لم يكن مفاجئاً إقدام المجلس العسكري الانتقالي أو “الانقلابي” في السودان، في 3 حزيران/يونيو الجاري، على فض اعتصام القيادة العامة بالقوة، مع ارتكاب فظاعات إرهابية (قتل واغتصاب ورمي الجثث في النيل واقتحام المشافي ومحاصرتها .. الخ)، وهي فظاعات اعتاد “الجنجويد”، الذين يشغل زعيمهم، محمد حمدان دقلو، منصب نائب رئيس المجلس العسكري، على ممارستها ضدالأهالي خلال حرب دارفور التي بدأت في 2003 ولم تنته.
كان مفهوماً سلفاً أن يلحق الاعتصام السوداني بمثيلاته، من اعتصام دوار اللؤلؤة في البحرين (شباط 2011)، إلى اعتصام ساحة الساعة في حمص السورية (نيسان 2011)، إلى اعتصام ميدان رابعة العدوية في القاهرة (آب 2013). الرسالة الموحدة من وراء وحشية فض الاعتصامات هذه، تريد أن تقول إن طريق التغيير السلمي للسلطة مغلق، وإن الانتقال إلى نظام حكم سياسي أقل وحشية وفساداً وأكثر تمثيلاً لموازين القوى السياسية والاجتماعية، لا يمكن تحقيقه إلا بالعنف والقوة العسكرية. وإن الفوز حليف الطرف الذي يتفوق في القوة العسكرية مهما حاز معارضوه من تأييد شعبي. على هذه الحال، يمكن لعشرات المسلحين أن “يتفوقوا” على عشرات آلاف المعتصمين. فض الاعتصامات وقتل المعتصمين السلميين على هذا النحو، يعادل قتل السياسة نفسها.
بعد عمليات فض الاعتصامات والمظاهرات بالقوة، كانت حركات الاحتجاج العربية تنكفئ (البحرين ومصر) أو تتجه إلى العنف (ليبيا وسورية). وكانت الحركة، في كلا الحالين، تدخل في مأزق مستعص، فيما يجد أعداؤها أبواباً للنجاة. فهل ستنجح قوى الثورة في السودان في أن ترسم لنفسها مساراً مختلفاً، بأن تحافظ على التصعيد وعلى سلمية الوسائل في الوقت نفسه؟
نجحت الثورة السودانية، حتى الآن، في إثبات قدرتها على تنويع وسائلها النضالية، فانتقلت عقب التشتيت الدموي للاعتصام أمام مقر وزارة الدفاع، إلى إعلان الاضراب العام والعصيان المدني، ونجحت في شل حركة البلد لمدة ثلاثة ايام كانت كافية لإظهار مدى التأييد الشعبي الذي تحظى به. وهذا ما يؤخذ بلا شك في اعتبار القوى المحلية والقوى الدولية ذات التأثير في السودان، حتى لو أن قوى الثورة علقت العصيان المدني دون أن ينفذ المجلس العسكري كل مطالبها، مثل أن يتم تشكيل لجنة دولية للتحقيق في فض الاعتصام، وأن تسحب المظاهر المسلحة من الشوارع. على أن قوى الثورة نجحت في تحقيق مطلب الإفراج عن المعتقلين السياسيين، ومطلب اعتراف المجلس العسكري بالمسؤولية عن فض الاعتصام.
يصعب الاعتقاد أن المجلس العسكري والقوى الداعمة له يمكن أن يقدم على عملية فض الاعتصام، ولاسيما بهذه الفظاعة وهذه “الثقة بالنفس”، دون موافقة أمريكية تقوم على حساب بسيط يقول إذا انتهت الحركة الثورية عقب فض الاعتصام فهذا جيد، وإن تطورت الحركة، بعد انكسار الثقة بين طرفي الصراع، باتجاه العنف أو باتجاه التصعيد السلمي (كما حدث) فهذا جيد أيضاً لأنه يفتح المجال لمسار طويل من صراعات متشعبة تشكل بيئة مناسبة للتوظيفات والاستثمارات السياسية والعسكرية، فضلا عن كونها تضعف البلد وتهدد بمصير ليبي أو صومالي بحسب تعبير مساعد وزير الخارجية الامريكية لشؤون إفريقيا تيبور ناجي. ولا ندري لماذا يغيب المصير السوري عن بال المسؤول الاميركي.
راهن المجلس العسكري على ضعف الحركة بعد عملية فض الاعتصام، وبالتالي على إمكانية الدخول معها بمفاوضات من موقع المنتصر. غير أن الحركة في السودان، على خلاف الحركات العربية الأخرى، لم تنكفئ، إثر ذلك، ولم تتجه إلى العنف المضاد. لقد نجحت قوى الثورة (تحالف إعلان الحرية والتغيير، تجمع المهنيين السودانيين) في مقاومة الانجرار إلى العنف، رغم استفزازات رجال الجنجويد وتعمدهم ترك أسلحة في بعض الأحياء بغاية إغراء الناس المقهورين باستخدامها. كما نجحت في الحفاظ على وجه مستقل فيما ظهر المجلس العسكري تابعاً لداعميه، بصورة شبه مباشرة (جاءت عملية فض الاعتصام عقب زيارات قادة المجلس إلى الدول الداعمة).
الملمح السوداني المميز هو أن المجلس العسكري، بعد الانقلاب على البشير ثم على وزير الدفاع، الفريق عوض بن عوف، راح يخاطب الناس على أنه جزء من الثورة، في محاولة لإظهار “انقلاب القصر” على أنه انقلاب ثوري ينتمي من خلاله المجلس العسكري إلى الثورة. ينطوي هذا على إقرار بمشروعية الثورة ونفاد مشروعية سلطة البشير المستمرة في المجلس العسكري الذي لم يجد مدخلاً لتشويه الثورة برميها بالعمالة وبالتبعية للخارج، كما اعتدنا في سياق الثورات العربية الأخرى، فاختار أن يتهمها بانتهاك القوانين الانسانية والدولية لأن شباب الثورة ينصبون الحواجز ويغلقون الطرقات، كما قال الفريق جمال الدين عمر، عضو المجلس العسكري الذي التزم جيداً “القوانين الانسانية” في فض اعتصام الخرطوم!
نقض المجلس العسكري، تحت تأثير طبيعته العسكرية وطبيعة القوى الداخلية التي يمثلها والخارجية التي يستند إليها، تعهداته وغدر بالمعتصمين، وانقلب على الاتفاقيات مع “الحرية والتغيير”، ثم عاد، تحت تأثير قوة الشارع، ليرضى باستئناف التفاوض مع تثبيت ما سبق الاتفاق عليه مع ممثلي الثورة.
فيما توزعت القوى في الثورات العربية على محورين هما قوى الثورة وقوى النظام، تتوزع القوى في السودان اليوم على ثلاثة محاور، هي المجلس العسكري من جهة، والإسلاميين من جهة ثانية، وقوى الثورة ممثلة في تحالف الحرية والتغيير وتجمع المهنيين من جهة ثالثة. وجد إسلاميو السودان أنفسهم مرفوضين من المجلس العسكري استجابة لشروط الداعمين الرئيسيين له (السعودية، الإمارات، مصر)، غير أن إسلاميي السودان، بتأثير تاريخهم في دعم السلطات العسكرية المتوحشة في السودان ضد القوى الديموقرايطة والعلمانية، وبتأثير قصورهم الذاتي المتأصل عن التطور، لم يلتحقوا بالثورة التي تقودها قوى علمانية، فتبلورت لذلك ثلاثة محاور سياسية تعطي للثورة السودانية تميزها وتفتح احتمالات أوسع للصراع هناك.
يلعب التباعد بين المجلس العسكري والإسلاميين دوراً في إضعاف تحالف السلطة الذي اعتمد طويلاً على السند الإسلامي سواء ذاك الذي تغلغل في مؤسسة الدولة ولا سيما في الجيش، أو ذاك الذي انتظم في مؤسسات موازية للدولة مثل “قوات الدفاع الشعبي” الإسلامية التي ساهمت في قمع الاحتجاجات ضد البشير. انشغال المجلس العسكري في “استئصال” الإسلاميين من الجيش، واعتقال مئات الضباط الإسلاميين بتهم محاولات الانقلاب، يمكن أن يعطي قوى الثورة مجالاً أوسع للحركة. ولكن من جهة ثانية، يمكن للإسلاميين الذي يحوزون على نفوذ شعبي غير قليل، أن يساهموا في إضعاف تحالف الثورة عن طريق جذب قطاعات من الجمهور باتجاه مطالبهم التاريخية التي باتت بمثابة الثقب الأسود الذي يمتص أعظم الطاقات الثورية، نقصد المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية. وقد بدؤوا يرفعون هذه المطالب سواء في وجه المجلس العسكري أو تجمع المهنيين وتحالف إعلان الحرية والتغيير، الأمر الذي يمكن أن يعقد الصراع في السودان وأن يفتح مخرجاً آمناً للمجلس العسكري يعيد من خلاله إنتاج النظام القديم.