راتب شعبو/ كاتب

تعثر الوطنية السورية

نُشرت بتاريخ 19/06/2013 على موقع المدن
بعد سنتين ونيف من عمر قيام الشعب السوري بثورته للتحرر من نظام مزمن في الفساد والاستبداد، صار الشعب السوري أقل تماسكاً من قبل وأكثر ميلاً إلى التفكك. وهذه مفارقة لا يعجز المتأمل عنمعرفة أسبابها. غير خاف أن نظام الاستبداد استطاع أن يحافظ على لحمته وتماسكه إلى الآن، في حين أخفق الشعب السوري في أن يكون أو أن يبقى واحداً في وجه الاستبداد. لقد اكتشف السوريون، سكان سوريا، إنهم بعد ما يقارب السبعين سنة من استقلالهم لم ينجزوا وطنية سورية حقيقية، وما زالوا قابلين للنكوص في الأزمات الكبرى إلى ولاءات دون وطنية. والأهم أنهم ما زالوا جاهزين لرفع هذه الولاءات دون الوطنية إلى مصاف سياسية عليا. ومن البديهي القول إن تفكك أي مجتمع يبدأ من نفوس أهله قبل أن تأتي يد خارجية أو داخلية لتفككه.
كان من أوائل الشعارات التي رددها الشباب السوريون في مظاهراتهم التي عمت البلاد: “الشعب السوري واحد”. وحرص السوريون في أول بوادر الاحتجاج التي شهدتها سوريا في سوق الحميدية في دمشق، أن يكون التعليق على الفيديو المصور بلهجة ساحلية (علوية)، في رسالة “وطنية” تقول إنهم يثورون كمواطنين سوريين وكشعب واحد. تلك الرسالة التي كانت تنطوي أيضاً على خشية مضمرة من أن تسير خطوط الانقسام السياسي في سوريا على مسارات طائفية. وقد عكست أسماء أيام الجمع هذا المسعى التوحيدي لدى المتظاهرين، وذلك قبل أن يدخل السلاح على خط الثورة ويجر وراءه الخط الإسلامي المتشدد وتوابعه (السلاح والتشدد الإسلامي يستدعيان بعضهما البعض). من جمعة (آزادي) في 20 أيار 2011 إلى جمعة (حماة الديار) في 27 أيار 2011 ثم جمعة (صالح العلي) في 17حزيران2011، كانت الثورة تسعى إلى أن تشكل بوابة إلى وطنية سورية أكثر تماسكاً. ولكن مع تصاعد العنف المضاد وتغطيته سياسياً، حدث من وراء ظهر الناس وعلى غير دراية أو قصد منهم، أن تضعضعت الوطنية السورية أكثر، وانهارت الثقة بين أبناء البلد الواحد، حتى بات من الصعب تصور سوريا موحدة وبدولة أحادية أو بسيطة وحكم مركزي واحد. في الواقع انقسم الشعب السوري بين معارضة وموالاة انقساماً لا يشبه الانقسامات السياسية الطبيعية التي هي نتاج آلية سياسية سلمية في إدارة المجتمع. الانقسام السوري اليوم أكثر حدة من ذلك بكثير وأقل قابلية للتبدل. الأخطر من ذلك هو أن هذا الانقسام السياسي يسير، وإن بشكل عام ومن بعيد، على خطوط انقسام طائفية وعرقية أعادت الشعب السوري من كونه واحداً، كما هتفت مظاهرات المدن والقرى السورية طويلاً، إلى كونه مركباً من مكونات طائفية ومذهبية وعرقية، قد لا تكون راغبة، بعد ما جرى في سوريا من قتل ومذابح ودمار وتهجير وجرائم رهيبة، في البقاء ضمن مؤتلف واحد كما كان الحال من قبل. والعبرة هنا في النفوس وفي أشكال الوعي المتكونة وليس في أي شيء آخر.
في التاريخ مثلاً أنه بعد أربعة عقود من الزمن، من 1949 حتى 1989، أُزيل جدار برلين واندفع الألمان لتوحيد شطري بلدهم بحماس، في برهان واضح على أن التقسيم السياسي القسري مهما طال لا يفرض تقسيماً بين أبناء الشعب الواحد. ولكن العكس صحيح، فتنافر نفوس الشعب الواحد، وتشكل وعي تنميطي سطحي بين “مكونات” الشعب الواحد تجاه بعضهم البعض (وهذا ما يساهم به ويغذيه مثقفون انفعاليون أو ضعيفو الشعور بالمسؤولية)، يفرض التقسيم السياسي، أو شكلاً منه. بكلام آخر، إن اليد الخارجية التي تحركها مصالح دول عظمى يمكن أن تستفيد من الانقسامات الداخلية وتستثمرها ولكنها لا تستطيع أن تفتعل هذه الانقسامات.
ربما تثبت الثورة السورية ما لا يرغب به أحد من السوريين العقلاء، وهو أن محاولة الخلاص من الاستبداد قد يكون ثمنها أحياناً تفكك المجتمع وتصدعه وفق خطوط انقسام مذهبية وعرقية عجزت “الدولة الوطنية” عن تجاوزها.
Archives
March 2024
M T W T F S S
« Jul    
 123
45678910
11121314151617
18192021222324
25262728293031