راتب شعبو/ كاتب

هل تؤسس الجائحة لدين جديد؟

نُشرت بتاريخ 19/04/2020 على موقع نواة
تعطينا الشهور القليلة الماضية من عمر جائحة الكورونا مادة كافية لتلمس إمكانية نشوء مرحلة جديدة من تاريخ الأديان تختلف عما هو سائد اليوم، في عود على بدء نشوء الدين.
في الشهور القليلة الماضية، ظهر رجال الدين، لأول مرة، على هذا القدر من الدنيوية العارية، مجردين من أي صلة روحية تميزهم عن سواهم في نظر الملايين من جماهيرهم. لم يشهد العالم من قبل هذا

الإفلاس المعلن الذي تعيشه المؤسسات لدينية، ولم نشهد من قبل هذا التخلي “المحرج” عن الطقوس الدينية الحاشدة التي كانت تبدو من ثوابت عالمنا. لأول مرة نشهد هذا القدر من الدنيوية التي تلف دور العبادة لكل الأديان في كل مكان. لأول مرة تبدو دور العبادة أماكن شديدة الدنيوية، أماكن أرضية محض، مقطوعة عن سماء طالما ألقت عليها مسحة إجلال أو غموضاً روحاني الأثر. لم تستطع دور العبادة مقاومة ثقل جائحة الفيروس العالمية فاستوت على المستوى نفسه مع بقية المؤسسات الدنيوية، مع المدارس والمعامل والمحلات التجارية، فاقدة كل هيبة دينية وكل تمايز سماوي.
لم يكن أحد ليتخيل صلاة يترأسها البابا وحيداً في ساحة كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان، خوفاً من الوباء. ولم يكن لأحد أن يتصور أن يفكر المسلمون بإلغاء موسم الحج لهذا العام للسبب نفسه. هذا فضلاً عن ما يشهده العالم من إلغاء للقداسات ولزيارات المقامات وصلوات الجماعة وغيرها من الأنشطة الدينية الجماعية، لكل الأديان والمذاهب والفرق.
الجميع يرى اليوم أن المزاعم الروحية الغامضة لرجال الدين تبخرت، وكأن السماء تخلت عنهم فجأة، وباتوا عاجزين بلا عون أمام خطر حقيقي يشكله الفيروس. لا شك أن مثل هذا الواقع لا يمر دون مقاومة، وقد تجلت مقاومة رجال الدين لواقع تهميشهم وتعري وظيفتهم الدنيوية من أي “غموض”، في تصريحات تعصبية تصل إلى حدود السخف التام. ادعى معظم تلك التصريحات قرباً من الفيروس الذي قالوا إنه يميز الناس حسب دينهم، فرجال دين مسلمون أكدوا إنه لا يصيب المسلمين، وأحدهم وجه الشكر إلى الفيروس لأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. ورجال دين مسيحيون زعموا أيضاً أنه لا يصيب أتباع دينهم، وأقسم رجال دين يهود إن كورونا يحب اليهود ولا يؤذيهم. وفي تصريحات أخرى تنصل بعضهم من الفيروس ونسبه إلى دين آخر لتفسير شره وأذاه، أحد رجال الدين الشيعة مثلاً يشرح لمستمعيه أن “فيروس كورونا عرضت عليه الولاية فأبى وأنكر فأصبح ناصبياً خبيثاً يؤذي المجتمعات”.
غير أن الحقيقة هي أن الجمهور المتدين، من كل الأديان، لم يعد ينتظر اليوم ما يقوله رجال دينهم. غالبية الناس تدرك أن الخطر الذي يشكله الفيروس على البشرية لا يمكن أن يواجه إلا بسلاح دنيوي، وكثير من المتدينين يؤيدون القول بأن خير ما يمكن أن تفعله المؤسسات الدينية هو أن تقدم أموالها إلى مراكز البحوث العلمية.
في الوقت نفسه، يدفع الذعر الناجم عن جائحة فيروس الكورونا الناس إلى الدين بوصفه المجال الوحيد للطمأنينة أمام الخطر الغامض والمباشر الذي تشكله الجائحة، في عودة إلى لحظات النشوء الديني الأولى قبل أن
يتجسد الدين في مؤسسات. هذه الهوة التي نشأت فجأة في وعي الناس بين الدين ورجال الدين، تشكل لحظة نادرة في تاريخ البشرية، يمكن أن يتأسس عليها نشوء دين إنساني عام لا تتوسط فيه فئة من البشر بين الله والبشر. أي دين بلا رجال دين.
بكلام آخر، يتراجع اليوم الجانب الاجتماعي من الدين لصالح الجانب الروحي. وإذا كان تلازم هذين الجانبين من الميزات الأساسية في تاريخ الأديان، ذلك أن الجانب الروحي للدين يتجسد فعلاً في الجانب الاجتماعي منه، الجانب الذي يتخذ شكل نشاط طقوسي جماعي يخلق لدى الأفراد الشعور بطمأنينة الانتماء المشترك، حيث يعزز الفرد إيمانه من خلال التماثل مع الآخرين، فإن اللحظة الراهنة، إذ تكشف فراغ البعد الروحي لرجال الدين، تشكل فرصة نادرة لاستقلال الجانب الروحي للدين، بما يعني خلو العلاقة بين المؤمن والسماء من الوساطات البشرية.
هل تشكل جائحة الكورونا ومفاعيلها على تاريخنا، بداية استقلال المؤمنين عن رجال الدين؟ ليس من السهل أن يتخلى البشر عن الوظيفة الاجتماعية للدين، الوظيفة التي تستدعي وجود رجال دين يقومون على هذه الوظيفة، ولكن الصدمة التي سببتها جائحة الفيروس للبشرية، أظهرت أفقاً ممكناً لدين سماوي مقبل، دين يجمع الأديان في إسقاطه الوساطات البشرية مع السماء.

Archives
April 2024
M T W T F S S
« Jul    
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
2930