نقد مفهوم “النظام العربي”
الكلام عن نظام عربي يضمر القول إن الأنظمة العربية تشكل فيما بينها نظاماً واحداً. ولكن إلى أي حد يمكننا الكلام عن “نظام عربي”؟ في الجواب على هذا السؤال، يمكن أن نضع مقدمة لفهم تفاعل هذا النظام مع ثورات الربيع العربي، ومع الثورة السورية بوجه خاص.
نرى أن القول بوجود نظام عربي هو قول صحيح وخاطئ في الوقت نفسه. إنه صحيح لأن كل الأنظمة السياسية العربية تقوم على مبدأ مشترك فيما بينها هو أولوية السلطة على الشعب والبلد، فتدار الدولة، على هذا، وفقمنظور يخدم تأبيد سلطة الحاكم، بدلاً من خدمة البلد وشعبه. منبع هذا المبدأ هو أن السلطات العربية الحاكمة لا تعتمد آلية معقولة في حيازة السلطة أو في تجديد حيازتها، ولا تحوز على شرعية شعبية، ولا تستمد شرعيتها من الشعب أصلاً، بل من دعم ومساندة دول خارجية ثقيلة وذات سطوة. لذلك تبني السلطات العربية سياساتها ومواقفها، واستراتيجياتها حتى، على مقاس ما يرضي الخارج الذي يزودها “بالشرعية”، وليس على مقاس مصالح شعبها وبلدها. على العكس، فغالباً ما تستجلب هذه السلطات الرضى الخارجي من خلال قدرتها على السيطرة وعلى خنق تطلعات شعوبها، ومن خلال قدرتها على تبخيس مصالح شعوبها وبلدانها. وفق هذا المبدأ الراسخ في النظام العربي، تبدو الأنظمة الملكية المطلقة أكثر ملاءمة من الأنظمة الجمهورية، ولهذا نجد أن هذه الأخيرة تنزع، كما لو بقانون، إلى تحول “ملكي” في توريث الحكم وإنتاج شكل جديد من الأنظمة يجمع بين الجمهورية (في الشكل) والملكية المطلقة (في المحتوى)، يسميه البعض “الجملوكية” أو “الجمهوكية”.
تتشابه علاقة الأنظمة العربية مع شعوبها وبلدانها، وتشترك هذه الأنظمة في المجال الجغرافي السياسي، وفي تقاسم حكم “أمة” يجمعها خيط من اللغة والتاريخ والدين ..الخ، أمة لا تزال ترى إلى نفسها أنها أمة واحدة موزعة في دول. الأمر الذي يجعل من هذه الأنظمة “نظاماً” واحداً، ويدفعها إلى تشكيل مؤسسة جامعة، أسموها “الجامعة العربية”، لا تملك من أمرها شيئاً.
غير أن الكلام عن “نظام عربي” يبقى، مع ذلك، خاطئاً من حيث أن هذا النظام لا يقوم بوظيفة متسقة تأخذ مصالحه ككل في الاعتبار. بكلام آخر، إن الأنظمة التي تشكل هذا النظام فيما بينها، تعمل في خططها وسياساتها على تقويض بعضها البعض، وتدخل في صراعات بينية دائمة تضعف النظام ككل إزاء وفي مواجهة الخارج. كما أنها تتعامل مع الأنظمة الخارجية ضد مكونات “نظامها العربي” ذاته، وتمارس دور وكيل محلي للقوى الخارجية المؤثرة، وتبدّي مصالح هذه القوى على مصالح بلدانها. من هذه الزاوية لا يبدو دقيقاً الكلام عن “نظام عربي”، أو هو من هذه الزاوية نظام مضاد لذاته. يمكن التعبير عن هذا بالقول إن مصالح كل نظام من الأنظمة المكونة “للنظام العربي” تعلو على مصالح النظام الكلي. فكيف إذا كانت هذه الأنظمة محلاً لمصالح خارجية أصلاً؟ من شأن هذا الحال أن يجعل النظام العربي الكلي قليل الفاعلية أو معدومها. وقد يتضح ما نقول أكثر إذا قارنا اشتغال أي “نظام” عربي محدد في حماية ذاته وفي خدمة أغراض ديمومته، مع اشتغال “النظام” العربي في خدمة مصالحه.
الجامعة العربية والثورة السورية
كان تفاعل النظام العربي مع الثورة السورية محدداً بمحددين أساسيين، الأول هو التعارض المباشر بين ما تمثله الثورة من قيمة ديموقراطية، أو من محاولة إعادة صياغة العلاقة بين الحاكمين والمحكومين لصالح تثقيل وزن مشاركة المحكومين في إدارة دولتهم، وبين ما تقوم عليه هذه الأنظمة من تعطيل أي مشاركة شعبية ممكنة، وأي آلية لإنتاج شرعية سياسية وسحبها، أي تعطيل العلاقة التفاعلية بين السلطة والشعب. المحدد الثاني هو الانسجام الضروري للأنظمة المذكورة مع سياسات الدول الخارجية صاحبة السطوة والقرار الحاسم في بقاء أو زوال أنظمة “النظام العربي”.
لا نغامر إذا قلنا إن الثورة في أي بلد عربي، هي، بطبيعة الحال، ثورة ضد “النظام العربي” ككل. الموقف التلقائي للأنظمة العربية هو أن تقف مجتمعة ضد أي ثورة شعبية ذات تطلع ديموقراطي تحاول إسقاط أحد هذه الأنظمة. مع ذلك لم تكن مواقف الأنظمة العربية واحدة إزاء الثورة السورية. وقد شهدت المؤسسة التي تؤطر النظام العربي (الجامعة العربية) انقساماً بين أعضائها حيال الثورة السورية. ولكن الجامعة تجاوزت انقسامها بفعل الدور القطري لأنه شكل آنذاك قناة للسياسة الأمريكية المهيوبة. وكان أن أدت الجامعة العربية قسطها للعلى بأن قدمت مبادرة (في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2011) تقوم على سحب الجيش من الشوارع والسماح بالتظاهر والحوار بين النظام وأطراف المعارضة. ولأن الجامعة لا تمتلك أي وزن لفرض مبادرتها، فإن النظام السوري تجاهلها، وردت الجامعة بتجميد عضوية سورية (16 تشرين الثاني/نوفمبر 2011) لعدم التزامها بالمبادرة، وبعد ذلك أحالت الجامعة المبادرة إلى مجلس الأمن، فأصبحت مبادرة عربية – دولية، ووصل دور الجامعة بعدئذ إلى نهايته المتوقعة.
سلوك الأنظمة العربية حيال الثورة السورية
تفاوتت مواقف الأنظمة العربية من الثورة السورية، هناك من وقف بخجل إلى جانب النظام كالجزائر، وهناك من اختار الحياد (النأي بالنفس) مثل لبنان، ولكن الموقف الغالب كان ضد نظام الأسد أكثر مما كان لصالح الثورة السورية، والمثال الأهم هو موقف دول الخليج العربي. يمكن رد الموقف الخليجي إلى عوامل متباينة، ليس منها بالتأكيد رغبة أي نظام خليجي (أو عربي استطراداً) في دعم ثورة ديموقراطية. من البديهي أن الأنظمة العربية لا ترغب برؤية أحد أعضاء “قمتهم” العربية وهو يطالبهم، مثلاً، بالإفراج عن المعتقلين السياسيين في بلدانهم، كما فعل السيد معاذ الخطيب، رئيس إتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، حين أتيح لرئيس الائتلاف أن يحضر، لمرة أولى وأخيرة، قمة الأنظمة العربية في قطر في آذار 2013.
من العوامل التي تحكمت بتدخل الأنظمة العربية، الخليجية بوجه خاص، في الثورة السورية هو موقف هذه الأنظمة من النظام السوري ولاسيما في علاقته التحالفية مع إيران. المنظور السعودي مثلاً، الذي تغذيه وتحرص عليه أميريكا، يتناول الصراع في المنطقة على اساس مذهبي، لذلك عملت السعودية ما تستطيع، بعد فترة تردد استمرت حتى آب 2011، أيقنت خلالها مدى اتساع وثبات الثورة السورية، على تحويلها إلى ثورة سنية ضد طغيان علوي/شيعي. في هذا التحويل تحقق السعودية مكسبين، الأول هو تحجيم الدور الإيراني، والثاني تصوير المشكلة السورية على أنها مشكلة حكم علوي كافر، ما يجعل الحكم السعودي، وفق هذه المسطرة، خارج دائرة استهداف الثورات، بوصفه حكم سني مؤمن. ومن المفهوم أن الثورة السورية لم تكسب ولا تكسب من سيطرة المنظور السعودي المذكور.
التدخل العربي إذن أقحم الثورة السورية ذات الهم الداخلي السوري، في شبكة مصالح وعلاقات وتصفية حسابات مع أنظمة إقليمية، بحيث طغت مصلحة الأنظمة الداعمة (نسميها داعمة تجاوزاً) على مصلحة الثورة والقائمين بها. كان هذا النمط من التدخل مكملاً لما بدأه النظام السوري بزج الثورة في أتون الصراعات الإقليمية، عن طريق جلب القوة الإيرانية التي لا تخفي طابعها الديني والطائفي. وبذلك اكتملت في سورية حلقة صراع لا تخدم ما خرج السوريون من أجله أساساً.
ومن ناحية أخرى، لعب عامل توسيع النفوذ السياسي دوراً مهماً في دفع وتوجيه سلوك أنظمة عربية تجاه الثورة السورية، كان بارزاً هذا العامل في التدخل القطري الذي اعتمد على تيار سياسي موجود وواسع (الإسلام السياسي) يغطي الطيف الممتد من الأخوان المسلمين وصولاً إلى جبهة النصرة.
تضافر هذا التوجه من دول خليجية ذات قدرات مالية كبيرة، مع عوامل عديدة في سورية وأفضى إلى اتخاذ الثورة السورية طريق التخلي عن هويتها الخاصة واستقلاليتها لتجد نفسها مرهونة لقوى لا تتعامل معها كثورة بل كأداة.
لماذا خسرت دول الخليج أمام إيران في سورية
دعمت إيران النظام السوري منذ البداية، وكان هذا استمراراً لعلاقة قديمة بين النظامين، وكان واضحاً للمراقب أن قوة وثبات الدعم الإيراني يتفوق بمرات على قوة وثبات “الدعم” الخليجي للثورة السورية. لا شك أن هذه الحقيقة لا تفاجئ أحداً، لأن النظامين الايراني والسوري من طبيعة واحدة والعلاقة بينهما هي علاقة حيوية، في حين لا يمكن قول الشيء نفسه عن العلاقة بين دول الخليج والثورة السورية. لكي تدعم دول الخليج الثورة السورية، كان لا بد لها من تغيير طبيعة الثورة ودفعها أكثر باتجاه إسلامي وطائفي. وحتى بعد نجاحها في هذا المسعى، لم تكن هذه الدول تكترث بمصير الثورة وأهلها أمام تحقيق مصلحتها كأنظمة أو كعائلات حاكمة. مثل مصلحة السعودية في إخراج إيران من سورية. لم تخف السعودية، مثلاً، المساومة التي عرضتها على علي مملوك، رئيس مكتب الأمن القومي السوري، حين جرى استقباله في الرياض في يوليو/تموز 2015، بوساطة روسية. هذا في حين لم تساوم إيران في أي وقت على بقاء النظام كما هو، ولم يقبل سفيرها السابق في إيران حتى مناقشة افتراض سقوط النظام السوري في مقابلة تلفزيونية معه في مرحلة باكرة من الثورة السورية، مكرراً، أمام السؤال: ماذا لو سقط النظام؟ إنه لن يسقط.
من جهة أخرى، لم يتطلب الدعم الإيراني تغييراً في طبيعة نظام الأسد. على العكس، سار نظام الأسد، بواسطة الدعم الإيراني، ثم الروسي، شوطاً إضافياً في إظهار محتواه الحقيقي بوصفه قوة أمر واقع شبيهة بقوة الاحتلال. أما الدعم الخليجي للثورة فقد تطلب منها تغيير طبيعتها وإنكار ذاتها إلى حد الوصول إلى انفكاك بين جمهور الثورة وبين القوى المسلحة المعادية لنظام الأسد التي تدعمها دول الخليج، الأمر الذي حول هذه القوى إلى قوى قمع واجهت غير مرة الجمهور بالرصاص الحي كما يفعل النظام، واعتقلت واغتالت أبناء الثورة كما يفعل النظام أيضاً. والنتيجة أن الدعم الخليجي خلخل قوة الثورة وغير من طبيعتها وأضعفها في نهاية المطاف، فيما كان الدعم الإيراني دور محافظ وتثبيتي لنظام الأسد.
يضاف إلى ما سبق، أن تعدد مصادر الدعم الخليجي، ووجود تنافر بين الدول الداعمة، جعل القوة المعارضة التي تواجه نظام الأسد متعددة الرؤوس، ومتصارعة فيما بينها، وهذا كان من أهم أسباب تشتت قواها من جهة، ودمار قيمتها المعنوية من جهة أخرى، ولاسيما إذا أضيف إلى هذا الواقع، طبيعة الحكم الفاسد والقمعي الذي أظهرته في مناطق سيطرتها. في حين تمكن حلف نظام الأسد من الحفاظ على تراتبية عسكرية هرمية متوازنة إلى حد بعيد بالقياس للقوى التي تواجهها.
فشل النظام العربي في انتصار “أنظمته” الفردية
كانت حصيلة الجولة الأولى من الثورات العربية في صالح الأنظمة العربية الفردية، فيما خرج “النظام العربي” مهمشا بلا فاعلية. لقد قاد تحطم الثورة السورية إلى بروز ثلاثي استانة، الذي يستبعد اي بلد عربي بما في ذلك سورية نفسها، الذي يقرر في الحرب والسلم في سورية، والذي يشكل اللجان الدستورية ويفتي في مستقبل البلد الذي يعتبر جزءاً من “النظام العربي”.
كما قاد تحطم الثورة السورية إلى تحول سورية إلى محل للاحتلالات المباشرة ولصراع الدول على النفوذ، دون أن يكون لأي من الدول العربية حضور بين الدول المتصارعة على سورية. لقد ساهم تدخل “النظام العربي” في تحطيم الثورة السورية، وفشل هذا النظام جملة وتفصيلاً، في تحقيق أي مكسب مادي جراء هذه النتيجة.
من غير الممكن بناء نظام عربي فاعل ما لم يتم تغيير العلاقة بين السلطة والمجتمع في البلدان العربية، بحيث تصبح مصلحة المجتمع أولى من مصلحة السلطة. هذا هو محتوى الثورات العربية. على هذا فإن فشل هذه الثورات يعنى الفشل في بناء نظام عربي جدير باسمه، نظام يستطيع أن يرى المصالح العربية حين يرى بمنظور متحرر عن مصالح “الأسر الحاكمة”.