راتب شعبو/ كاتب

الوثيقة العلوية وتعامل الصحافة معها

 نُشرت بتاريخ 07/04/2016 على موقع هنا صوتك
بشأن “الوثيقة العلوية” ومثال عن التعامل الصحفي معها
انشغل الإعلام بوثيقة غامضة منسوبة لمتدينين علويين، يقال إنها مسربة إلى محطة بي بي سي البريطانية. الوثيقة تحمل عنوان “العلوي في المجتمع، إعلان وثيقة إصلاح هوياتي”. كل إعلان هو مخصص للنشر بطبيعة الحال، فلا معنى للقول إنه مسرب سوى الرغبة في الإثارة، ولهذا علاقة أيضاً بطبيعة الأصداء التي أثارتها الوثيقة.
الوثيقة لا تحمل أي توقيع أو تاريخ، ولكنهاتتضمن، مهما يكن الأمر، أفكاراً جريئة في تحديد هوية دينية ليس من المألوف أن يصدر عن رجال الدين العلويين شبيهاً لها. وبصرف النظر عن مصدر الوثيقة ومصداقيتها، فإنها تنطوي على توجه علماني ديموقراطي صريح حين تقول: “يتمسك العلويون بقيم المساواة والحرية والمواطنة، وبفكرة أنها مبادئ فعلية لتنظيم الكيان الاجتماعي ولحفظ أعضائه، وليس مجرد مثل سامية دون مضمون تطبيقي، وينادون بالعلمانية باعتبار كونها – كالديموقراطية – إحدى آليات تشغيل هذه القيم، لا رديفاً لها أو نوعاً منها، وباعتبارها فصلاً وظيفياً للدين عن الدولة، وليس جذرياً أو ضدياً”. وتقترح الوثيقة مبدأ للتعددية المذهبية الإسلامية يقوم على الإيمان “باختلاف طرق الفهم البشري للإسلام”، وترفض “فكرة الطوائف الناجية والشعوب المختارة”، وتنادي بالاحتكام في العيش المشترك إلى “قيم الأخوة الإنسانية والمساواة بالمواطنة والحرية”. الوثيقة تتضمن مسعى لتحديد الهوية الدينية للعلويين باستقلال شبه تام عن المذهبين الإسلاميين الأساسيين، وتجتهد في شرح معنى الباطنية بطريقة تخرج به من معنى الانطواء وإخفاء المعتقدات إلى معنى قريب من الصوفية. كل هذا جيد ويخدم في تطبيع العلاقة بين المذاهب ولاسيما مع تأكيد الوثيقة على الخروج من دائرة المظلوميات المتبادلة.
يشكل التعامل مع هذه الوثيقة الغامضة، أوحتى الافتراضية، نوعاً من الاختبار لمدى استعدادنا لالتقاط الميول التشاركية الجامعة وتكريسها، أو لإلقاء الظلام على الفروق وإغراقها.
على سبيل المثال، في مقال له بعنوان “الوثيقة العلوية: هذيان مشرقي”، (المدن، 5/4/2016)، ينحاز الاستاذ ساطع نور الدين، المعروف برزانته، إلى التعمية على ما تحمل هذه الوثيقة من اقتراحات، وتشتيت القارئ عن الأفكار الأساسية فيها. وذلك، مرة أخرى، بصرف النظر عن مصداقيتها. ينشغل ساطع بالأخطاء اللغوية، وهي موجودة بالفعل، التي يصفها بالفادحة والمعيبة، ويمضي قدماً في هذا المأخذ قائلاً “ثمة افتراق مذهل عن لغة قريش”، لا ينسبه إلى “نقص في الثقافة اللغوية، بل إلى هجرة دائمة (..) من الهوية العربية”. يكاد لا يصدق المرء عينيه وهو يقرأ هذا الانشغال اللغوي لقاء نص، يرى ساطع أن دافعه هو “إحساس الطائفة العلوية بالخطر الوجودي”، (في حين أن الدافع، برأيي، هو إحساس بالخطر على الوجود المعنوي أكثر منه المادي الذي ربما يدفع للالتحاق بالشيعة أكثر مما يدفع للتمايز عنهم). فضلاً عن إن انشغال ساطع هو انشغال أصولي لغوي لا معنى له إلا بربطه بأصولية دينية نصية تتخذ فيها حراسة “لغة قريش” معناها الكامل. ولكن ساطع يتحرك باتجاه قومي لا ديني في حرصه على لغة قريش كجزء من خوفه على “الهوية العربية” التي يحتج أنه لم يرد لها ذكراً في الوثيقة، ويواصل بالاحتجاج على اعتبار دمشق قلب العروبة النابض، باعتباره شعاراً مفتعلاً، في ابتعاد محيّر عن “موضوع” الوثيقة.
يبتعد ساطع، كما لو بإصرار، عن ملامسة أي معنى وطني في الوثيقة. فهو يعيب على الوثيقة أنها لا تبحث “عن قواسم مشتركة مع الآخر أو مع الآخرين جميعاً”، في حين تؤكد الوثيقة مراراً أن المواطنة وقيم الأخوة الإنسانية هي القاسم المشترك، فهل هناك آخرون يستثنيهم هذا القاسم المشترك؟. ويحذر من أن العدالة الطائفية هي عبوة ناسفة لأي اجتماع وطني سوري، والحق إن هذا ما تقوله الوثيقة التي لا تطالب بعدالة طائفية، كما يوحي المقال. ويؤكد ساطع أن “النص لا يمد يد المصالحة أو حتى الحوار”، وهذا ما ينطوي على فكرة بائسة ترى أن الصراع في سوريا هو صراع مذهبي وأن المصالحة هي شغل رجال الدين. ثم يعبر عن استنتاج متردد: “لا يمكن الجزم في أن النص يقطع مع النظام، بل هو يبحث عن مخرج منه، وله”. أن تبدو الوثيقة محاولة للخروج من النظام، فهذا ما يمكن فهمه منها بالفعل، ولكن أن تبدو محاولة للبحث عن مخرج للنظام، فهذا مما يجتهد به الكاتب من خارج الوثيقة.
المبالغة في تسليط الضوء على الوثيقة يأتي من افتراض أنها تمثل مجموعة بشرية اسمها العلويون، في حين يعلم موقعو الوثيقة قبل غيرهم خطل هذا الافتراض، ويعلمون إن الإطار السياسي وحده هو ما يؤطر الناس لأنه يشكل تعبيراً عن اجتماعهم الطوعي على فكر معين وأهداف معينة، على خلاف الإطار المذهبي الذي لم يختره أحد منهم.
هنا، برأيي، مكمن النقد الأساسي للوثيقة التي عوملت كوثيقة سياسية مع أنها تصدر من جهة غير سياسية. دون أن يلغي هذا أن في الوثيقة أفكاراً جريئة من الناحية الدينية، أهمها أنها تخلي المجال السياسي تماماً للقوانين الوضعية، مع اعتبار “الدين مصدراً معنوياً وقيمياً وثقافياً وغير مباشر للقواعد، ويستوي في هذا المصدر الدين الإسلامي مع المسيحي وباقي الديانات”.
Archives
January 2025
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031