راتب شعبو/ كاتب

تشابه الحكايتين الكردية والعلوية

نُشرت بتاريخ 13/11/2019 على موقع العربي الجديد
حكاية الكرد السوريين مع حزب الاتحاد الديموقراطي (الكردي) تشبه حكاية العلوييون في سورية مع نظام الأسد. ملخص الحكاية هو جعل المظلومية منطلقاً للسيطرة، ليس لسيطرة “العنصر” المظلوم، كما يُستسهل القول، بل لسيطرة نخبة منه تستثمر في مشاعر الظلم لشد عصب، قومي هنا وطائفي هناك، تستند إليه سيطرة هذه النخبة.
الحكاية الكردية جاءت على شكل تكثيف زمني للحكاية العلوية، في غضونسنوات قليلة انتقل الكرد السوريون من موقع الملظوم والمغلوب (تعريبهم وعدم الاعتراف بحقوقهم القومية وإنكار حق الجنسية السورية على نسبة كبيرة منهم) إلى موقع الغالب والمسيطر في مناطق تواجدهم الكثيف وخارج هذه المناطق أيضاً. يجب أن نقول سريعاً أن الكلام العام عن سيطرة للكرد السوريين يغطي على حقيقة أن السيطرة هي في الواقع لتنظيم سياسي عسكري محدد، مارس سيطرته على الكرد كما على غيرهم، وعانت نسبة غير قليلة من الكرد السوريين على يده قسراً وسجناً وقتلاً وإقصاء وتهجيراً ..الخ. لكن قدرة هذا التنظيم الكردي على فرض نفسه وتحقيق اعتراف محلي ودولي به، ونجاحه في إنشاء “دولة” له في مناطق سيطرته، ونجاحه أيضاً في مواجهة داعش .. الخ، كل هذا شكل رصيداً معنوياً كبيراً لعموم الكرد المشبعين بقهر وإنكار مزمنين، ويتوقون بطبيعة الحال إلى نوع من الاعتراف ورد الاعتبار. على هذا لا ينبغي لنا أن نفاجأ بشعبية هذا التنظيم ومقبوليته لدى غالبية الكرد السوريين. وفق الآلية نفسها التي جعلت لنظام الأسد شعبية طاغية في الوسط العلوي.
استفاد التنظيم الكردي المذكور من تراكب ثلاثة عناصر، الأول هو استعداد نظام الأسد للانسحاب من مناطق التواجد الكردي في سورية من أجل التركيز على مناطق ثائرة أخرى يراها أكثر خطورة. والثاني هو وجود تنظيم حديدي (حزب العمال الكردستاني) جاهز لملء الفراغ العتيد بالتنسيق مع النظام (كما كشفت تقارير وكما يبدو منسجماً مع المنطق ومع تطور الأحداث). والواقع أن ما شكل أساساً لهذا التقاطع بين النظام السوري وحزب الاتحاد الديموقراطي، هو أن هذا الأخير تقاطع مع النظام السوري في نظرته إلى الثورة السورية، فالحزب لم ير في ما حصل ثورة أصلاً وحافظ دائماً على مسافة، عملية وسياسية، تفصله عنها. لذلك استطاع النظام السوري اتباع خطة فكرتها العامة هي: التراجع “المؤقت” أمام الحلم القومي الكردي، بغرض التفرغ لخنق الحلم التحرري السوري، ثم التفرغ تالياً لتصفية الحساب مع الكرد. إلى ذلك، كان من شأن تراجع النظام أمام الحلم الكردي، تأجيج مشاعر العداء القومي العربي، غير القليلة في صفوف جمهور الثورة نفسه، ضد بروز السيطرة الكردية في منطقة الجزيرة، هذه المشاعر التي سوف تزداد حدة مع ظهور ممارسات تسلطية من جانب الحزب، الأمر الذي ينتهي إلى خلق خط صراع داخلي (سوري سوري) بعيد عن خط الصراع مع النظام.
العنصر الثالث والهام الذي استفاد منه حزب الاتحاد الديموقراطي، هو الدعم الأمريكي الواسع بعد موافقة الحزب على الانخراط مع التحالف الدولي ضد داعش. لا يمكن إنكار المجهود العسكري الكبير الذي تحملته قوات سورية الديموقراطية ذات السيطرة الكردية، غير أن هذا الإنجاز “الوطني” تحقق على يد تشكيل لا يجسد الفكرة الوطنية السورية أو لا يمثل عموم الوطنية السورية، الأمر الذي أفقد هذا الإنجاز مفعوله الوطني الممكن. هذا الحال يشبه الإنجاز الوطني الذي حققه حزب الله في لبنان (تحرير الجنوب اللبناني) والذي لم يقد، في الواقع، إلى تعزيز الوطنية اللبنانية نظراً إلى أن حزب الله لا يمثل عموم الوطنية اللبنانية، بسبب بنيته المذهبية.
تمكن الناشطون الكرد، وبشكل اساسي ناشطو حزب الاتحاد الديموقراطي، من تحقيق حضور بارز لقضيتهم في الوعي العام الأوروبي، فإذا كان قليل من الأوروبيين يميزون خطوط الصراع التي تزداد تعقيداً في سورية، فإن الغالبية منهم يعلمون أن هناك أقلية قومية كردية تعاني اضطهاداً قومياً وتناضل ضد “داعش” وتلتزم قيماً تحررية ولاسيما تجاه المرأة. وتحوز هذه الأقلية تعاطفاً ملموساً لدى الأوروبيين الذين يمتلكون حساسية خاصة تجاه الأقليات خارج أوروبا. ولا نخالنا نجازف إذا قلنا أن كلمة (روجافا) معروفة في أوروبا أكثر مما هي معروفة في سورية نفسها.
ولكن مهما يكن من أمر، فإن الصعود الكردي الذي شهدناه، ينطوي على مغامرة لأنه لا يمتلك أسباب حياة مستقلة عن الدعم الخارجي، ولأن القوة السياسية التي كانت وراء هذا الصعود، قطعت منذ البداية جسور تواصلها مع الجسد الأساسي للثورة السورية، بسبب مواقفها وأولوياتها المتمايزة عن الثورة. على هذا، يبدو أن حزب الاتحاد الديموقراطي، بعد سنوات الصراع القليلة الماضية، بات يمتلك قوة عسكرية وسياسية مهمة فضلاً عن اعتراف دولي غير قليل، ولكنه أيضاً بات محاطاً بعدد من الأعداء، رغم إنجازه وتضحياته (خسارة حوالي 11 ألف مقاتل) في مواجهة “داعش”. وبات السبيل الوحيد المتاح له هو سبيل الانفتاح على نظام الأسد، بعد أن غدت “قوى الثورة” مرتهنة بشكل شبه تام لتركيا، التي يرى فيها الحزب العدو الأول.
عودة النظام إلى مناطق الإدارة الذاتية تعني بداية تراجع السيطرة الكردية. سوف يشكل التواجد الأمريكي سنداً للإدارة الذاتية، ولكن هذا التواجد يخبئ، في الوقت نفسه، مشكلة فعلية للكرد تتمثل في أن التواجد الأمريكي يهدف إلى نهب معلن للبترول السوري ما سيجعل التعاون الكردي الأميريكي محط رفض سوري عام، يمكن الاستثمار السياسي فيه وإيصاله إلى درجة “التخوين العام”، في عيون أنصار النظام أو أنصار المعارضة. هذا السيناريو يفضي، بطبيعة الحال، إلى صراعات إخضاع عنيفة أو حتى إلى صراعات إبادة لها سلفاً أدواتها وداعموها.
إدارة التراجع الكردي من خلال التمييز بين الثانوي والأساسي في التحالفات، ومن خلال التخلي عن وهم السيطرة، تحتاج إلى مهارات سياسية وآلام ذاتية لا تقل عن إدارة الصعود الكردي الذي تحقق. الموضوع لا يتعلق بصعود وتراجع حزب، بل يتعلق بتبعات خيارات سياسية تنعكس على عموم الكرد. الدرس الذي ينبغي للسوريين أن يعوه، سواء من الحكاية الكردية أو الحكاية العلوية، هو ضرورة تخلي كل الجماعات السورية عن وهم السيطرة، وإبداله بحق المساواة. ضرورة إشباع الوعي العام بهذا الحق وهذه القيمة على حساب فكرة السيطرة، رغم ما تتمتع به هذه الأخيرة من جاذبية “جاهلية”. الواقع يقول إن السيطرة تخلق عناصر دمارها وتجر تبعات مدمرة على المجتمع، فيما تفتح المساواة باباً واسعاً للتطور والتنمية العامة التي تنعكس خيراً على الجميع.
Archives
April 2024
M T W T F S S
« Jul    
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
2930