ويستبدلها بالمتعارف عليه عند قريش باسمك اللهم، ثم لا يتردد أن يمحو محمد رسول الله ويستبدلها بـ محمد بن عبد الله، الشيء الذي أذهل علي بن أبي طالب الذي لم تطاوعه يده على أن يفعل ما أمره محمد الذي اضطر أن يقوم بذلك بنفسه مغلباً السياسي على العقيدي في لحظة تستدعي مثل هذا التغليب.
غير أن الرأي الذي طلع به عتبة إثر سفارته إلى محمد، ينمّ عن ضيق أفق من النوع الذي تغذيه مهنة التجارة “الوساطة”، المهنة التي تجني أرباحها على حساب البائع والمشتري معاً دون أن تخسر شيئاً اللهم إلا شيئاً من المغامرة. يريد عتبة بن ربيعة أن تعقد قريش صفقة على الأقدار بحيث تكون قريش رابحة كيفما شاءت الأقدار. أشاءت أن ينتصر محمد أم شاءت أن ينهزم أمام العرب. لم يدرك عتبة بن ربيعة أن دعوة محمد بالشكل الذي كانت عليه تتطلب نقطة ارتكاز تنطلق منها وتؤوب إليها تماماً كما صار حال يثرب فيما بعد. إذن لم يكن المطلوب من قريش أن تترك محمداً للعرب وتكف عن مضايقته والإساءة لأتباعه بل أن تغدو جيشاً تحت إمرة محمد تماماً كما صار الأنصار فيما بعد. وإذا كان عتبة يعتقد أن محمداً قد يختار ملاذاً له من العرب ثم يصفّي حساباته مع المشركين العرب بعيداً عن مكة فإنه يسجّل بهذا جهله التام بأبعاد دعوة محمد. قد يكون الخبر المنقول عن عتبة هذا غير صحيح غير أنه، على أي حال، يوحي بأن قريش لم تستعظم أمر محمد وإن تكن قلقت من هذا الشكل الجديد من النشاط. وسوف نسجّل هنا ملاحظة سريعة لنقول إن أبا جهل مثّل، غريزياً ربما، مصلحة قريش الجاهلية، فكان عداؤه للدعوة حازماً ولاشك أن الانتماء العشائري لمحمد (عبد مناف) عزّز عند أبي جهل (المخزومي) عداوته للدعوة وبالتالي فإن مقتل أبي جهل في بدر (من الراجح أن محمداً قد أوصى بقتله كما أوصى بتوفير الهاشميين ساعياً على طول الخط لكسب قريش بأقل مقدار ممكن من الخسائر، “لكسب قريش إلى الإسلام وافرين” حسب  تعبيره) واستلام أبي سفيان (من عبد مناف) زعامة قريش، مهد الطريق أمام كسب الإسلام لقريش، ليس فقط بسبب انتماء أبي سفيان إلى نفس بطن محمد (عبد مناف) بل أيضاً نظراً لما يتمتع به أبو سفيان من مرونة وميل للمهادنة وتغليب الهدف على الوسيلة.
الدين نافذة إلى الدنيا:
لم تهدف دعوة محمد إلى انتزاع الموقع المتميز لقريش لصالح فئة أخرى أو لصالح وضع ديمقراطي بين العرب لا سطوة فيه لعربي على آخر، بل هدفت إلى الحفاظ لقريش على مكانتها الرفيعة ولكن على مستوى أكثر اتساعاً وتنظيماً. هذه الفكرة السياسية عند محمد تجد ركيزتها في قناعة كانت لديه، وهي قناعة معذبة ولاشك لرجلٍ بمكانته، وهي أن تجاوز القبيلة كجهة انتماء وولاء أمر بعيد المنال، ولذلك فإن محمداً لم يضع نفسه في أية لحظة من مسار حركته بالمواجهة مع هذا الانتماء. وسوف يسخّر محمد كل قدراته لامتصاص ضغوطات جسد حركته، الذي كان في قسمه الأكثر من قريش بعد الهجرة، ضد قريش الكافرة والتي هجّرتهم من ديارهم.
العرب مشركون والإسلام جاء ليحارب الشرك بالدرجة الأولى “إن الله لا يغفر أن يشرك به شيئاً ويغفرون دون ذلك لمن يشاء”. العرب المشركون إذن هم العدو المباشر للدعوة ولكن العرب هم في الحقيقة وقود الدعوة فإذا ما تمادى القتال بين المشركين منهم والمسلمين  تكون الدعوة كأنها تقطع الفرع الذي تستند إليه. ولكي يستطيع محمد أن يجد مخرجاً (عملياً) من هذه المشكلة جهد إلى إيقاظ الشعور الجمعي عند العرب، الشعور “القومي” العربي، ووجه العداء في أعنف مظاهره ضد اليهود الذين ليسوا في نفس درجة العداء كالمشركين حسب دين الدعوة ولكنهم كذلك في سياسة الدعوة؛ ولا يمكن لشيء أن يفسر مهادنة قريش “المشركة” ومسايستها إزاء الحزم الشديد مع الجماعات اليهود وهم “أهل كتاب”، سوى الجانب السياسي الذي تنطوي عليه الدعوة. فقريش المشركة مآلها أن تُسلم وتكون رأس الدعوة، الأمر الذي لا ينطبق بحال على اليهود الذين يتمتعون بتماسك عقدي متين، أضف إلى أن اليهود يستمدون تماسكهم من دينهم في حين أن قريش تجد في الدين وسيلة تجارة وبالتالي فإن إمكانية تخلّيها عن دينها شيئاً في المتناول دون أن تخسر شيئاً من تماسكها. لكن هذا المنطق الحركي الذي يرى إلى المسائل في حركتها، في تطورها، عسير في مجال السياسة. كيف ستقنع جسد الحركة أن يهود بني قينقاع هم أكثر خطراً من القرشيين الذين طردوا الرسول وأنصاره وعذبوه وها هم يلاحقونه حتى المدينة أيضاً. خصوصاً إذا علمنا أن جسد حركة الرسول كان من اليثاربة (سكان يثرب) وهم من أحلاف اليهود؟ كما هو الحال دائماً يلجأ محمد في اللحظات العسيرة إلى السماء التي شكلت نقطة التقاء وإجماع المسلمين (العقيدة تمد يدها لنصرة السياسة). لاحظ مثلاً إجلاء بني النضير الذي جرى إثر وقعة أحد ويوم الرجيع ويوم بئر معونة (625م)؛ حيث خسرت الدعوة ما يقرب من ستين رجلاً من خيرة رجالها. فقد خرج محمد مع عشرة من كبار المسلمين بينهم أبو بكر وعمر وعلي إلى محلّة بني النضير وطلب منهم مساعدته في ديّة القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أميّة خطأً. يلمس قارئ الرواية من سياق الحدث أن محمداً شاء أن يحرجهم ويجد مبرراً لضربهم, لكن بني النضير أظهروا كامل الاستعداد لإجابته, فلجأ إلى سلاحه الأمضى, إذ انسحب من مكانه تاركاً أصحابه وراءه يظنون أنه قام لبعض أمره, لكنهم استبطؤوه فقاموا في طلبه فوجدوه في مسجد المدينة. وهناك ذكر لهم ما أحس من تآمر اليهود واعتزامهم الغدر به, فآمنوا بنفاذ بصيرة الرسول وما أوحي إليه. وبعث الرسول يدعو إليه محمد بن مسلمة وقال له: “اذهب إلى يهود بني النضير وقل لهم: إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي. وحين استغرب بنو النضير أن يأتيهم بهذا الكلام رجل من الأوس, إشارةً إلى تحالفهم معهم من قبل في حرب الخزرج, أجاب محمد بن مسلمة: تغيرت القلوب.(5)
الوحي يحل ما يستعصي على السياسة, الدين يشكل نافذة على الدنيا ليس فقط بالمعنى المباشر كما لاحظنا في قصة إجلاء بني النضير إنما أيضاً بالمعنى العام, فالإجماع على الله شكّل مدخلاً لترسيخ مركز سياسي عند العرب. وقد امتدح القرآن هذه النافذة في سورة الأنفال الآية (63): {حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيز حكيم}.
استراتيجيا الدعوة:
قلنا إن محمداً كان على قناعة من أن تجاوز القبيلة كجهة ولاء وانتماء أمر بعيد المنال ولم يدخل في مواجهة مباشرة مع القبيلة, على العكس فقد لجأ إلى آليات قبلية كلما وجد في ذلك نفعاً للدعوة. ألم ينزل في جوار مطعم بن عدي بعد أن ردته ثقيف خائباً؟ وقبل ذلك, ألم يحتم في كنف الهاشميين من ظلم قريش له؟ وبعد ذلك, ألم يعرض نفسه على القبائل؟ إنه لم يخرج من قريش مدّعياً أن حركته أو دعوته ذات طابع ضد­ –  قبلي, ولم يبدأ بالتالي جمع الأفراد الخارجين عن قبائلهم محاكياً نشاط الصعاليك. فأنت تراه حين يدخل في مفاوضة مع القبيلة التي يعرض نفسه عليها, يقبل أن يخاطبه مخاطبة “يا أخا قريش”؛ وحين اكتسبت الدعوة زخماً وصار الناس يدخلون في دين الله أفواجاً, صار يقبل الناس قبائل قبائل تاركاً بنية القبيلة دون مسّ.
ليس من الصحة في شيء أن يرد الباحث بروز ونجاح الدعوة الإسلامية إلى أن الإسلام جاء جواباً على تفكك الروابط القبلية متجاوزاً إياها إلى انتماء أرقى وأشمل. الواقع أن القبيلة ظلت مرجعية انتماء وولاء طوال التاريخ الإسلامي ووسمت ذهنية العربي إلى اليوم. أضف إلى ذلك أن القبيلة لا تشكل عائقاً في وجه الدولة المركزية. أثبتت ذلك دولة الإسلام وقبلها دول الحضارات اليمنية فمن المعروف أن ثمة قبيلة كانت تهيمن في كل دولة(*). كما أن العرب هجرت اليمن كقبائل إثر انهيار الحضارة اليمنية.
لم تتشكل الدولة  الإسلامية على أنقاض القبائل ولم تكن الهياكل القبلية قد دخلت, قبيل الإسلام, في طور تفكك موهوم؛ العكس أصح. لقد نهضت الدولة الإسلامية على كتف القبائل التي رأت في الدولة مكسباً تمسكت به بعد تردد طفيف.
إذا كانت الدولة المركزية التي ستنشأ في الجزيرة العربية لا تحوز على فرصة الحياة ما لم تأخذ في اعتبارها حقيقة التوضّع القََبَلي , أي ما لم تكن دولة قبائلية إن صح التعبير, فلا بد أن تهيمن قبيلة على باقي القبائل. وكما أن استقرار المجتمع الحديث لا يتحقق ما لم يتم حسم مسألة السيطرة فيه لصالح طبقة اجتماعية معينة تعيد تنظيم المجتمع وفق مقتضيات سيطرتها, كذلك في المجتمع الجاهلي, ما كان يمكن لدولة مركزية أن تستقر ما لم يتم حسم مسألة السيطرة لصالح قبيلة ما, وكانت قريش صاحبة الحظ في هذا, وقد توفر لها ذلك ليس فقط لأنها ذات أهمية تجارية نابعة من أهميتها الدينية والجغرافية, فقد كانت مكة على احتكاك مع المراكز الحضارية العالمية آنئذ, كما كان العرب يرتضون قريش حكماً على أهم نشاطاتهم الثقافية, أعني الشعر, حيث كان الشعر يتلى على قريش فما قبلته قبل وما رفضته رفض؛ بل لأن قريش ونظراً لموردها الاقتصادي الأساسي الذي تجنيه من التجارة, ولما لهذا النشاط من علاقة مباشرة بالتقلبات السياسية, فقد كانت من القبائل العربية القليلة جداً في الجزيرة العربية التي لم تخضع لمركز سياسي معين أكان عربياً (كندة, الغساسنة, اللخميين..) أم غير عربي (بيزنطة, الحبشة..)(**). وفوق كل هذا اكتسبت قريش مكانة دينية رفيعة استمدتها من سيطرتها على الكعبة المقدسة, وقد تعززت هذه المكانة عقب فشل محاولة أبرهة الحبشي في تدمير الكعبة؛ معروف أن قريش باتت تدعى بعدئذ بـ (أهل الله). وها هو الرسول يخرج من قريش التي ناصبته العداء في بداية الدعوة ولكن الرسول لم ينظر إليها كعدو في أي لحظة, فقد كان يدرك أن الوجود القَََبَلي أمر لا يمكن ولا لزوم, ربما, لتجاوزه, ولا يمكن السيطرة عليه إلا عبر رفع قبيلة ما لتنضوي القبائل الأخرى تحت سيطرتها؛ وقريش, للأسباب السابقة, هي المرشحة لهذا الموقع. فمحمد لم يناضل ضد قريش لكي ينتزع الكعبة من أيدي المشركين بل لكي ينقل المشركين إلى الإسلام. فهو لم يُرد مكة – الأرض بل مكة – القبيلة, كان يريد قريش قوية ومسلمة في آن لذلك نلاحظ التباين الشاسع بين حزمه مع اليهود في المدينة وتساهله اللامحدود مع قريش, حتى أنه ترك سدانة الكعبة المقدسة (بيت الله) في أيدي من كان يقوم بها في الجاهلية, عثمان بن طلحة وأبنائه حتى يرث الله الأرض. كما أمّر على مكة حين عودته إلى يثرب أحد كبار رجالات قريش. أضف إلى ذلك ما هو معروف عن تأليف القلوب, أي شراء إسلام زعامات قريش. على طول الخط هناك سعي لكسب قريش إلى الإسلام بأقل الخسائر, إلى الإسلام بالمعنى السياسي الذي تتكلم عنه الآية: {قالت الأعراب آمنا قل قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان قلوبكم}. لا معنى لتأليف قلب مؤمن, فالمؤمن لا يحتاج إلى النوق كي يناصر الدعوة. أصغ إلى الرسول يشرح موقفه للأنصار الساخطين من سلوكه في توزيع غنائم معركة حنين ومن سياسة تأليف القلوب: “أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟”.
الوضع القبلي واقع على السياسي أن يتعامل معه لا أن يصطدم به, ولبناء الدولة في الجزيرة العربية التي تتوازعها القبائل, لابد من إنجاز خطوة مركّبة هي تأليف قلوب القبائل حول مركز محدد ثم ترسيخ هيمنة إحدى القبائل. الخطوة المركبة هذه حققها محمد بالدين الذي جمع القبائل في السماء, ثم عكس هذا الجمع على الأرض في ترسيخ سلطته الأرضية المستمدة مباشرة من السماء ونقلها إلى قريش تالياً, على اعتبار أنها القبيلة الأكثر تأهيلاً لهذا الدور أو على حد تعبير أبي بكر: “لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش”(**). على هذا الضوء نستطيع فهم الهجرة إلى الحبشة.
Archives
April 2024
M T W T F S S
« Jul    
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
2930