من الطريف أن نعلم أن الرجل الذي تصدر الدورة الأولى من الانتخابات التونسية، لم يكن ينوي الترشح إلى الرئاسة أصلاً، وأنه ترشح مكرهاً، حتى أنه صرح بأنه لن يصوت لنفسه. وأنه من أصل المبلغ الواجب إيداعه والمقدر بعشرة آلاف دينار كضمان مالي يجب أن يدفعه المرشح، لم يدفع سوى 750 ديناراً فيما تكفل أنصاره بجمع المبلغ الباقي.
الرجل المقصود هو قيس سعيّد (61 عاماً)، وهو رجل قانون ولا ينتمي إلى أي حزب، ولا يؤمن بالأحزاب. وقد كان من حسن حظه أن الشعب التونسي بعد تجربة بضع السنوات الأخيرة مع “ديموقراطية الأحزاب”، لم يلمس شيئاً من المكاسب الاقتصادية، لا بل تردى الوضع الاقتصادي أكثر مما كان عليه في فترة بن علي، مثلاً بلغت نسبة البطالة 15% في حين كانت 13% في ظل ابن علي. ما حدا بالسيدة الوحيدة التي تنافس على الكرسي الرئاسي أن تبني وعدها الانتخابي على الحنين إلى النظام السابق. هذه النتيجة دفعت التونسيين إلى الفتور تجاه الانتخابات (وصلت نسبة المشاركة في انتخابات 2014 إلى 64%، فيما تراجعت إلى 45% في الانتخابات الحالية). يتحدث مراسل النيويورك تايمز عن شباب تونسيين في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم ممن شاركو في ثورة 2011، ولم يجدوا محلاً لهم في سوق العمل ولا يرغبون، بفعل الإحباط، في المشاركة بهذه الانتخابات. كما دفع هذا الحال التونسيين إلى النفور من الأحزاب ومن كامل الطبقة السياسية التي تحكمت في فترة ما بعد الثورة، وإلى البحث عن الخلاص بالأفراد بدلاً من الأحزاب، ولاسيما المكرسة منها. هكذا تحولت نقطة الضعف عند سعيد، نقصد غياب الدعم الحزبي (أقله المعلن)، إلى نقطة قوة ومصدر شعبية. غير أن المعايير في زمن الانتخابات تختلف عنها في زمن الحكم.
استقلالية الرجل مع ما يعرف عنه من صدق ونظافة يد وتعفف، أو ما يمكن وصفه بالطهارة السياسية، شكل رأسماله الأهم في الحملة الانتخابية. سوى ذلك فإن سعيد لم يقدم برنامجاً سياسياً لحملته الانتخابية التي تركزت على إصلاح دستوري مؤداه تمكين الناس من انتخاب ممثليهم في مجالس محلية وإعطاؤهم حق سحب التوكيل في أي وقت حين يفشل المنتخب في تحقيق وعوده. وهذا، كما يقول، تنفيذاً لشعار الثورة “الشعب يريد” والذي جعله عنوان الحملة الانتخابية. على أن الجميع يعلم أن مثل هذا الإصلاح، الذي لا يشكل برنامجاً سياسياً على أي حال، يحتاج إلى قوة في البرلمان لا يمتلكها سعيد الذي لم يجد جواباً على سؤال الصحفي هل سيستقيل هو إذا فشل في تحقيق إصلاحه الموعود، كما يقضي الإصلاح نفسه؟
الحملة الانتخابية للرجل كانت فقيرة، ولم يكن لصاحبها حتى صفحة على الفيسبوك، وكانت دون مدير، معلن على الأقل، رغم ما تردد من كلام عن أن مدير حملته الانتخابية هو رضا شهاب المكي، الملقلب “رضا لينين” أو “لينين تونس” كناية عن يساريته. إذا أضفنا إلى هذا أن كثير من التونسيين يصفون سعيداً بأنه سلفي وأنه يريد تطبيق الشريعة الإسلامية، وأن له صلات مع شخصيات من التيار السلفي، من بينها رضا بلحاج، القيادي في حزب التحرير في تونس، المعادي للدستور التونسي والمطالب بحكم الخلافة الإسلامية، ندرك الغموض أو اللاتحديد السياسي للفائز الأول في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية في تونس.
حين سئل سعيد عن لقائه مع بلحاج كرر أنه يلتقي بمن يشاء ولا يحتاج إلى تصريح من أحد، للتأكيد على استقلاليته، لكنه تهرب من الإجابة على السؤال المتعلق بمدى تقاطعه الفكري مع بلحاج بالقول إن بلحاج حر بقناعاته، دون أن يقدم للسائل خط تمايز فكري أو سياسي بينهما. يضاف إلى ذلك، أن سعيد رفض في 2013 تصنيف “أنصار الشريعة”، الذي صدر إلى سورية الكثير من أنصاره من أجل الجهاد، تنظيماً إرهابياً. هذا ما دفع كثيرين للاعتقاد بأنه مرشح السلفيين غير المعلن.
يعرف عن سعيد، فضلاً عن مهنته كاستاذ للقانون الدستوري، مواقفه المحافظة، فهو يقف ضد المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة “لأن النص القرآني واضح فيها”، ولأنه يريد من الدولة أن تحقق مقاصد الشريعة. كما أنه يقف مع عقوبة الإعدام، ويرى أن “المثليين يحصلون على تمويل من الخارج لإفساد الأمة الإسلامية”. ويرفض سعيد العمل الجمعياتي، فهو يتعهد بحل الجمعيات إذا وصل إلى السلطة. ربما يجد أن الجمعيات، التي تشكل جزءاً مهماً من المجتمع المدني، هي قنوات للتدخل الخارجي الذي يهدف أيضاً إلى “إفساد الأمة الإسلامية”.
تصريحاته السياسية غير المصاغة في برنامج، تخاطب قلق الهوية وتمتح من معين شعبوي دارج حين يشدد على العداء (ضد فرنسا مثلاً، فهو يطالب بقطع العلاقات الاقتصادية مع الغرب ولاسيما فرنسا)، وحين يشدد على معاقبة رجال الأعمال الذين تعاملوا مع النظام السابق بإجبارهم على تنمية المناطق الفقيرة تكفيراً عن ذنبهم، على طريقة معاقبة ألمانيا لرجال الأعمال الذين انخرطوا في علاقة مع النازية. فضلاً عن تعظيمه البلاغي للشعب التونسي. غير أن ما يميز “شعبوية” الرجل هنا هي أنها فردية وغير حزبية.
يمكن أن نستنتج أنه في اختيار قيس سعيد الحريص على “الأمة الإسلامية” وعلى “مقاصد الشريعة”، وتفضيله على عبد الفتاح مورو، مرشح حركة النهضة الإسلامية، يقول التونسيون إننا مع الإسلام ضد الإسلاميين. ولكن من ناحية ثانية، هناك ما يدعو للتأمل في المفارقة الكائنة بين محدودية الحملة الانتخابية للرجل وغياب أي تاريخ سياسي له، وبين تصدره قائمة المرشحين الرئاسيين التي تضم شخصيات بارزة ومن مشارب متنوعة ووراءها أحزاب وماكينات انتخابية قوية. هل هو واجهة “مستقلة” لتيارات إسلامية سلفية؟ أم واجهة “مستقلة” لحركة النهضة نفسها، على أنه “مرشح أمان” في حال فشل المرشح الرئيسي عبد الفتاح مورو؟
تكتمل طرافة الانتخابات الرئاسية التونسية مع معرفة طبيعة الفائز الثاني فيها والذي سينافس سعيد في الدورة الثانية، ذلك لأن هذا الفائز، وهو رجل الأعمال نبيل القروي المعتقل بتهمة التهرب الضريبي وتبييض الأموال، يشكل النقيض للفائز الأول. لا يوجد قاسم مشترك بين الرجلين سوى أنهما من خارج التركيبة السياسية التي استقرت بعد الثورة، وإن كان ما يفصل بينهما واسع كالذي يفصل النزاهة عن الفساد.
للفائز الثاني أعداء كثر داخل النظام الذي أوشك أن يحرمه من الترشح بإصدار قانون يمنع ترشح من هم تحت الطلب القضائي، كحاله، لولا رفض الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي التوقيع على القانون. الراجح أن الفوز في الدورة الثانية سيكون من نصيب قيس سعيد، الذي سيكون رئيساً يتيماً عرضة إلى أن تبتلعه الأحزاب أو تلفظه، فيما يذكر بقصة المرحوم محمد مرسي في مصر.