إلى ذكرى حارة الدولود وأهلهايدخلون حياتك دون قصد منهم أو منك، بعفوية دخول الضوء عبر الزجاج. ضوء إضافي يدخل كيانك الغض المتعطش للضوء. يكون من البديهي أن يصبحوا من المكونات الثابتة لحياتك، كما هو من البديهي أن تتبلل الثياب المنشورة إذا داهمها مطر مفاجئ، أو أن يفوح الحبق إذا لامسته. بداهة تسود ولا سيد عليها.
أشخاص يصبحون جزءاً من حياتك التي تغتني بحضورهم، وتتسع بوجودهم، وتكسب بهم لوناً لم
يكن له وجود فيها لولاهم. قد لا تربطك بهم علاقة مميزة، قد لا تتواصل معهم، قد لا يكون لك في حياتهم أي حضور، قد لا تعني أنت لهم شيئاً، قد لا يذكرون أنهم عرفوك أو أن دروبكم تقاطعت يوماً. لا يغير هذا في الأمر شيئاً. في لحظة من حياتك يدخل شخص بعادية تامة إلى مجال حياتك، ثم يبتعد بعد حين وقد يختفي دون أن يعرف قيمته في نفسك، ولكنه لا يختفي كما يختفي الآخرون، فهو ليس “سطراً مكتوباً بالماء” كباقي الناس. قد يكون أقل من سطر، قد يكون كلمة أو حرف، ولكنه مكتوب بلونه الخاص الذي لا يزول من لوحة حياتك مهما امتلأت، ولا ينافس لونه لون. فلكل شخص من هؤلاء فرادته الأكيدة. هؤلاء الأشخاص لا يختفون منك. شيء ما فيك يستبقيهم، أو يستبقي صورتهم المحبوبة لديك، حية في سمائك الخاصة. مزيج من ضحك وجمال وأناقة واهتمام ولطف ونظرة مطمئنة واعتبار ورنين صوت بموسيقى مميزة. أو مزيج من قوة وحزم وثقة وثبات وسخرية وتعال على الصغائر. أو مزيج من الظرافة والذكاء والبساطة وحب الخير. أو مزيج من الحكمة والهدوء والقدرة على فهم المشاعر وتقديرها. كل مزيج له سحره وتميزه، طاقة تضيء مثل نجمة في سماء، مثل أقحوانة في مرج. كل شخص من هؤلاء الأشخاص الذين لا يختفون وإن اختفوا، مزيج فريد.
يبتعد هؤلاء الأشخاص، تأخذهم الحياة في كل اتجاه، لكنهم يبقون لديك كما تحبهم مثل أحجار ثمينة، لا الزمن قادر على محو صورهم في سماء ذاكرتك الواسعة، ولا هو قادر على تغييرهم، فيبقون في أعمارهم التي تحب، وفي ملامحهم التي تحب، وفي صفاتهم التي تحب، ولا يقدر الزمن على محو كثافة حضورهم وجماله.المتعة التي يحرضها الجمال فيك، أكان من موسيقى أو شعر أو طبيعة، تنبع من القدرة العجيبة للجمال على تحريض اشتعال هذه النجوم المعلقة على غصون ذاكرتك الغضة دائماً. الجمال يضيء هذه الأقحوانات لك، يشعل هذه النجوم لك، يجعلها تعترف بك، وتحتفي بك، وترقص لك ألوانها، وتجعلك طفلها المدلل، وتسكب عليك شيئاً من الخلود الذي تسبح فيه. سيكون الجمال باهتاً لولا هذه النجوم التي تحيا بالجمال وتشتاق إليه وتشتعل به.في المساحة الخالية من قوانين العقل والزمن، تعتقد أنك تسير على طريق جميل تحفه الأمنيات. تقول لنفسك سوف يتاح لي في محطة قادمة أن أجلس مع هذا الشخص ذي يشع في حياتي، فنتحدث. سيكون وقتاً من الفردوس حين سوف أرى وأتأمل التجسيد المباشر لهذه الصورة الخالدة في ذاكرتي، حين سوف أقول لنجمي أي معنى تحفظ له نفسي. وقد أطمح بسماع قيمة ما لي في نفسه.تعتقد، هكذا ببراءة يانعة تحتقر العقل والمنطق وقوانين الزمن، أن قوة مبهمة عليا تحفظ لك أمانيك وسوف تحققها لك في وقت ما، كما تحب وتشتهي. لا رغبة لك في تفحص هذه القناعة الهشة، لا رغبة لك في نفي هذه المساحة الغامضة التي لا يكبر فيها الناس، فيبقون كما تعرفهم، لا يشيخون ولا تتبدل طباعهم وضحكاتهم ورنات أصواتهم، ولا يموتون. يخونك الاعتقاد مرات ولكنك لا تخونه. حين يأتيك خبر وفاة أحد هؤلاء، يهبط قلبك ويشملك الأسف، وتضطرب، وتدرك أن وعودك لنفسك نقصت وعداً، وأن واحة منتظرة على الطريق قد نقصت. لكن هذه الألوان الساحرة لا تبهت، وهذه النجوم لا ينطفئ اشتعالها في هذه السماء التي لا تعترف بالزمن ولا بالموت.