راتب شعبو/ كاتب

من درعا إلى سورية

نُشرت بتاريخ 25/05/2020 على موقع العربي الجديد
 على خلاف الحال في شمال غرب سورية الواقع تحت نفوذ تركي مباشر، أو شمال شرق سورية الواقع تحت نفوذ أميريكي، تبدو درعا اليوم المحافظة الأكثر عصامية في معارضتها نظام الأسد. المعارضون لنظام الأسد هناك ينشطون دون وجود سند يحميهم سوى التضامن الأهلي الذي تهالك أيضاً بتأثير تعدد وتباين التشكيلات المسلحة المعارضة، كما بتأثير تطاول الصراع وثقل وطأته على

الأهالي. إلى هذا فإن درعا لم تكن مكاناً مناسباً للتنظيمات الجهادية التي أثبتت دائماً أنها تمتلك قنوات خفية لدعم وفير لا ينقطع. ورغم أن هذه التنظيمات حضرت في درعا، إلا أنها لم تستطع أن تسود الساحة كما فعلت في غير مكان من سورية.

في أيار 2017، اعتبرت درعا من ضمن مناطق خفض التصعيد الأربع التي اتفق عليها في أستانة، كانت الفصائل العسكرية المعارضة تسيطر على حوالي 70% من المحافظة. في صيف 2018، مع ميل أميريكا للخروج من سورية، انحصر الاهتمام الأمريكي في الجنوب السوري بالقلق الإسرائيلي من التواجد الإيراني قريباً من حدودها، وبضمان عدم وقوع مجزرة بحق الفصائل التي كانت تحت مظلة أميريكية. على هذا، تولت روسيا تشكيل الفيلق الخامس من القسم الذي يقبل من هذه الفصائل، مع السماح بخروج من لا يقبل منهم إلى إدلب.
كما تولت روسيا (عقب زيارة قام بها وزير الدفاع الإسرائيلي إلى روسيا في أيار 2018، وافقت خلالها إسرائيل على عودة الجيش السوري إلى جنوب سورية حتى الحدود معها، شرط عدم مشاركة الميليشيات التابعة لإيران في العملية) إعادة قوات النظام إلى الجنوب السوري مع الالتزام بشرط إبعاد الميليشيات التابعة لإيران عن الحدود. انطلقت عملية درعا العسكرية بدعم روسي في 26 حزيران/يونيو 2018، وانتهت بعد حوالي الشهر (31 تموز/يوليو) بسيطرة النظام على المحافظة، بناء على توقيع اتفاقية حميميم بين الفصائل المعارضة والنظام بضمانة روسية. في تكرار لما جرى مع منطقة خفض التصعيد الأخرى في الغوطة الشرقية بين شباط ونيسان من العام نفسه.
وصلت المرحلة العسكرية من الصراع في درعا إلى نهاية ميتة، غير أن هذه النهاية لم تعن موت إرادة الأهالي الذين لا زالوا يقاومون. ما تشهده درعا اليوم يجمع بين كونه امتداداً لثورة آذار 2011، وبين كونه موجة جديدة. هو امتداد لأن مقاومة استبداد النظام في المنطقة لم تتوقف منذ اندلاع الثورة، وهو موجة جديدة لأن المظاهرات التي تخرج اليوم تحمل خبرة جديدة لم تكن متوفرة في بداية انطلاق الثورة، وهي الخبرة الملموسة بعدم ملاءمة وعدم جدوى الخيار العسكري. نحن اليوم أمام مظاهرات ترفع لافتات تقول (لا للحرب)، وهي في هذا شبيهة بشعارات السلمية التي رددتها المظاهرات في 2011، ولكن مظاهرات درعا اليوم ترفع لافتات لم نشهدها من قبل، لافتات تدين عملية القتل الانتقامية لتسعة من عناصر الشرطة في ناحية مزيريب، وتسميها جريمة. في هذا استيعاب لدرس مهم يقول إن على الحراك أن ينظف نفسه باستمرار من الجرائم التي يمكن أن ترتكب باسمه.
من ناحية ثانية، تكشف مظاهرات درعا بروز طابع محلي لم يكن في مظاهرات الموجة الأولى من الثورة، بدلاً من “جنة يا وطنا” يتردد اليوم “حوران جنة”، كما ترفع لافتات تؤكد أن “حوران جسد واحد” بدلاً من “الشعب السوري واحد”، يعكس هذا جانباً من تضعضع الوطنية السورية لا يخفيه ترديد شعارات الموجة الأولى، مثل “إدلب نحنا معاكي للموت”. لا يغيب عن البال أن في إدلب امتداد ديموغرافي لدرعا، ذلك أن الأولى تحتضن اليوم أيضاً عائلات مقاتلي الثانية الذين رفضوا التسوية مع النظام وخرجوا إلى إدلب في 2018.
بعد سنوات الصراع التسع السابقة، نجد في درعا أشكالا مختلفة من العمل ضد نظام الأسد. بقايا مقاومة مسلحة يشكلها القسم من الفصائل العسكرية التي رفضت المصالحة وبقيت بسلاحها الخفيف في البلدات التي يمنع على النظام دخولها بموجب اتفاقية التسوية المضمونة من روسيا، والتي تضمن للبلدات “سلطة محلية شبه مستقلة”. إلى جانب هذا، تنبثق مقاومة سلمية جديدة يرجح أنها من الجيل الشاب الجديد الذي يدخل الميدان بوعي كفاحي جديد. غير أن هذا التجاور بين الشكلين سوف يهدد الفعل المقاوم نفسه وفق آلية يجيدها النظام، وهي الاستفزاز وتوليد رد فعل عسكري مضاد يستثمره ضد المقاومين السلميين، كما حصل في آذار الماضي في بلدة الصنمين، والذي يتكرر شبيهه اليوم في بلدة طفس.
يبقى السؤال اليوم، كما كان في الأمس، هل يمكن الحفاظ على سلمية ثورة ضد نظام لا يتوانى عن إطلاق الرصاص الحي ضد المتظاهرين؟ هل تغيرت الشروط التي دفعت الثورة في 2011 إلى السلاح؟
الخبرة السورية تقول إن السلاح فشل في نصر ثورة السوريين، ليس لأنه فشل في إسقاط النظام، بل لأنه أفشل إمكانية خلق مركز استقطاب سياسي ثوري يجمع السوريين على أساس وطني وديموقراطي وأخلاقي. بدلاً من ذلك، خلق السلاح مراكز متعددة متنافسة وتنافس نظام الأسد في الفساد والاستبداد وانعدام الوطنية والأخلاق. وعلى ضوء حاجة السلاح إلى المال والرعاية الخارجية وميله العام إلى إسكات الأخلاق ورفع صوت العصبيات غير الوطنية، ليس من السهل الإجابة بنعم على السؤال: هل كان يمكن للسلاح أن يسير في طريق آخر؟
يبقى إذن الخيار السلمي الذي تظهر براعمه من جديد في درعا والذي يرفض العسكرة ويتبرأ من الأعمال الجرمية. قد يكون في حضور الضامن الروسي بعض الحماية للمتظاهرين، في ظل التعارضات السياسية التي تبرز بين نظام الأسد الرافض لأي تسوية، وبين روسيا التي تدفع باتجاه تسوية سياسية ما في سورية تخرجها من المأزق الحالي. ولكن حتى لو أخمدت المظاهرات تحت الرصاص الحي، تبقى النتيجة في الميزان البعيد أفضل من نتيجة الخيار العسكري الذي خبرناه في سورية دماراً على كافة المستويات.
Archives
May 2024
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031