راتب شعبو/ كاتب

الحلقة المفقودة في جنيف

نُشرت بتاريخ 22/04/2016 على موقع هنا صوتك
حتى الآن استهلك الصراع في سوريا وسيطين دوليين (كوفي أنان والأخضر الابراهيمي) وهو في طريقه لاستهلاك الوسيط الثالث (ستيفان دي ميستورا) الذي يكتشف مع الوقت (جنيف وراء جنيف) أن للمهارات الدبلوماسية فعالية محدودة أمام صراع تحول إلى عقدة صراعات إقليمية وعالمية.
غير أن أعقد ما في الصراع السوري الحالي الذي يبدو مغلقاً على الحلول الدبلوماسية، هو اجتماع أمرين لدى قطبه الأساسي، أي النظام السوري: الأول هو
قدرة هذا النظام على الاستمرار مستفيداً من دعم ثابت من حلفاء عضويين. والثاني هو افتقاده للمرونة السياسية التي تمتع بها النظامان في مصر وتونس وسمحت، من بين عوامل أخرى، بتحرير الصراع في هذين البلدين وفتحه على أفق سياسي أقل عنفاً. أو بكلام آخر، العقدة هي في أن النظام السوري لا يملك أن يقدم حلاً سوى أن يرحل، وهو لن يرحل طالما يمتلك القدرة على البقاء، الشيء الذي تؤمنه له الدولتان الحليفتان (روسيا وإيران) حتى الآن.
يمتلك النظام السوري استعداداً وقدرة كبيرة على المناورة، وما ذلك إلا للتغطية على عجزه عن المرونة في الاستجابة. في المناورة يماطل النظام، يوافق ثم يعرقل، ينسف المسار السياسي، حين يقتضي الأمر، بتصعيد عسكري، يخلط الأوراق دائماً، كل ذلك لأنه لا يمتلك القدرة على التجدد. لأنه رهين تركيبة لم تعد قادرة على الاستمرار على حالها بعد ثورة السورين، ولا يستطيع التخلي عنها في الوقت نفسه. وفي اللب من هذه التركيبة موقع الرئيس. ومن هنا تأتي قسوة النظام العسكرية وقساوته السياسية.
التماسك الملحوظ الذي يبديه النظام السوري، وقدرته على صيانة وحدته خلال خمس سنوات من الصراع المتواصل والذي أوشك أكثر من مرة أن يطيح به، لا تعكس قوة في النظام، إنها بالأحرى تعكس تخشبه ومحدودية خياراته. لا يستطيع النظام في سوريا أن يحمي مصالحه الحيوية بأن يتخلى مثلاً عن الرئيس ويعيد صناعة ذاته على مستوى أعلى من التشاركية والانفتاح على قطاعات أوسع من الشعب. هنا تكمن العقدة الأهم التي شلّت، وسوف تشلّ، جميع مؤتمرات التفاوض ومحاولات الحل السياسي.
أعطى التدخل الروسي للنظام قوة ميدانية، ما جعله أكثر تشدداً وصلفاً في المفاوضات. وفي الوقت نفسه يراهن النظام، في لحظات ضعفه، على أن القوى الكبرى لن تسمح بانهياره، وهو ما أثبتته الأحداث بالفعل. لذلك يبدو أن النظام غير جاهز للسير في طريق تسووي فعلي لا في لحظات ضعفه ولا في لحظات قوته.
أن تطالب المعارضة السورية في المفاوضات في جنيف برحيل الأسد في الوقت الذي يمتلك نظامه قدرة عسكرية وموارد دائمة تسمح له بالسيطرة على نسبة مهمة من الأرض السورية، يشبه أن نطالب المربع بأن يكون دائرة. وهذا ما توضحه تصريحات بشار الجعفري (رئيس وفد النظام إلى مفاوضات جنيف) بشأن قرار الهيئة العليا للمفاوضات (المعارضة) تعليق مشاركتها في جنيف بالقول: “ربما بذهابهم تزال عقبة كبيرة ونصل إلى حل”. هذا يعني أن النظام لا يريد، ولا يستطيع، أن يستجيب لفكرة الحكومة الانتقالية. إنه ببساطة لا يريد أي انتقال، ولا يحتمل أي انتقال.
ولكن كيف يمكن أن يكون انسحاب الطرف الذي يفاوض النظام تطوراً يسهّل التوصل إلى حل؟ وما هو الحل حين يكون هذا الطرف غير مشارك؟ ولماذا إذن يتكلف العالم عناء إجراء المفاوضات من الأصل، إذا كان تعطيلها، بانسحاب وفد المعارضة، يسهّل التوصل إلى حل؟
يتلخص الإعجاز الجعفري هذا بالمعادلة التالية: غياب الطرف المطالب بالحل يسهّل التوصل إلى حل. الحل إذن هو بعدم المطالبة بحل. على أن النظام السوري مستعد لتقديم حل، وإن كان “الحل” في نظره يقع في باب لزوم ما لا يلزم. يمكن للنظام أن يشكل حكومة موسعة، ويمكن أن يقدم حقائب سيادية أيضاً، ويمكنه أن يقدم حتى الحقيبة الأولى (رئاسة الوزراء) التي يعرف منسق الهيئة العليا للمفاوضات جيداً أنها منصباً إدارياً خارجياً قياساً على النواة الصلبة للنظام.
من المعروف أنه لكي تكشف حقيقة تفكير جماعة ما، ينبغي الإصغاء إلى تصريحات أقل أفرادها ذكاء. والحق أن كلام الجعفري يكشف التفكير الداخلي للنظام الذي يقول إن كل جنيف، وغير جنيف، لا معنى له. وأن كل تفاوض لا قيمة له. ويكشف هذا التفكير بدوره الحدود البنيوية لقدرة النظام على الاستجابة، أي يكشف حدود مرونة النظام. الحدود التي ينبغي كسرها إذا أريد لجنيف أن يفضي إلى حل.
ولا تكسر هذه الحدود، بالضرورة، بالتدخل العسكري. يكفي أن يستشعر النظام السوري جدية أمريكية (وليست روسية، ذلك أن الروس باتوا مرهونين للنظام كما هو مرهون لهم وربما أكثر) على الحل. وبما أن الجدية الأمريكية ليست على الطريق حتى الآن، يمتلئ الوقت بالسعي الروسي الحثيث لتصنيع وفد معارض يحصر مطالباته بالحدود الضيقة التي تسمح بها مرونة النظام. سيكون ذلك إن تحقق، نوع من التفاوض مع الذات. ولا يمكن لمثل هذا الحل أن يملك فرصة الديمومة، حتى لو عملت روسيا وأميريكا على مده بأسباب القوة.
Archives
May 2024
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031