راتب شعبو/ كاتب

علمانية وطائفية

نُشرت بتاريخ 27/06/2013 على موقع المدن
نشر موقع جريدة (المدن) في 21/6/2013 مقالة للصديق الدكتور حازم نهار بعنوان (علمانيتان: وظيفية ومعتقدية) يستعرض فيها حوالي دزينة مما يسميه أنماط العلمانية الشائعة التي يعتبرهافي معظمها غير علمانية. لم يوضح الدكتور حازم ما هي الأنماط التي تنجو من مفردة “معظمها”، ولم يقدم في هذه المقالة  تعريفه للعلمانية “الصحيحة”، غير أنه يعد على صفحته على الفيسبوك بتتمة للمقالة المذكورة لعله يعرض فيها فهمه للعلمانية الذي ينطلق منه لنقد “الأنماط الشائعة”. ورغم الاستعجال الواضح في هذا التصنيف الغزير، يبقى أنه جهد يستحق التقدير.
سأتناول ما سماه حازم (العلمانية الطائفية) التي يعرفها كما يلي: “هي علمانية سطحية شائعة لدى بعض أبناء الأقليات الدينية الذين تعاملوا مع العلمانية كحاجة فحسب للوقوف في وجه التطرف الإسلامي، على الرغم من عدم اختلاف طريقة تعاطيهم مع مذاهبهم وطوائفهم عن طرائق التكفيريين والجهاديين. وهنا تُختزل العلمانيّة إلى موقف متطرف ضدّ حجاب المرأة والإعلاء من شأن تناول الكحول كشعارات لعلمانيتهم، وإلى التخوّف على فقدان هذه النِّعَم التي يتيحها نظام الحكم في سورية. هذا الفهم السطحي يتكشّف في المآل عن قاعٍ طائفي دفين في التفكير، وعن موقف متعالٍ ومتعجرفٍ إزاء الآخر المختلف. فالعلمانية هنا لا تعني إلا موقفاً شكلانياً من المرأة وطقساً كحولياً لا غير”.
1. هذا الموقف “الشكلاني” يتعلق إذن بالمرأة والكحول لا غير. إذن يطال حريات شخصية تخص كل الناس، لماذا إذن لا نجد هذه “العلمانية السطحية” إلا لدى بعض أبناء الأقليات؟ ألا يغار على “الطقس الكحولي” وحرية المرأة في لباسها إلا بعض أبناء الأقليات؟ ألم يحتجّ الأتراك على تقييد حزب العدالة والتنمية للحريات الشخصية المتعلقة بالكحول (منع تناول الكحول بعد العاشرة ليلاً) والنساء (منع القبل في الأماكن العامة) وهل المحتجين الأتراك من “بعض أبناء الأقليات”؟
تقرأ تعريف حازم هذا مرة وراء أخرى وتعجز عن الإمساك بحد معرفي تستند إليه. ماذا يعني “الموقف المتطرف من حجاب المرأة”؟ أو ماذا يعني “الإعلاء من شأن تناول الكحول”؟ تعابير صادمة أو حتى “سلفية” في صياغتها وخاوية في مضمونها إلا مما يشبه التحريض. ربما كان يجدر بحازم أن يضرب مثلاً لقرائه عن هذا النمط من العلمانيين وكيفية “إعلائهم” من شأن تناول الكحول و”تطرفهم” في الموقف من حجاب المرأة. طبيعي أن هناك من كل المذاهب والطوائف من يشرب الكحول ويعتبر هذا حرية شخصية، لكن “بعض أبناء الأقليات” لا يكتفون، حسب هذا التعريف، بشرب الكحول بل “يعلون من شأن تناول الكحول”. هل يعتبر هؤلاء تناول الكحول مبدأ في الحياة وليس مجرد حرية شخصية مثلاً؟ هل يقوم موقفهم من نظام الشريعة الإسلامية على هذا المبدأ فقط (إضافة إلى التطرف في الموقف من الحجاب طبعاً)؟  كان يجدر بالدكتور أيضاً أن يبين من هو هذا “الآخر المختلف” الذي يعبر هؤلاء عن موقف متعال ومتعجرف إزاءه؟ هل هذا الآخر هو الناس الذين لا “يعلون من شأن تناول الكحول” ولا “يتطرفون ضد حجاب المرأة”؟ أم أن هذا “الآخر” هو أبناء الأكثرية عموماً على اعتبار أن هذا النمط من العلمانية يقتصر على “بعض أبناء الأقليات”؟
2. كان يمكن أن يفترض المرء أن مشكلة هذه “العلمانية الكحولية” أنها لا ترى في العلمانية سوى الكحول وسفور المرأة، لكن حازم ينتزعك من افتراضك هذا حين يقول إن هؤلاء “العلمانيين” تعاملوا مع العلمانية “كحاجة للوقوف في وجه التطرف الإسلامي”. إذن الموضوع سياسي وليس فقط “طقساً كحولياً”. هل الحاجة للوقوف في وجه التطرف الإسلامي هي حاجة أبناء الأقليات فقط؟ ما هي نسبة أبناء الأكثرية الذين يرحبون بالتطرف الإسلامي مثلاً؟ ماذا عن ما يجري في تونس وفي مصر من مجابهات بين ميل إسلامي وميل علماني؟ وما العيب في أن تكون العلمانية حاجة للوقوف في وجه التطرف الإسلامي، وليس فقط في وجه التطرف الإسلامي بل وفي وجه الحكم الإسلامي “المعتدل”؟ أين هي المشكلة؟
3. لكن الجوهر في هذا التعريف، وهو ما يعطي هذا النمط من العلمانيات اسمه (العلمانية الطائفية)، هو أن هؤلاء العلمانيين لا يختلفون في “طريقة تعاطيهم مع مذاهبهم وطوائفهم عن طرائق التكفيريين والجهاديين”، أي إنهم متعصبون لمذاهبهم ويضمرون كراهية لأبناء الطوائف والمذاهب الأخرى، وجاهزين “للجهاد” ضدهم. إذن هم الشبيه المضاد للتكفيريين. لكن لماذا يتسترون بالعلمانية؟ هذا ما لا تمتلك مقاربة الدكتور القدرة للإجابة عليه. فالدكتور يحكم بلغة تقريرية خالية من أي تحليل أن لهؤلاء “خطاب لاطائفي طائفي” وإنهم يستندون في حديثهم “إلى قاع طائفي في العمق”.
الحقيقة أن حازم يحرم نفسه في هذا الاستعجال، الذي أراه غريباً عنه، من رؤية هادئة تفسر، ولا تكتفي بالتقرير واستعجال الأحكام. ويسجل على نفسه نصاً ضعيفاً يمكن لناقد سيء النية أن ينسبه إلى خانة النصوص “العلمانية” المتزلفة للإسلام السياسي.
في بضعة سطور يحرق حازم أرض أبناء الأقليات من بوابة “بعض” أبنائهم ممن يتطرفون ضد الحجاب ويعلون من شأن تناول الكحول (!!) ويستخدمون العلمانية فقط “كحاجة للوقوف ضد التطرف الإسلامي”. “بعض ابناء الأقليات” يتكلمون حديثاً ظاهره لاطائفي ولكنه طائفي، إنهم “طائفيون يتسترون بقشرة علمانية”. أبناء الأقليات إذن إما أنهم طائفيون جهاراً نهاراً أو أنهم طائفيون تحت ستار من العلمانية الكاذبة أو “العلمانية الطائفية”. ولكي يزيد حازم من شحنة حديثه “التقريري والتحريضي” ينسب “نِعَم” حرية تناول الكحول ومعاداة الحجاب إلى النظام السوري الذي يتيح هذه “النِعم” لهؤلاء “العلمانيين الطائفيين” من بعض أبناء الأقليات، وكأن هذه “النعم” مفروضة فرضاً على من يمارسها من غير ابناء الأقليات. وفقط “بعض ابناء الأقليات” يقدّرون قيمة هذه “النعم” ويخشون عليها. وبعد قليل سوف تسقط كلمة “بعض” هذه، وسوف نقرأ: “وجدير بالملاحظة أن بعض الحديث الطائفي، أو الحديث الذي يستند إلى قاع طائفي في العمق، وإن بدا في ظاهره أنه ضد الطائفية، إنما يأتي بشكل أساسي اليوم من هذه الفئة المتخوفة التي عرف النظام الحاكم كيف يستثمر خوفها”. معروف في الحديث السياسي العام في سوريا اليوم أن الفئة المتخوفة التي استثمر النظام خوفها، هي ليست “بعض أبناء الأقليات” بل هي غالبية أبناء الأقليات. وعليه تتحول “البعض” إلى “الغالبية”. وهكذا يعطي حازم لنفسه حقاً فريداً في أن يصنف حديثاً علمانياً ما على أنه طائفي، هكذا من النظرة الأولى ودون تحليل. ويحرم القارئ من حق معرفة هذا السر.
ليست العلمانية ولا غيرها من الأفكار السياسية مبدأ جوهرياً مجرداً عن مصالح الناس. وليس من المنطقي أن ننتظر من جماعات ما أن تؤيد أفكاراً سياسية لا تدر عليها سوى التهميش. العلمانية هي بنظر الأقليات جسر عبور إلى ضمان المساواة وتكافؤ الفرص حين يكون وشيكاً خطر الدولة الإسلامية التي تقوم على التمييز الطائفي والمذهبي في مبدئها. ليست المشكلة هنا، المشكلة تبدأ حين تنتقل الجماعات من مناصرة فكرة تنطوي على مبدأ مساواتي، إلى ممارسة القمع والتهميش ضد الآخرين باسم هذه الفكرة. هنا يبدأ مستوى آخر من الحديث.
Archives
April 2024
M T W T F S S
« Jul    
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
2930