يستحق فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) أن نسميه الفيروس، بألف ولام العهد. اليوم يصنع الفيروس تاريخه الخاص، ينسل إلى تاريخنا ويسكنه ويستولي عليه ويستتبعه، تماما كما يفعل الفيروس بالخلية إذ يسكنها ويستولي عليها ويحيلها إلى مصنع لتكاثره. وكما يحتاج الفيروس إلى بروتينات خاصة (أنزيمات) تساعده على دخول الخلية، كذلك يحتاج تاريخ الفيروس إلىثغرة في تاريخ البشرية المعاصر كي يقتحمه ويعبث به، وهذه الثغرة هي انصراف البشرية إلى ابتكار وسائل لسيطرة البشر على البشر، والانشغال بذلك عن تطوير العلوم الطبية ولاسيما علم الصحة العامة والأوبئة وتوفير الأمان الصحي. فقط حين تقع الفأس في الرأس، تخرج الأموال من العلب المغلقة لدعم البحوث، تخرج بوفرة لكي يبرهن السياسي حرصه الشديد على الشعب، ولكنها تخرج متأخرة، في الوقت الذي يتحول فيه زمن البشرية إلى مزيج من الرعب والشلل والموت.
كل جوانب تاريخنا صارت تابعة لتاريخ الفيروس. تتوقف كل الأنشطة غير الضرورية لاستمرار الحياة: مؤسسات التعليم، المصانع، حركة النقل البعيد، الأنشطة الرياضية والفنية ..الخ. تتوقف أيضاً الزيارات العائلية والنزهات، تغلق حتى الحدائق العامة. يلزم الناس بيوتهم، ينسحبون أمام هجوم الفيروس في مسعى لكسب الوقت، بما يشبه السياسة التي سبق أن اعتمدها الروس أمام جيش نابليون بونابرت الجرار حين هاجم روسيا، فاشترى الروس الوقت بالمساحة، وانسحبوا إلى عمق روسيا حارقين وراءهم المحاصيل والمدن بما فيها موسكو، تاركين بونابرت وجيشه تحت رحمة المسافات الخالية ونقص المؤن، والشتاء الروسي القاسي.
العالم اليوم بانسحابه غير المسبوق أمام الفيروس، إنما يشتري الوقت أيضاً بانتظار إنجاز علمي (علاج أو لقاح) أو على أمل أن يتراجع الفيروس بطريقة ما.
إذا كانت البشرية قد عانت من أربعة إذلالات علمية: إذلال فلكي على يد كوبرنيكوس في اكتشافه أن الأرض (مسكن البشر) ليست مركز الكون، وآخر فيزيائي على يد اسحق نيوتن الذي كشف أن قوانين العالم العلوي (السماء) تطابق قوانين العالم الدنيوي، وبيولوجي جاء به داورين في دراسته عن نشأة الأنواع الحية وإظهار الأصول الحيوانية للإنسان، ونفسي على يد فرويد الذي اكتشف قارة جديدة في نفس الإنسان هي اللاوعي، ما يجعل الإنسان كائناً غريزياً أكثر منه عاقلاً، كائناً محكوماً أكثر منه حاكماً، فإن الفيروس أضاف إذلالاً آخر للبشرية يختلف عن كل ما سبق من إذلالات بأنه لا يأتي بفعل تطور البشر العلمي بل بالأحرى بفعل هشاشة أو لا توازن تطورهم العلمي.
يعيد الفيروس الذي ينشر الرعب اليوم، تذكيرنا أن العالم واحد وأن تقسيماته السياسية وانقساماته الطبقية والقومية والعرقية والدينية شديدة التفاهة أمام وحدته “الطبيعية”. يعرض علينا الفيروس مستوى عال من المساواة، يقترب من المساوي الأكبر الذي هو الموت. لا يعترف الفيروس بجغرافيا أو حدود سياسية أو تباينات طبقية أو دينية. يتوسل أي شيء كي ينتشر ويزيد من فرص حياته على حساب حياتنا. كل الناس لديه سواء. لا ينفع مع هذا الفيروس مال ولا بنون. ترتعد منه ملكة بريطانيا ومغرور البيت الأبيض و”عنتر” روسيا وأمثالهم، أكثر مما يرتعد منه أهالي المخيمات ومساكن البؤس.
في كوريا الجنوبية التي استطاعت أن تحتوي موجة الوباء بفضل الالتزام والجدية في التعامل مع الخطر، طُلب من المقيمين غير الشرعيين أن يتقدموا لمراكز الفحص المجانية مع تطمينهم أنه لن يكون في ذلك أي تهديد لإقامتهم. وفي أميريكا تعلن السلطات أنها جاهزة لمنح تأشيرات الدخول للأطباء وجميع الكوادر الصحية من أي مكان في العالم دون اشتراط أن يكون الطبيب غير مسلم! وفي غير مكان من العالم يبنون ملاجئ للمشردين كي يضمنوا ثباتهم وعدم تحولهم إلى مصادر نشر للفيروس. ولكن إلى جوار هذه “الأخوة” الطارئة التي يفرضها الفيروس، ترتفع، على خلفية الرعب والأنانية وجمر التمييز الكامن في الثقافات، أصوات عنصرية تطالب مثلاً برمي الوافدين (البدون) في الصحراء، كما طالبت ممثلة كويتية. وتنهض وتعلو حواجز سياسية جعلت الدول لا مبالية حيال الكوارث التي تحل بدول أخرى وهي على علم أن الكارثة في طريقها إليهم. حتى بلدان الاتحاد الأوروبي التي ألغت بينها الحدود والجمارك ارتدت إلى انغلاق قومي ضيق الأفق، فوقفت تتفرج على مأساة إيطاليا مثلا دون أن تمد لها يد العون، ما جعل نائب رئيس الوزراء الإيطالي يزيل علم الاتحاد الأوروبي من مكتبه ويضعه جانباً مخاطباً إياه “ربما نلتقي قريباً”، مشدداً على “ربما”.
المفارقة أن تشديد كارثة الفيروس اليوم على المشترك “الطبيعي” بين البشر، يقابله السياسيون بنزوع انقسامي وبانكفاءات قومية انعكست سلباً على مواجهة الفيروس ومحاصرته، وتنعكس على سرعة إيجاد علاج أو لقاح له. العمومية البشرية التي يشدد عليها الفيروس يقابلها السياسيون بتشديد على الذاتية القومية، ولا غرابة في الأمر، ذلك أن المحرك العميق للسياسي “الديموقراطي” في النظام العالمي الحالي يتلخص في سعيه إلى أن يكون بطلاً “قومياً”، يحمي شعبه من كارثة لحقت بالآخرين. هذا ما يفسر مسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى شراء حقوق ملكية لقاح يقوم بتطويره مخبر ألماني ضد فيروس كورونا، بمليار دولار على أن يقتصر استخدامه في الولايات المتحدة فقط.
لا يستجر السياسي قيمة، في مثل هذا النظام العالمي، إذا كانت كل شعوب العالم في خير، بل إذا كان العالم في مآس وويل وشعبه في نعيم وخير، ذلك على الضد من الحقيقة التي ما فتئ يؤكدها التاريخ المعاصر، ويشدد عليها الفيروس اليوم، والتي تقول بكل اللغات: إن خير أي بلد مرهون، إلى حد كبير، بخير بقية البلدان.
كما كشفت كارثة تشيرنوبل (1986) وزلزال أرمينيا (1988) حدود وقصور النظام السياسي والاقتصادي السوفييتي، وكانت مؤشرات على قرب انهياره، كذلك تظهر أزمة الفيروس حدود وتناقضات النظام السياسي الاقتصادي العالمي اليوم، وهي مؤشر مهم على ضرورة تجاوزه.