راتب شعبو/ كاتب

ثلاثة رهانات خاسرة في سورية

نشرت بتاريخ 20/10/2019 على موقع بروكار برس
يعرض علينا الواقع السوري اليوم مشهداً لا صلة له بما أراده السوريون حين خرجوا للثورة ضد نظام الأسد منذ أكثر من ثماني سنوات ونصف.
في الشمال الغربي من سورية، ترابض تشكيلات إسلامية متدرجة في تشددها، سعيدة بما تحت يدها من أرض وناس تمارس عليهم حكماً لا يمتاز بشيء عن الحكم الذي ثار السوريون ضده منذ حوالي تسع سنوات. لهذا الحكم مضمون استبدادي فاسد، مع ديكور خارجي تجاوزه التاريخ ولغة قديمة، وهما مصممان لسقي نوستالجيا قومية دينية الطابع طالما شُحذت على
خلفية الفشل العام المزمن. وقد تظاهر السوريون في تلك المناطق “المحررة”، غير مرة، ضد استبداد القوات الإسلامية الحاكمة، ولم تمتنع هذه القوات عن اعتقال الشباب المعارضين لها وتعذيبهم وقتلهم، واستخدام الرصاص الحي ضدهم غير مرة، في تعبير إضافي صريح (يضاف إلى محدوديتها الفكرية والسياسية) عن خلو التشكيلات الإسلامية المذكورة من أي معنى للثورة.
ربما لا يزال هؤلاء الإسلاميون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم طليعة الخير ومنارة الحق، ولا يزالون يراهنون على إقامة حكم إسلامي يسود العالم، فيما يراهم الآخرون من عوالق الماضي ومن مخلفات التاريخ. والحق أن حال هذه التشكيلات الإسلامية اليوم، في انكفائها العسكري وتبعيتها السياسية والمالية، يظهر بجلاء خسارة رهانها ويعطي الانطباع بأنها لا تفعل شيئاً سوى أنها تمهد، لا بل تستدعي نهايتها على يد التحالف الذي يضم إلى جانب نظام الأسد روسيا وإيران، وصار اليوم يضم أيضاً قوات سورية الديموقراطية (قسد) التي صار اسمها الفيلق الخامس.
في الشمال الشرقي من سورية (تُستخدم تعابير مثل “شمال شرق” و”شمال غرب” سورية، أو غرب الفرات وشرق الفرات، بتأثير تسميات عسكرية الطابع أو بتأثير اللغة العسكرية التي تقسم البلد إلى قطاعات لا تعبأ بالحدود الإدارية، وتفرض نفسها في الصراعات الدائرة على الأرض السورية)، يصل الرهان الكردي السوري إلى حدود لم يكن من الصعب التبنؤ بها، ذلك أن نجاح هذا الرهان (المتمثل في فرض إدارة ذاتية على مناطق معينة من سورية كنموذج لبقية المناطق الأخرى) كان يعتمد على دعامتين لا بد منهما معاً، الأولى هي استمرار الدعم الأمريكي، والثانية هي حل مشكلة الاغتراب بين العرب والسلطة الكردية التي سيطرت في منطقة الجزيرة السورية. والحقيقة أن سلطة حزب الاتحاد الديموقراطي لا تملك القدرة على توفير أي من هاتين الدعامتين، ولذلك كان الرهان مرشحاً دائماً للخسارة. إذا كانت الدعامة الأميركية مرهونة بالسياسة الأمريكية وحدها ولا يملك الحزب شيئاً حيالها، فقد حاول الحزب توسيع القاعدة العربية للتمثيل السياسي (قيل أن هذا كان بطلب أميريكي قبل تنفيذ الانسحاب الأمريكي من الحدود مع تركيا) لكن دون ترافق هذا المسعى مع استعداد حقيقي للمشاركة والسماح بالنفوذ إلى السلطة الفعلية. وهناك من المشاركين العرب من انسحب من التعاون، وعبر عن هذا الحال بعد تجربة لهم مع الحزب. وفيما كان الحزب يعالج أمر الدعامة الثانية، انهارت تحت أقدامه الدعامة الأولى ولم يجد بداً، أمام العدوانية التركية المتربصة، من اللجوء إلى دعامة بديلة، فكان اتفاق حميميم مع الروس ونظام الأسد. وكان أن أصبح الرهان الكردي المذكور في مهب الريح.
في بقية المناطق السورية يسيطر نظام “أمر واقع” استطاع أن ينجو من ثورة شعبية واسعة بقوة ما يمتلكه من تاريخ في تمزيق المجتمع، وما يمتلكه من عدوانية واستعداد للقتل، وبقوة ما يمتلكه من حلفاء مخلصين له إخلاصهم لمصالحهم. النظام المذكور يراهن اليوم على ترجمة إجرامه المستمر إلى حقيقة سياسية بأن يعاد التطبيع معه وبأن يعود مجدداً إلى حظيرة المجتمع الدولي على جسر روسي مسنود بلجنة دستورية، كي يبدو، في المحصلة، أن كل ما جرى في السنوات الماضية في سورية، لم يكن سوى دفاع دولة عن نفسها ضد متمردين. بطبيعة الحال، تصبح الثورة الشعبية، من هذا المنظور، غير مرئية.
غير أن رهان نظام الأسد لا يختلف، في خيبته وهشاشة سنده، عن الرهانين السابقين. صحيح أن نظام الأسد نجا من السقوط، ولكنه اضطر، كي يصل إلى هذه النتيجة، أن يظهر بعريه التام أمام الشعب السوري وأمام العالم. اضطر أن يقتل المتظاهرين بالرصاص الحي، ثم أن يشن حرباً مفتوحة على الشعب، فيحاصر مناطق لسنوات، ويقصف مناطق بأسلحة ممنوعة حتى في الحروب بين الدول، ويقصف المشافي والأفران، ويلجأ إلى التغيير السكاني في مناطق، وإلى تسليم مقدرات البلد لدول خارجية مقابل حمايته ..الخ، فقط كي لا يعترف بنضوب شرعيته السياسية. هذه النتيجة تدل من منظور عام على فشل وليس على انتصار، وذلك ليس شيئاً بلا قيمة في السياسة، ما يعني أن هذا “العري” سوف يبقى عبئاً ثقيلاً يعرقل التطبيع مع النظام، سواء من ناحية المجتمع السوري أو المجتمع الدولي.
ما سبق يقول إن النظام الذي خرج “منتصراً”، يخرج في الواقع أعرجاً وخالي الوفاض، إن كان من حيث مقبوليته الشعبية (شرعيته السياسية) أو من حيث القدرة الاقتصادية، ما يجعل سقوطه دائماً على جدول الأعمال. لا يختلف كثيراً حال نظام الأسد “المنتصر” اليوم عن حال نظام صدام حسين بعد “انتصاره” على انتفاضتي الشمال والجنوب في ربيع 1991، بعد إخراجه من الكويت. كان ترك نظام صدام حسين حتى 2003، شبيهاً بترك المريض يستنزف دون علاج. وعلى هذه الصورة سيكون بقاء نظام الأسد بعد سنوات الموت هذه، ومن منطق الأمور أن يكون طي السنوات القادمة نهاية له على الطريقة العراقية، أكثر أو أقل دموية.
هكذا نشهد في سورية اليوم ثلاثة رهانات خاسرة، أما أمل ورهان السوريين الذي أطلق ثورتهم في 2011، فإنه ينكفئ إلى المكان الذي كان فيه قبل 2011، إنه ينكفئ في نفوس السوريين المحبطين، ينكفئ ليعود مجدداً إلى مكمن “أضعف الإيمان”، هناك حيث يغير السوريون النظام في قلوبهم، على أمل جولة أخرى يمكنهم فيها أن يغيروه بأيديهم.
Archives
May 2024
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031