راتب شعبو/ كاتب

في وصف حالنا

نُشرت بتاريخ 25/06/2020 على موقع نواة من أجل سوريا
 تسير سورية بوتيرة ثابتة نحو تقسيم ترتسم وتتصلب حدوده يوما بعد يوم. القوى العسكرية السورية الفاعلة التي ورثت الثورة، ترتب أوضاعها حسب ما وصلت إليه الصراعات العسكرية، مكتفية من الغنيمة بما استقر تحت يدها من “سورية”. في سورية اليوم ثلاث حكومات تحميها ثلاثة جيوش، لكل منها حلفاؤه ومساندوه ومستخدموه، ولكل منها جمهورها وراياتها ورموزها و”إيديولوجيتها السياسية” الجاهزة، كالعادة، للتكيف مع الحال القائم وتكريسه مع عدم الاعتراف به أو
إقراره في الوقت نفسه، تماماً كما كرست الايديولوجيا السياسية لحزب البعث الدولة القطرية دون أن تعترف بها.
ضمن حدود سورية القديمة بات لدينا حكومات وحدود ومعابر تفتش وتسمح أو تصد الداخلين والخارجين، ويقف عليها جنود لا يعلمون شيئاً، ولا يهمهم أن يعلموا شيئاً، عن أصل الحكاية التي جعلتهم حراس حدود داخل بلد واحد. سورية اليوم تصبح أرضاً “لوطنيات” عديدة ناشئة، تشكل كل منها منصة لتخوين الآخرين ونبذهم. ثلاث واجهات باهتة سعيدة بما تخفيه من مضمون مخالف: الواجهة “الديموقراطية العلمانية” في دولة شمال شرق سورية، وواجهة “الإسلام الحقيقي” في دولة الشمال الغربي منها، و”الدولة” الأسدية فيما بقي من سورية. فيما الضحية الأولى لهذه “الوطنيات” الطارئة هي الوطنية السورية التي يتغنى بها الكثيرون ويتسلون بلحن غنائهم هذا بينما هم يثابرون على قطع حبل وريدها.
المفارقة أن القوى العسكرية التي يفترض أنها قوى تغيير صارت اليوم هي القوى المنكفئة والتي ترى نصرها في تثبيت الحدود. القوى التي ورثت الثورة زوراً هي اليوم قوى محافظة من منظور وحدة البلاد، جل ما تريده أن تحافظ على ما هي فيه. يبدو من الناحية العسكرية أن القوة الوحيدة التي تسعى إلى كسر هذا الحال هو نظام الأسد الذي يحلم باستعادة السيطرة على كامل سورية، فيما ينحصر طموح قوات قسد في شمال شرق سورية، والفصائل الجهادية الإسلامية مع تلك التابعة مباشرة لتركيا، في الحفاظ على ما بين يديها من أرض سورية.
النظر الجريء في عين الواقع يفيد أن المؤسسات التي تترسخ على الأرض في مناطق السيطرة الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، تخلق نخب حاكمة ومصالح خاصة مضادة للوحدة السورية التي من شأنها أن تحد أو تلغي هذه المصالح. من المعروف أن النخب الحاكمة في كل من هذه المناطق تنشيء فيما بينها علاقات اقتصادية ومالية وحتى أمنية، وفق مقتضيات استمرار إدراتها لمناطق سيطرتها. معرفة أن الحال السياسي في هذه المناطق لا يختلف عنه في مناطق سيطرة الأسد، تقود إلى أن الصراع بين القوى المسيطرة في هذه المناطق يقوم على المصالح الخاصة بكل نخبة حاكمة، بمعزل عن مصلحة الشعب السوري الذي خرج إلى حد كبير من ميدان السياسة مع سيطرة الفعل العسكري على ساحة الصراع.
يقع في صلب المنطق السياسي القول إن الحلم المضمر لدى القوى التي ورثت، ظلماً، ثورة السوريين هو أن تحوز نخبها على أوسع سلطة ممكنة في مناطق سيطرتها، وصولاً إلى حكم ذاتي، هذا إذا عزّ الاستقلال التام. ليست الوطنية المزعومة ولا الحرص على مصلحة السوريين هو ما يدفع النخبة الأسدية الحاكمة إلى القتال لاستعادة المناطق الخارجة عن سيطرتها، هذا من نافل القول، بل المصلحة الاقتصادية (استعادة موارد) والسياسية (استعادة شرعية) لهذه النخبة في استعادة ما خسرته. أما النخب الأخرى فإنها كسبت ما خسرته النخبة الأسدية، وتدرك جيداً اليوم، في ظل التعقيدات الراهنة، أنها لا تمتلك القدرة على كسب المزيد. لهذا يبدو الأسد، حتى الآن، ساعياً لاستعادة وحدة سورية على خلاف النخب الأخرى العلمانية أو الإسلامية.
السؤال الآن: ما هو موقع هذه القوى من الثورة أو من عملية التغيير التي تطلع إليها الشعب السوري، ولا يزال؟ إذا نظرنا إلى التغيير من منظور وطني سوري، أي يشمل سورية كاملة بأرضها وشعبها، نجد أن دور هذه القوى هو في إعاقة عودة نظام الأسد إلى السيطرة على كامل التراب السوري، ما يجعله، إضافة إلى الشروط الاميريكية، مرغماً على قبول نوع من الحل السياسي الذي يحاول تفاديه من خلال سعيه المحموم لإنجاز حل عسكري. على أن جدية هذا الحل السياسي، تبقى، كما هو مفهوم، مرهونة للقوى الخارجية أي لعوامل غير سورية.
سوف نلاحظ مروراً أن الحل العسكري كان فاشلاً على طول الخط طوال سنوات الثورة السورية، وفي كل الاتجاهات. فشل النظام في إخماد الثورة عسكرياً، وفشل الفصائل العسكرية في إسقاط نظام الأسد عسكرياً، وفشل النظام في استعادة السيطرة على كامل الأرض السورية عسكرياً. نحن اليوم أمام هذا الفشل الأخير، وإذا توافقت (فرضاً) القوى المتحكمة بالوضع السوري على تطبيع الوضع الحالي، سنجد حينها أن “وطنية” الأسد وسعيه لاستعادة الوحدة السورية قد تبخرت، لصالح استعادة قبوله في العالم على سورية أقل.
سبق أن قسمت سورية على يد الاستعمار الفرنسي الذي أنكر الوطنية السورية ونظر إلى السوريين كجماعات دينية. ولكن تمكن السوريون حينها، بإرادتهم، من استعادة وحدتهم وفرضها على المحتل. أما اليوم فنحن أمام تقسيم تفرضه احتلالات عديدة، ما يتطلب من السوريين إرادة ووعي أكبر وتحد أشد ومواجهة مع النخب الحاكمة في كل مكان، والتي تتبلور مصالحها أكثر فأكثر ضد وحدة سورية.
Archives
May 2024
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031