راتب شعبو/ كاتب

موسيقار روسي وسائحة يابانية

نُشرت بتاريخ 13/05/2016 على موقع هنـا صوتك
فاليري غيرغييف، المايسترو الروسي العالمي يقود الأوركسترا على المدرج الروماني في تدمر، بعد طرد داعش منها. على الحدث أن يوحي بأن الموسيقى تحل محل الإرهاب، الهارموني محل النشاز، الحضارة محل التخلف. وليت ذلك كذلك. الواقع أن وحشية تحل محل وحشية، والواجهات الحضارية لا تشكل فرقاً من موقع الضحايا. يريد الروس (وحليفهم السوري) أن
يعرّفوا أنفسهم بالموسيقا الجميلة التي عزفت في تدمر، وأن يقولوا إن الطائرات الروسية تشق الطريق أمام الموسيقى والحضارة، لكي يقولوا في المحصلة إن الصراع في سوريا هو بين شرّ تمثله داعش وباقي التنظيمات الجهادية السنية (وكأن سجون النظام المدعوم من الروس لا تمتلئ بآلاف العلمانيين السوريين ومنهم شخصان يعرفهما الروس جيداً هما عبد العزيز الخير ورجاء الناصر)، وبين خير يمثله النظام وحلفاؤه (وكأن حلفاء النظام ليسوا جهاديين شيعة بالمقابل).
على العالم، إذن، أن يستوعب الصراع في سوريا على أنه يدور بين فاعلين يفتحون للزمن آفاقاً للإبداع، وفاعلين يشدون الزمن إلى عصر بائد. وبالطبع، يُفترض أن تنسحب هذه الصورة على النظام السوري أيضاً باعتباره حليف الروس. وقد سبق للنظام السوري، بالفعل، أن نظّم مسابقة لملكة جمال سوريا، في الوقت الذي كان النظام نفسه ينفذ حرق البلد كما وعد السوريين مراراً. لا يبدو في الأمر أي تناقض من وجهة نظر الجلاد. مسابقة ملكة جمال في أتون الحريق، لا غرابة في الأمر بمنطق الجلادين. على مسابقة ملكة جمال سورية أن تقول إن النظام بخير، بعد أن انتهى زمن إن سورية بخير، وإن للنظام وجه آخر غير القتل والسجن وترك المعتقلين يموتون جوعاً ..الخ، وما هذا سوى وجه طارئ اضطر إليه النظام بسبب داعش وأخواتها، أما هو فإنه يستطيع أن يقيم المهرجانات وينظم مسابقات ملكات الجمال، ويهتم بالسياحة أيضاً. ويمكنه أن يفاجئ مراسلاً صحفياً أمريكيا جاء للقاء محافظ حمص المنكوبة للاطلاع منه على مآسي حمص، فيجده منهمكاً في الاستعداد للقاء وزير السياحة السوري الذي كان منهمكاً بدوره في ترتيب مهرجان ما في مكان ما، ومع ذلك يجد الوقت والقدرة على الضحك مع الصحفي الأمريكي واختبار لغته الانكليزية معه.
يتقن الجلادون لغة مشتركة، لغة ستر البشاعة بوشاح جميل. غير أن البشاعة الفاعلة، بشاعة الشر المسلح بالقوة، لا تخفيها الوشاحات الجميلة ولا الموسيقى ولا المهرجانات. إن للبشاعة مسارب أكيدة إلى كل الحواس، فلا يمكن سترها. لا يمكن ستر بشاعة قصف متعمد لأسواق شعبية مثلاً. ولا يمكن ستر جريمة قصف متعمد لمستشفى وقتل مرضى وكوادر طبية. يمكن للجلاد أن يجمع بين موسيقى باخ وبين قصف مخيم لسوريين فارين لا يريدون سوى أن لا يموتوا. هذا هو الواقع. يمكن للجلاد أن يجمع الموسيقى الراقية إلى صور الدخان الخارج من الخيم المتفحمة في مخيم كمونة في ريف إدلب، الخيم التي كانت تؤوي قبل قليل أناساً ظنوا أنهم نجوا بأنفسهم. الجلاد قادر على جمع كل شيء إلى كل شيء. مكاتب كبار الجلادين تحوي على جدرانها لوحات وتحف فنية ثمينة. والجلاد القادر على الجمع بين تعذيب وقتل ضحاياه والاستماع إلى فيروز في الصباح مثلاً، يميل إلى تعميم طبعه. يريد أن يدرب الناس على الخروج من بركة الدم كما يخرجون من بركة الماء، ان تصبح بركة الدم روتيناً لا يتسبب في اضطراب الشعور.
كل جلال الآثار التدمرية وجمالها وقيمتها التاريخية لم تمنع نظام القتل الأسدي (أو النظام الكيماوي كما يحب أن يسميه، محقاً، الصديق بكر صدقي) من إضافة سجن تدمر إليها، حين وجد أن المكان مناسب لمثل هذا “الصرح”. لذلك في لحظة واحدة تمكنت تدمر أن تجمع شخصين، الأول هو سائحة يابانية تزور مدينة تدمر وتقول لصغيرها: “أتبكي وأنت في تدمر!”، والثاني سجين تدمري يقرأ هذا الكلام في جريدة “البعث”، إقرأ “الموت”، (وهي الصلة الوحيدة المتاحة، أحياناً، لسجناء تدمر مع العالم الخارجي). هذا التجاور المكاني والزماني، بين امرأة مبهورة بآثار تدمر، حتى تخال أن صغيرها ينبغي أن يشعر بعظمة المكان ويكف عن البكاء، وبين رجل مسجون بآثار الأسد، ما كان ممكناً لولا التوليفة الاستبدادية التي تتقن جمع مظاهر الحداثة إلى المحتوى الغارق في وحشيته.
لم يخطر في بال السائحة اليابانية أن إلى جوارها توجد مقبرة أحياء، وأن هناك أكثر من تدمر واحدة، إذا صح في إحداها القول “أتبكي وأنت في تدمر؟”، فإنه يصحّ في الأخرى القول “كيف لا تبكي وأنت في تدمر؟”. كما لم يخطر في بال الموسيقار الروسي إنه وسيلة للتغطية على بشاعات تقترفها القوى نفسها التي مكنته من الوصول إلى تدمر. ربما كان الموسيقار الروسي لا يبالي سوى بالموسيقى معزولة عما عداها، معزولة بالتحديد عن السياسة، فهو يساهم في إدارة وتنظيم مهرجانات موسيقية كما في فنلندا كذلك في إسرائيل. لكن من طبيعة الأشياء أن التحفة الفنية التي تزين مقراً للاعتقال، تصبح، بلا شك، ملوثة بكل الرعب والوحشية المحيطة.
Archives
January 2025
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031