راتب شعبو/ كاتب

الهدنة تنهار وماذا عن السلام؟

نُشرت بتاريخ 29/04/2016  على موقع هنا صوتك
من موسكو أعلن رئيس وزراء النظام السوري، رغم استمرار سريان الهدنة رسمياً، إن قوات النظام تعد مع الحليف الروسي عملية لاستعادة حلب. الواضح أن الهدنة في سوريا باتت في حالة موت غير معلن. على أن في كلام الرئيس باراك أوباما في 24 نيسان/أبريل الحالي عن ضرورة “إحياء اتفاق وقف الأعمال العدائية”، ما يشي بالاعتراف بموته. وفي الأصل كان صمود الهدنة طوال هذا الوقت أمراً لافتاً وخارج التوقع. انهيار الهدنة فيسوريا هو في الواقع أقرب إلى العقل من صمودها الذي خفف، على كل حال، من وطأة الحرب على السوريين، ولو لوقت قصير
بينت الهدنة في سوريا أكثر من أي شيء آخر، أن وراء فوضى السلاح والجماعات المقاتلة والعلاقات المتشابكة بينها يكمن نظام متحكِّم، يمكنه في لحظة ما، إن أراد، أن يلجم الفوضى ويسيطر عليها، وقد فعل ذلك في قرار الهدنة وفي استمراريتها. وهذا، بعد كل شيء، أمر يبعث على التفاؤل قليلاً. غير أن المعضلة اليوم ليست في فوضى السلاح ولا في كثرة المجموعات القتالية في سوريا، ولكنها في استحالة التعايش بين طرفي الهدنة. أي في استحالة أن تتحول الهدنة إلى سلام.
أمكن للهدنة أن تصمد هذا الوقت، لأن كل طرف بقي مسيطراً على أرضه، ولأن الهدنة لا تتطلب من كل طرف سوى أن يحترم حدوده. الهدنة، رغم هشاشتها، كانت ممكنة لأنها تسمح لكل طرف بأن يحافظ على طبيعته كما هو فوق أرضه. النظام هو النظام في مناطق سيطرته، والجماعات المقاتلة على اختلاف مرجعياتها هي هي في مناطق سيطرتها. الهدنة هي أن يتوقف الطرفان عن القتال ويحافظان على العداء السياسي المستحكم. كانت الهدنة ممكنة، إذاً، لأنها لا تتطلب تغييراً سياسياً، لأنها لا تتطلب قبولاً متبادلاً، هي فقط تتطلب وقف القتال، ورصيدها في فرض هذا الحال هو الإنهاك العسكري الذي أصاب طرفيها، وعجز كل منهما عن الانتصار.
غير أن الانتقال من الهدنة إلى الحل يتطلب تغييراً جذرياً في معادلة الهدنة. الحل التفاوضي يقتضي التعايش بين طرفي (أو أطراف) الصراع على أرض مشتركة، ويقتضي صياغة تكوين سياسي واحد (سلطة دولة). السلام الذي ينشده جنيف يعني أن يتوصل طرفا الصراع إلى نوع من التعايش السياسي، قل إلى نوع من الوحدة السياسية التي يمكن أن يقوم عليها نظام سياسي جديد. وهذا ما لا يمكن الحصول عليه، وهو ممتنع منطقياً حتى لو تم استثناء الجهاديين الإسلاميين واعتبارهم طرفاً ثالثاً ينبغي محاربته.
رغم توفر قبول شعبي غير قليل ورضا دولي كامل، حرص الأسد الأب في ميثاق “الجبهة الوطنية التقدمية” في 1972، على حسم موضوع السيطرة لحزب البعث، وعلى احتكار النشاط السياسي في قطاعي الجيش والشباب (الطلاب). ومن رفض من الأحزاب السورية هذه الصيغة بقي خارج الجبهة تحت الرقابة الأمنية أو في السجون، وذلك حسب نشاطه ومواقفه السياسية. الحسم الصريح والقوي لموضوع السيطرة هو ما أعطى تلك الصيغة السياسية قدرتها على الاستمرار.
أما اليوم، فمع مضي النظام السوري بعيداً في إجرامه وارتهانه لمحور سياسي معين، تزيد خشيته من المحاسبة، سواء المحلية أو الدولية، وتضعف أكثر قدرة ممثلي المعارضة السورية على المرونة السياسية إزاء إجرام النظام، ويغدو من الصعب تخيل كيان سياسي واحد يجمع بين الطرفين وفق صيغة لا غالب ولا مغلوب التي يسعى “المجتمع الدولي” لتحقيقها في سوريا.
الصراع الذي بلغ هذا الحد من الاستقطاب بات من الصعب احتواؤه في صيغة تسوية. ولا يحتاج المرء إلى بصيرة نافذة كي يرى هذه الحقيقة التي قدمت وتقدم مؤتمرات جنيف المتتالية الدليل تلو الدليل عليها. مفاوضات جنيف، على هذا، تتصدى لمهمة شبه مستحيلة. وعلى افتراض أن جنيف تمكن من التوصل إلى تسوية، فإن مثل هذه التسوية سوف تكون محلاً لصراع هيمنة لن يهداً إلا بحسمه لصالح أحد الطرفين.
لا شك أن الروس والأميريكان يدركون هذه الحقيقة، ويدركها أيضاً ستيفان دي ميستورا الذي لن يطول به العهد قبل أن يلحق بسلفيه. ولكن من الواضح أن هناك توازن عالمي إزاء سوريا. أي أن صيغة “لا غالب ولا مغلوب” التي تجري محاولة فرضها على سوريا هي في الأصل صيغة توافق عالمي إزاء الصراع في سوريا، يجري نسخها على الصراع الداخلي السوري. غير أن هذه الصيغة التي تبدو تسووية عالمياً هي في الحقيقة انفجارية داخلياً. ذلك أن رهان نظام الأسد يقوم على هضم أي “إضافة” يمكن أن يفرضها جنيف (أكانت على شكل حكومة موسعة، أو نواب للرئيس، أو حتى حكومة انتقالية مع بقاء الأسد مدعوماً بجهازه الأمني والعسكري). فيما يقوم رهان المعارضة، بالمقابل، على قدرة هذه “الإضافة” على تفكيك النظام. وهما رهانان يغذيان الصراع لا الانسجام بطبيعة الحال. ولا نظن أن هذا الأمر بخفي على روسيا وأميريكا، ما يجعلنا نكرر الاستنتاج أن الخارج لا يريد سلاماً في سوريا، إنما يريد إدارة حرب مستمرة فيها، إلى إشعار آخر.
Archives
January 2025
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031