أظهرت أميريكا عدم اكتراث متكرر حيال ما يجري في شمال غرب سورية، على خلاف الحال في الشمال الشرقي. هذا يرسم فارقاً مهماً بين غرب وشرق الفرات فيما يتعلق بآفاق واحتمالات الحل في سورية. يتجسد هذا الفارق في أنه يمكن لثلاثي أستانة (إيران، تركيا، روسيا)، أن يتفاهموا على حل في غرب الفرات، وأن ينفذوا هذا التفاهم إذا كان جدياً، ولكن لا يمكنهم فعل الشيء نفسه شرق الفرات بسببالوجود والاهتمام الأميريكي بالمنطقة هناك. وعلى اعتبار أن أميريكا لا تشارك في مسار أستانة فإن وجودها في منطقة شرق الفرات يعني أن ثلاثي استانة لا يستطيع أن يفتي فيما يخص تلك المنطقة التي تبقى بعيدة عن متناوله ما بقيت أميريكا فيها.
على هذا تبدو مشكلة إدلب أسهل وأقرب إلى الحل من مشكلة شرق الفرات. يمكن لتوافق تركي روسي أن يضع العقدة الادلبية على سكة الحل. هذا التوافق في المتناول لأنه لم يعد لتركيا هواجس أمنية في هذه المنطقة بعد أن نفذت تغييراً حاسماً في التركيبة السكانية في منطقة عفرين على حساب التواجد الكردي فيها، كما أن الاتفاق مع روسيا يمكن أن يجنبها ما تتخوف منه، نقصد موجة نزوح جديدة. ولا نشك أنه ليس من الصعب على تركيا فرض ما تريد على الفصائل المسيطرة في الشمال الغربي من سورية. هذا فضلاً عن أن مثل هذا التوافق يشكل بطبيعة الحال مقدمة ضرورية لتخفيف العبء عن تركيا بعودة نسبة من اللاجئين السوريين إلى مناطقهم التي هجروها جراء القصف الذي تتعرض له هذه المناطق.
من الراجح، وفق هذا التصور، أن يكون الحل في إدلب تصالحياً أكثر منه عسكرياً، نظراً إلى الطبيعة البراغماتية للقوة “المعارضة” الأبرز هناك، نقصد جبهة النصرة، وإلى أن من شأن تفاهم روسي تركي جدي أن لا يترك أمام الفصائل مجتمعة سوى خيار القبول والتكيف أو الانتحار. والتفاهم مع روسيا هو، بطبيعة الحال، جسر منحدر يوصل إلى التفاهم التالي مع نظام الأسد. غير أن هذا التصور لا يستبعد، مع ذلك، الحشد العسكري من جانب النظام وحلفائه، ولا يستبعد احتمال أن ينفذ هؤلاء هجوم ناري كثيف للترهيب، كما لا يستبعد اندلاع صراعات داخلية بين الفصائل على محورين، الأول هو قبول أو رفض التفاهم/الحل، والثاني هو سعي كل فصيل لتوسيع مجال سيطرته لتثقيل وزن دخوله في الحل. ومن المرجح أن يكون لجبهة النصرة دور البطولة في هذا الصراع الفصائلي المتوقع، ولاسيما أن الجبهة ادخرت عديدها وعتادها في الشهور الماضية استعداداً لليوم الذي يمكنها فيه أن تخرج من دائرة النبذ الدولي، وأن تتحول إلى جزء من الحل بما ينسجم مع توافق الأطراف المقررة فيه.
أما شرق الفرات فيبدو غائباً عن مباحثات جماعة أستانة وكأنه خارج سورية، وقد جاء تشكيل اللجنة الدستورية مؤخراً، تأكيداً على استبعاد أو تأجيل الحل المتعلق بهذا الجزء. إن تشكيل لجنة الدستور بالصورة التي تم عليها، يعني تراجع الجميع أمام نظام الأسد والقوى الداعمة، كما أن الإعلان الاحتفالي عن تشكيل اللجنة المذكورة دون وجود تمثيل فيها لمجلس سورية الديموقراطي (مسد)، التي تسيطر على ما يقارب ثلث مساحة سورية وتحوز على شعبية غير قليلة في وسطها، يشير إلى أن ثلاثي استانة، والأمم المتحدة أيضاً، لا يقترحون الحل السوري الشامل، بل يسيرون على مبدأ الحل بالتقسيط.
عجز مسار استانة، وعجزت المسارات الأخرى، كما عجزت الأمم المتحدة، عن إيجاد حل للسؤال: كيف يمكن تخليص العقدة الكردية السورية من العقدة الكردية التركية، وكيف يمكن منع هذه العقدة الأخيرة من فرض انعكاساتها على الموضوع السوري؟ أمام هذا العجز كانت النتيجة إغماض العين عن هذه العقدة وتركها لزمن قادم مجهول، لتبقى منطقة شرق الفرات شأناً أميريكياً بالدرجة الأولى، تمارس فيه أميريكا دور الحكم القوي والمقرر بين جهات سياسية وعسكرية كردية ترى في تركيا العدو الأول، ودولة تركية تمارس عدوانيتها على هذه الجهات بوصفها امتداداً لمشكلتها الداخلية مع كرد تركيا.
لا شك أن استبعاد “مسد” عن اللجنة الدستورية يزيد من هامشية اللجنة ومن لا جدواها. دون أن يعني هذا أن إشراك “مسد” سوف يغير كثيراً من المعادلة. فالأمر الذي ينبغي التأكيد عليه هو أن كافة المسارات والحلول المقترحة سوف تتشابه في فشلها، طالما أنها لا تتجه إلى حل، أو على الأقل البدء في حل، العقدة الأساسية المتمثلة في سد طريق المشاركة الفعلية في الحياة السياسية، وطالما استمر الإصرار على تقسيم الشعب السوري إلى وطنيين وخونة، هذا التقسيم المدمر الذي أسس له وصانه نظام الأسد على طول الخط، من شأنه أن يستولد تقسيماً مقابلاً ومعاكساً، ما يحيل الحياة السياسية في سورية إلى حرب أهلية مستمرة ونفي متبادل لا نهاية له.
من الطبيعي أن يسأل المتابع عن معنى الدستور الذي يمكن أن تنتجه اللجنة الدستورية المذكورة، ليس فقط من الناحية التي كثر الحديث عنها والمتعلقة بأن المشكلة السورية ليست مشكلة كتابة دستور بل مسألة تعليق الدستور، أي مشكلة وجود سلطة تستعمر الدولة وتحتكرها وتصادر الحياة السياسية وتحيل الدستور إلى حبر على ورق. مشكلتنا في القوة لا في القول. أو بطريقة أخرى، مشكلتنا هي في قول القوة لا في قوة القول. ما لم يقترن الدستور بقوة تطبيقية لن يكون له قيمة سياسية تذكر.
اليوم هناك ناحية أخرى تجرد اللجنة الدستورية من المعنى وهي تتعلق بالمجال الجغرافي السياسي الذي يعترف بالدستور. بكلام آخر، ما هي المساحة التي يكون للدستور المزمع ولاية عليها في سورية؟ المجال الجغرافي السياسي السوري موزع بين ثلاثة محاور قوة غير سورية، هي تركيا وأميريكا وروسيا مع إيران، الأمر الذي يجعل من القوى السورية مجرد توابع لهذه المحاور غير المتوافقة. إذا كان يمكن لتركيا أن تتوافق مع روسيا حول غرب الفرات، فمن غير المرجح توافقهما فيما يخص شرق الفرات، هذا يقول إن صراع هذه المحاور من شأنه أن يشل فاعلية أي دستور سوري مهما يكن.
ما سبق ينتهي إلى نتيجة واحدة تقول إن عناصر الحل السوري الشامل غير متوفرة، وأن ما يجري هو تقسيط للحل، وهو فوق ذلك تقسيط لا يحمل نتائج مهمة، والرابح الأكبر فيه هو نظام الأسد الذي لا يهمه سوى الاستمرار في السيطرة على ما يستطيع من سورية، وتفادي المحاسبة، وهذا ما يناله فعلياً من تشكيل اللجنة الدستورية التي تعطيه صورة المشارك في الحل من جهة، وتفتح له، من جهة ثانية، أفقاً زمنياً لا ينتهي، بحسب تصريح وزير خارجية النظام وليد المعلم الذي قال إنهم لا يقبلون جدولاً زمنياً للجنة الدستورية. على هذا سوف تهنأ اللجنة الدستورية بجلسات، نعلم أنها تبدأ في جنيف في نهاية أكتوبر/تشرين الأول من هذا العام، ولكن لا أحد يعلم متى وأين تنتهي.