راتب شعبو/ كاتب

أهل جنيف وأهل الحل والربط

نُشرت بتاريخ 07/12/2013 على موقع روزنة
ربما لا يعرف التاريخ مثيلاً لهذا التباين الذي نشهده بين واقع الثورة وتمثيلها السياسي في سوريا. هناك اليوم طلاق صريح بيناللغة السياسية لمن يتعامل معهم “المجتمع الدولي” كممثلين للثورة السورية_الائتلاف الوطني وهيئة التنسيق على ما بينهما من اختلافات سياسية_ وبين اللغة السياسية للقوى العسكرية الفاعلة على الأرض في الصراع ضد النظام السوري _مختلف التشكيلات ذات المرجعية الإسلامية مثل النصرة وداعش وغيرها_ لا شيء يجمع اللغتين سوى إعلان العداء للنظام السوري.
لغتان تنتميان بالفعل إلى زمنين مختلفين ومتعارضين فوق ذلك، لغة تعادي النظام باعتباره نظاماً فاسداً فئوياً مستبداً فتخرج بضرورة إسقاطه وتأسيس نظام ديموقراطي مدني حديث، وأخرى تعادي النظام باعتباره نظاماً كافراً علوياً أو شيعياً، وربما قالت عنه علمانياً، فتخرج بضرورة إسقاطه وتأسيس نظام إسلامي سني تقليدي يطبق شرع الله مهتدياً بكتابه وسنة رسوله كما يفهم أهل هذه اللغة كتاب الله وسنة الرسول.
ظهر خط التباين هذا مبكراً في مسار الثورة، منذ أن واصل الشارع اكتفاءه بذاته وتفلته من أي ناظم سياسي يحكمه، وواصلت القوى السياسية عجزها أمام الشارع. ومن طبيعة هذا الانفلات أنه شديد النفوذية والميل إلى الأفكار السهلة والبدائية كالتطرف والأفكار الطائفية والعنصرية التي عبرت عنها تنظيمات سلفية جهادية وجدت لها أرضاً ممهدة وسط بيئة القمع الشديد الذي جوبه به المحتجون.
وبملاحظة التباين بين القوى العسكرية الفاعلة على الأرض والتي باتت تمثل قوة الثورة الفعلية، وبين الهياكل السياسية التي تتحدث باسم الثورة، يمكن القول إن ثمة تفارقاً بين فكرة الثورة التي لا تزال تمثلها الهياكل السياسية هذه، وبين واقع الثورة الذي تمثله هذه القوى العسكرية على الأرض.
الظاهرة الغريبة إذن أن فكرة الديموقراطية التي هي المنطوق الخارجي للثورة السورية، باتت تستقوي أو تستند إلى فعل عسكري داخلي تقوم به، في الكم الأكبر، قوى إسلامية غير ديموقراطية وتكفّر القائلين بها. هذا الواقع لا يبدد طاقة الثورة ويزيد في استعصاء الوضع السوري فقط، بل يساهم في تبديد مستقبل سوريا نفسه.
ولا يقتصر التباين بين قوى الثورة وتمثيلها على الموقف من الديموقراطية، بل وعلى كامل المرجعية الفكرية والسياسية، بما في ذلك مفهوم الوطن. فإذا كانت المعارضة السياسية السورية قد فشلت في إنجاز وحدتها وصياغة رؤية سياسية مشتركة وإطاراً تنظيمياً يجمعها، إلا أن ما يفرق بين تنويعات المعارضة السياسية السورية يبقى أقل بكثير مما يفرق بين الشق السياسي من المعارضة السورية والشق العسكري منها. بكلام آخر، إن إمكانية إنتاج قاسم مشترك بين أطراف المعارضة السياسية الرئيسية إمكانية قائمة، بيد أن إنتاج أرضية مشتركة بين الشق العسكري والسياسي في المعارضة بات ضرباً من المستحيل.
ثمة عوامل تفسر انتشار الفكر السلفي الجهادي في سوريأ. ويمكن القول إن مهادنة الإسلام الوسطي الذي تميز به أهل هذه البلاد، من أسباب انتشار هذا الفكر العدمي، على عكس ما يوحي به ظاهر الأمر. ذلك أن الثورة على نظام الاستبداد في سوريا تضمنت رفض أشكال الفكر الذي شكل الغطاء السياسي لممارسات النظام المستبد على مدى عقود. وكان الفكر الإسلامي الوسطي في معظم تاريخه حليفاً للمستبد، وقد شكل نوعاً من دين رسمي.
الفكر الجهادي السلفي شكل في سوريا الثائرة خروجاً عن هذا التنويع “المهادن” من الدين، ووجد في المزاج الشعبي الرافض مناخاً مناسباً لانتشاره. ومن ناحية أخرى فإن كل الأفكار الحديثة العلمانية والديموقراطية وغيرها كان قد لاكها النظام السوري بشكل أو آخر، ونالت نصيبها من التلوث الاستبدادي وحملت وزره. الأمر الذي هيّأ للسلفية الجهادية أن تشكل رداء فكريا مناسباً للتمرد على هذا النظام.
وقد ساعد في صعود هذا الفكر منذ البداية القبولُ الضمني، وأحياناً المعلن، من جانب من يفترض أنهم يمثلون التيار العلماني والديموقراطي، طمعاً في استثمار قوة الجهاديين على الأرض، فكان أن استثمر هؤلاء أولئك. وحين اقترن هذا النمط الفكري السلفي بالقدرة المالية والقتالية استطاع أن يشكل بالفعل القطب الذي لا يمكن أن يضاهيه قطب آخر.
اليوم وعلى مقربة من مؤتمر جنيف الذي تواضعت عليه القوى الكبرى، سوف يجد الممثلون السياسيون للثورة أنفسهم تحت تأثير قوة تشدهم إلى لغة “أهل الحل والربط” في الميدان العسكري، وأخرى تشدهم إلى لغة رعاة المؤتمر المنتظر، وليس من المستبعد أن يتوزعوا بين هاتين اللغتين.
Archives
May 2024
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031