راتب شعبو/ كاتب

قصة صباح السالم وضرورة العمل المدني

نُشرت بتاريخ 19/07/2020 على موقع نواة المستقبل
 صدم السوريون حين اكتشفوا، منذ بضعة أيام، أن الفنانة صباح السالم التي كانت قد اختفت عن الشاشة واختفى ذكرها لسنوات طويلة، وظن الناس أنها توفيت، كانت في السجن لأكثر من 12 عاماً. السالم هي صيدلانية دخلت عالم التمثيل وأجادته وأحبها السوريون وبات لها شهرة غير قليلة، ولكن كل هذا لم يحمها من أن يطويها النسيان مرمية كل هذه السنوات في السجن، الحال الذي عاشه مئات آلاف السوريين قبلها ومعها، تماماً كما كان، ولا يزال، كل سوري مرشحاً دائماً لمثل هذا المصير.
صحيح أن قصة السالم غامضة، غير أن غموض القصة يكشف مدى استسلام المجتمع للسلطة إلى حد أن أحد “مشاهيره” يمكن أن يتعرض لمصير أسود كهذا بتأثير السلطة غير المقيدة لأفراد معينين دون أن يعرف الناس ملابسات القصة. قبل ذلك مارست السلطة التي تستعمر الدولة السورية عدواناً وحشياً على كل الأصوات المعارضة مهما كان لونها، ونام المجتمع السوري مهاناً لعقود على تغييب ابنائه في السجون دون أي وجه حق ممكن. كل سجين رأي قضى سنوات في السجن، لا بد أنه شعر في قرارة نفسه، بالتخلي، وبأنه سجين مجتمع بقدر ما هو سجين سلطة.
مع ذلك، لنقل أن المجتمع السوري انكفأ عن نجدة أبنائه هؤلاء لأنهم دخلوا الدائرة المحظورة سياسياً، لكن صباح السالم لم تسجن بتهمة سياسية حتى يقال هذا شأن خطير لا يمكننا الحديث فيه، وأن من يتنطح للسياسة المعارضة عليه أن يتحمل التبعات. لا أحد يعلم ما هي بالضبط ملابسات سجن السالم، لكن الكل يعتقد أن هناك جريمة ما في معالجة “جريمة” السالم. الأخبار المتداولة تزيد من تشويش القصة، تقول الأخبار إنها حكمت بالإعدام مع إشارة إلى أن الجريمة تتعلق بالمخدرات، وأن الإعدام خفف إلى السجن 15 سنة بعفو رئاسي (المعروف أن قضايا المخدرات لا يشملها العفو) ثم خفضت المدة إلى 8 سنوات (ولكنها قضت في السجن 12 عاماً). هذا مؤشر على غياب كامل لجهات مدنية تعتني بشؤون الأفراد ولو من باب التوثيق فقط. وإذا كانت السالم حظيت بقدر من الاهتمام “المتأخر جداً” لأنها فنانة ولها شهرة سابقة تغري بالاستثمار الإعلامي، فإن مثل هذا الاهتمام غير متاح لغيرها من غير المشهورين وممن عانوا مما عانته أو أكثر أو أقل.
الدولة الحديثة المستبدة استولت باسم الحداثة على كل مقدرات القوة في المجتمع، وباسم الحداثة نفسها سلبت المجتمع من كل وسائل الدفاع عن النفس، فبات ضحية لا حول لها لشتى صنوف عنف السلطة ونزواتها، ولا مخرج من حال اللاتوازن هذا إلا عبر المنظمات المدنية.
جاءت دائماً ردود فعل المجتمع السوري ضد عدوانية السلطة وتدخلها وتحكمها في كل مجالات النشاط الاجتماعي، على شكل تنظيم أحزاب سياسية معارضة كانت تنتهي في السجون وفي القبور وفي النسيان. وكان اهتمام هذه الأحزاب المعارضة بانتهاكات السلطة اهتماماً سياسياً، بمعنى أنها كانت تهتم بالانتهكات بوصفها مادة للتحريض السياسي أكثر من كونها قضية مستقلة مرفوضة بذاتها وليست مرفوضة فقط لأن جهة سياسية محددة هي التي ترتكبها. والنتيجة التي لمسها السوريون بعد الثورة، وبعد أن تمكنت بعض أحزاب المعارضة من ممارسة السلطة في مناطق معينة، هي أن هذه الانتهاكات استمرت ولكن على يد سلطات أخرى. ما يشير إلى تدن فادح في احترام القيم الانسانية والاجتماعية باستقلال عن السياسة.
لولا المنظمات الحقوقية التي تولى تأسيسها مجموعة من الناشطين والمحامين السوريين الشجعان، لكانت ساحة النشاط المدني (غير السياسي) في سورية فارغة، والحال إن ملء هذه الساحة هو الفعل الأهم والأكثر تأثيراً وضماناً للمجتمع على المستوى البعيد. الدفاع عن حق السوري بمحاكمة عادلة، بصرف النظر عن انتمائه السياسي والفكري، أكثر أهمية بدرجات من نشاط حزب سياسي ما يقارع ليستلم السلطة كي “يعيد ترتيب الطبيعة”.
يحتاج المجتمع السوري إلى تأسيس منظمات مدنية تهتم بقضايا حياتية محددة تشكل هموم المواطن السوري. أكله وسكنه وسلامته الصحية وأمانه ..الخ. هذه المنظمات ليست سياسية ولا تريد الوصول إلى السلطة ولا تريد سوى أن تتابع الشأن الحياتي المحدد الذي اختارته مجالاً لنشاطها. من الضروري وجود منظمة تهتم بقضية السجناء “غير السياسيين” مثلاً، فلا تكون السلطة هي الجهة الوحيدة التي تعرف قضاياهم والتي تستطيع لذلك أن “تكذب وأن تفبرك”. ولا يكون الفرد السوري معرضاً لأي صنف من التعدي دون وجود نشاط توثيقي على الأقل يحمي قضيته من الضياع ولا يحمي المرتكبين من المحاسبة ولو المعنوية والأخلاقية، على أقل تقدير.
كانت إحدى الناشطات في مدينة السويداء قد اقترحت، إزاء انهيار الأمن وتفشي الجريمة والانتهكات بين درعا والسويداء، تشكيل “لجنة تقصي حقائق مكونة من حقوقيين ومحامين من أبناء المنطقة الذين بإمكانهم تشكيل قواعد بيانات دقيقة لمرتكبي الانتهاكات ولعصابات الخطف، ومن ثم إعداد مذكرات قانونية حسب الأصول حتى لو كان الجهاز القضائي الحالي منخوراً، إلا أنها على أية حال وثائق أهم ما فيها أنها تؤسس لتعميق ثقافة القانون وعدم الإفلات من العقاب وأن هنالك مجموعة من الخبراء والمختصين ممن سوف يضعون أرشيفاً يتم تقديمه إن آجلاً أم عاجلاً إلى المؤسسات التي سوف تتابع ملفات العدالة الانتقالية في سورية .. الوثائق يمكن حفظها لدى مجلس أمناء”. (مانيا الخطيب، مقترحات عملية مرحلية بخصوص درعا و السويداء، موقع نواة على الفيسبوك، نيسان/أبريل 2020).
الكفاح لتأسيس هذا النوع من المنظمات المدنية لن يكون يسيراً، وسيلقى المبادرون إليها ما لقيه المبادرون لتأسيس منظمات سياسية معارضة، غير أن شق هذا الطريق حاجة لا بد منها في سورية، وهو نضال أكثر أولية من النضال السياسي الذي ينتهي عادة إلى العدم أو إلى تأسيس نظام شبيه بالنظام الأول حين يتراجع المجتمع أمام السلطة الجديدة. المنظمات المدنية التي تعنى بجوانب حياتية محددة باستقلال عن طبيعة السلطات المسيطرة هي المادة الأساسية لبناء ديموقراطية، وهي ما يمكن أن يضمن عدم تكرار ما حدث لصباح السالم ولغيرها من جور وإهمال.
Archives
December 2024
M T W T F S S
« Jul    
 1
2345678
9101112131415
16171819202122
23242526272829
3031