في الخامس من تموز توصل تحالف قوى التغيير والحرية في السودان إلى اتفاق مع المجلس العسكري بشأن تشكيل المجلس السيادي، وكان هذا الاتفاق خطوة أولى على طريق طويل غايته تحرير السلطة السياسية من قبضة العسكريين. يعكس الاتفاق توازن قوة بين الحركة الشعبية والمجلس العسكري، ناجم عن ما أظهره جمهور وقيادة الثورة السودانية من نضج نضالي وسياسي.
استطاعت الثورة السودانية استيعاب الضربة التي تلقتها في الهجوم الدموي الذي قام بها المجلس العسكري الحاكم لفض اعتصام السودانيين أمام القيادة العامة في الخرطوم، في 3 حزيران الماضي، فلم تنكفئ الثورة إثر ذلك، ولم تتجه إلى العنف. هذا أول مؤشرات النضج السياسي لدى النخبة السياسية ولدى الجمهور السوداني الذي راكم خبرة نضالية ليست قليلة خلال العقود الماضية، فهو اليوم يسجل ثورته الثالثة على الحكم العسكري. كانت الثورة الأولى في 1964 ضد ديكتاتورية الفريق ابراهيم عبود الذي انقلب على الحكومة المدنية المنتخبة عقب الاستقلال 1956. وكانت الثورة الثانية في 1985 ضد ديكتاتورية العقيد جعفر النميري الذي انقلب في 1969على الحكومة المدنية التي تشكلت عقب الثورة الأولى. وفي كل مرة كان يسقط الحكم المدني التالي للثورة بانقلاب عسكري. هكذا فعل أيضاً عمر البشير المخلوع في انقلابه، على حكومة الصادق المهدي المدنية في حزيران/يونيو 1989.
المؤشر الثاني للنضج السياسي في الثورة السودانية هو الجمع بين الاستمرارية النضالية السلمية المتعددة الأشكال ومقاومة الاستفزازات وإغراء العنف، وبين قبول الوساطات والحوار مع المجلس العسكري، ما يجعل قيادة الثورة قادرة على ترجمة قوة الشارع إلى قوة سياسية فعالة على طاولة التفاوض، وبذلك تظهر كقوة مسؤولة تعرف كيف تخدم الغرض الذي خرجت من أجله. وفي هذا ما يقطع الطريق على مسعى السلطات لتصوير الثورة على أنها حالة من الانفجار الأعمى المملوء برغبة الهدم والانتقام فقط، وعلى هذا تتوحد ضدها قوى “النظام”، وتستثار ضدها نزعة الاستقرار والمحافَظَة بالمعنى الواسع للكلمة.
المؤشر الثالث على مستوى نضج النخبة السياسية التي تتولى قيادة الثورة، هو الجمع بين الثبات والمرونة، الثبات على تغليب العنصر المدني على الجسم الانتقالي، والمرونة في قبول التشارك مع المجلس العسكري في هذا الجسم، وذلك رغم ما أقدم عليه المجلس العسكري من غدر ووحشية، كان أحد الأهداف من ورائها دفع قيادة الثورة، المتمثلة في تحالف قوى إعلان التغيير والحرية الذي تشكل في كانون الاول/ديسمبر 2018، إلى التشنج وصولاً إلى اتباع خيار العداء التام تجاه المجلس العسكري وانتهاج سياسة كل شيء أو لا شيء. هذا الثبات المرن، إن صح القول، من طرف قيادة الثورة، يضع المجلس العسكري، وداعميه، في خانة ضيقة سواء أمام الشعب السوداني أو أمام العالم، وأيضاً، وهذا مما له أهمية خاصة، أمام عناصر الجيش السوداني والرتب الصغيرة وحتى المتوسطة فيه. وقد بدأت الأخبار تتحدث عن عمليات تطهير في الجيش السوداني تطال رتباً متوسطة. الأمر الذي يرجح أن يزداد اعتماد المجلس العسكري على قوى غير نظامية أو شبه نظامية (قوات الدعم السريع) ذات التاريخ العسكري والسياسي الفاشي المرتبط بشخص الزعيم (محمد حمدان دقلو – حميدتي)، بطل جرائم الجنجويد المضادة للانسانية في دارفور.
المؤشر الرابع على النضج السياسي في سياق الثورة السودانية هو وجود قيادة فعلية للثورة، وقدرة هذه القيادة على الحفاظ على وحدتها وعبور المنعطفات والتطورات، السياسية منها أو الدموية. فضلاً عن قدرتها أيضاً على ملء الفراغات القيادية عقب حالات الاعتقال التي تطال قياديين، الأمر الذي حافظ للثورة على عنوان واحد، على طول الخط.
العناصر السابقة مجتمعة قطعت الطريق على القوى الإسلامية من أن تنتزع المبادرة الثورية من القيادة الحقيقية للثورة. وفي الوقت عينه، نجحت الثورة في تفادي صراع جانبي مع الإسلاميين كان يمكن أن يشتت الثورة ويشكل طوق نجاة للمجلس العسكري. بعد ذلك، وجدت القوى الإسلامية نفسها، وقد فشلت في تصدر الثورة، مدفوعة، بتأثير عجزها عن تجاوز قصورها الذاتي، إلى الانحياز للمجلس العسكري مستنجدة به “لنصرة الشريعة” التي يرون أن الثورة تشكل تهديداً لها. في هذا انفصال صريح عن الواقع وإنكار عنيد لحقيقة أن سنوات تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، كما فهمها وفرضها إسلاميو السودان، تحت حكم النميري ثم البشير، كانت من أحلك السنوات على الشعب السوداني، وأشدها بؤساً.
على هذا تجاوزت الثورة السودانية مرحلة صراع القوى الثلاث (مجلس عسكري، تحالف التغيير والحرية، القوى الإسلامية) التي ميزت المشهد السوداني حتى حزيران الماضي، حين قام تحالف أحزاب إسلامية، بدعوة من جماعة “نصرة الشريعة”، بالنزول إلى الشارع لدعم الحكم العسكري. وبات الاصطفاف السياسي أكثر وضوحاً، ولاسيما أن قيادة الثورة نجحت أيضاً في تفادي خط انقسام آخر حاول المجلس العسكري تفعيله، حين اعتبر أن سبب الأزمة الاقتصادية (التي كانت في الواقع السبب المباشر لاندلاع الثورة) هو متمردي دارفور، فرد الثائرون في السودان (كلنا دارفوريون)، مركزين على أن هناك أصل مشترك للمشكلة الاقتصادية، ولمشكلة دارفور، ولغيرهما من المشاكل التي يعيشها السودان، وهو حكم العسكر، وما يعنيه من جعل الاستمرار في السلطة أهم من الوطن، وجعل مصالح أهل السلطة قبل مصالح الشعب.
قد يكون مرد مستوى العنف المنخفض نسبياً في مواجهة الثورة في السودان، قياساً على ما شهدته الثورة السورية مثلاً، إلى الضغط الإقليمي والدولي على المجلس العسكري، وإلى الطابع الانتقالي لهذا المجلس، أي غياب شخصية الزعيم الأوحد فيه، الدور الذي يحاول أن يجسده زعيم قوات الدعم السريع (حميدتي) ولكن دون نجاح تام حتى الآن. غير أن هذا التوازن السوداني الذي ظهر في اتفاق الخامس من تموز، غير مرشح للاستمرار.
لا يزال المجلس العسكري يحوز على السلطة الفعلية (المال والقوة العسكرية المباشرة)، وسوف يعمل، بقدر استطاعته، على تفريغ الاتفاق من مضمونه عبر عرقلة عمل المجلس السيادي أو عبر تفعيل خطوط الانقسام التي برزت في صفوف المعارضة جراء هذا الاتفاق. معلوم أن “حركة تحرير السودان” وحركات معارضة مسلحة أخرى منضوية في تحالف “الجبهة الثورية”، رفضت الاتفاق معتبرة أنه “لم يؤسس على أرضية السلام”. والحقيقة أن الاتفاق الذي جاء عقب نجاح الثورة السودانية في الاستمرار بقيادة موحدة، يشكل محطة استراحة للمجلس العسكري بقدر ما يشكل خطوة إلى الامام من زاوية قوى الثورة، ولذلك فإن الصراع سوف يتركز بعد ذلك في المجلس السيادي نفسه، وهذا يدفع إلى القول إن الجاهزية الثورية خارج المجلس السيادي، وعدم الركون إلى هذا النجاح سيكون شرطاً حيوياً للمضي قدماً في تحجيم سيطرة العسكريين.
يبقى بروز “زعيم” عبر انقلاب عسكري، يتلو عرقلة مستمرة لعمل المجلس السيادي مثلاً، احتمال قائم ينبغي وضعه في الحسبان والاستعداد الدائم لمواجهته، ولاسيما بوجود محمد حمدان دقلو، بوصفه مشروع زعيم جاهز للتحقق حالما تسمح الظروف.