راتب شعبو/ كاتب

تشبيح معكوس والهدف واحد

نُشرت بتاريخ 22/09/2019 على موقع بروكار برس
في السنوات الماضية التي تعرض فيها نظام الأسد إلى أقوى تهديد في تاريخه، برزت، من ضمن آليات الصيانة الذاتية للنظام، ظاهرة الصفحات الفيسبوكية الموالية. ما يستوقف في هذه الصفحات ليس وجودها بحد ذاته، فهي في هذا ليست أكثر من صحيفة الكترونية تفاعلية موالية للنظام، ولا تختلف عن غيرها من النوافذ الإعلامية أو عن غيرها من الصفحات المعارضة، سوى في
الموقف والتوجه السياسي. ما يستوقف حقيقة ويستدعي التأمل هو طبيعة تفاعل “الموالين” مع الصفحة، والإقبال الواسع على منشوراتها والسطوة البادية لإدارة الصفحة على جمهورها.
إحدى هذه الصفحات يديرها شخص يكني نفسه باسم عائلة الأسد، وينشر على الصفحة أخباراً تشي بصلات عميقة له مع دوائر الحكم، وفي الوقت نفسه يكتب كل منشوراته من موقع شعبي، من موقع من يدرك بؤس ومشاكل الناس ويتحسس الصعوبات الكبيرة في حياتهم، وأكثر من ذلك، من يعيش هذه الصعوبات والمشاكل. النتيجة هي أن الصفحة تكتب عن تقصيرات الحكومة والدوائر وعن فساد الوزراء والمسؤولين المحليين، بروحية أوجاع المحكومين ولكن باستعلاء الشبيحة ولغتهم. في التشبيح الواقعي الذي ألفه السوريون يستعلي الشبيح على الناس مسنوداً بسلطة الفساد، أما هنا فإن الشبيح يستعلي على الحكومة مسنوداً بسلطة الفساد نفسها. لا يخفى على متابع الصفحة “سلطة” صاحب الصفحة وعلو مواصيله، فيبدو للمتابع أن نقد وزير الكهرباء، مثلاً، إنما هو توبيخ من سلطة (غير رسمية) أعلى من الوزير.
مع هذه الصفحات، نحن أمام تشبيح معكوس، موضوعه هم المسؤولون الذين يظهر تقصيرهم أو فسادهم، غير أن الضحية الحقيقية لهذا التشبيح، كما لكل تشبيح، هم المحكومون المأخوذون بهذه المناصرة الفارغة التي تأتيهم من صفحة افتراضية ذات سلطة، بعد أن امتلؤوا قنوطاً من قدرتهم على إنتاج سلطة تستجيب فعلاً لا قولاً لحاجاتهم ومتطلباتهم.
هناك إذن “سلطة” مشتقة من السلطة، ولكنها توهم الناس بأنها تعيش أوجاعهم وتتكلم باسمهم وتعلم بمشاكلهم أكثر مما يعلمون. هناك سلطة فاسدة وسيئة الإدارة وظالمة ومتجبرة ومتفشية في كل مفاصل الحياة العامة .. الخ، تستند إليها سلطة كلامية تتكلم بالنزاهة ومصلحة المواطن وتهاجم المسؤولين وتفرغ غضب المحكومين. لا يشك أحد من جمهور الصفحة أن إدارتها جزء لا يتجزأ من سلطة الأسد التي تتحكم بإدارة البلاد، أو المناطق التي تسيطر عليها من البلاد. بكلام آخر، لا يشك أحد بأن سلطة إدارة الصفحة هي من جنس سلطة الوزراء والمسؤولين الذين تمطرهم “توبيخاً”، وما إعجاب الجمهور بها وتفاعلهم الواسع معها، سوى إعلان هزيمة عامة أمام السلطة الأم، والقبول بما قد يجود به هذا الجزء “الافتراضي” من السلطة الذي يوهمهم بأنه يهتم لأمرهم.
لكن يبقى السؤال: كيف لسلطة فاسدة تعيش على نهب الناس وإفقارهم، أن تسند سلطة أخرى حريصة على مصالح الناس وعلى مداواة أوجاعهم؟ الجواب الذي يريد أصحاب الصفحة إيصاله، هو أن السلطة الفاسدة التي يعاني منها الناس ظلماً وإفقاراً، ليست إلا تشوه طاغ وانحراف عن لب السلطة أو مركز السلطة الأول المتمثل بالرئيس ومحيطه الضيق. السلطة الحاكمة إذن تمارس الحكم ومعارضة الحكم في الوقت نفسه، إنها الفساد والنزاهة في الوقت نفسه، الفساد الفعلي والنزاهة الافتراضية. تسعى هذه الصفحات إلى تجيير إحباط الناس وغضبهم من فساد وتقصير الحكم إلى طاقة شعبية تدعم السلطة نفسها من خلال دعم مركز السلطة الأول (المطلق النزاهة). لذلك، بقدر ما تنضح لغة الصفحة بالسخرية والاستعلاء التشبيحي تجاه المسؤولين الفاسدين، بقدر ما تنضح باحترام وإجلال كبيرين “لسيادة الرئيس”، الكائن فوق مستوى الشك والمجسد الدائم للإخلاص الوطني والنزاهة وحسن القيادة ..الخ.
تتميز إدارة الصفحة إذن بأنها تتمتع بحصانة ضد أي قمع، كونها مجرد امتداد من السلطة “ناقد” للسلطة، وقد نقول امتداد “معارض” للحكومة موال للرئيس ومحيطه القريب. والحقيقة أن “القمع” الوحيد الذي تتعرض له الصفحة يأتي من إدراة الفيسبوك بسبب التبليغات “المعادية”، وهذا ما تحتاط له الصفحة دائماً بإعداد صفحات بديلة مباشرة وبتغيير أسماء إدارة الصفحة. كما تتميز الصفحة بأن جمهورها يأمل، من موقع العجز التام، أن تكون إدارتها ذات تأثير لأنها من “عظام الرقبة”. إذا نظرنا إلى هذا الحال، على خلفية التسليم العام لدى الجمهور الذي تتوجه له الصفحة، بأن سلطة الأسد عصية على التغيير، وبأن البديل، فيما لو نجح وتمكن، سيكون وبالاً عليهم، نضع يدنا على سر نجاح الصفحة والإقبال عليها والقبول بها.
لنفترض، لكي نقترب أكثر من الصورة، أن المواد نفسها التي تنشرها هذه الصفحة، قامت صفحة معارضة بنشرها، فمن الراجح أنها لن تلقى لدى الجمهور المقهور نفسه سوى الصد والإعراض الذي يمكن ترجمته إلى عبارة تقول، إننا لم نحصد من معارضة نظام الأسد سوى الخيبات والآلام والسجون والموت، لكننا قد نجد في “عطفه” بعض الخير.
ذات يوم تسبب تنظيم سوري يساري معارض ومحظور باعتقال صحفي موالي يكتب في الشؤون الاقتصادية في صحف النظام، لأن هذا التنظيم أعاد نشر مقاطع من تحقيق كان الصحفي المذكور قد نشره في إحدى جرائد النظام، دون أن يثير هناك أي مشكلة. حين قُرء التحقيق على صفحات جريدة معارضة، بدا للسلطات الأمنية السورية معارضاً وسيء النية ويستوجب معاقبة كاتبه. التحقيق نفسه له في جريدة معارضة ما ليس له في جريدة النظام، التحقيق نفسه يختلف وقعه ويختلف مفعوله باختلاف المنبر.
نقد الفساد، مثلاً، في جريدة معارضة للنظام، يرتبط بتصور “تغييري” يقول إن النظام هو البيئة الأم للفساد، ويتجه بالتالي إلى تغيير النظام بوصفه كذلك. أما نقد الفساد في جريدة موالية فإنه ينطلق من الإقرار بأن الفساد ظاهرة فردية أو خارجية، ويتجه بهذا إلى لوم الفاسدين لأنهم مسيئين للنظام (للرئيس)، أي يتجه إلى إدامة النظام بمقدار ما يُظهر أن النظام غير ساه عن الفساد وأنه يحرص على نظافة اليد والنزاهة و”مكافحة الفساد”.
هكذا يمكن أن يتحول غضب الناس إلى موضوع استثمار للسلطة نفسها إذا علمت كيف تقتل كل أمل بالتغيير في قلوب الناس قبل أن تستميلهم بعطف افتراضي.
Archives
May 2024
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031