راتب شعبو/ كاتب

قصتنا العسيرة

نُشرت بتاريخ 07/09/2019 على موقع بروكار برس
 ننتمي إلى بلد لم يستقر طوال تاريخه القصير نسبياً على آلية مطردة لإنتاج شرعية سياسية، لكن أحد أبنائه، من الضباط المتحدرين من أقلية مذهبية فيه، ألغى الحاجة إلى مثل هذه الآلية، وأثبت لنا أن “الشرعية السياسية” تؤخذ ولا تعطى. فقد ارتقى في سلم السلطة ثم عرف كيف يستأثر بها ويحكم هذا البلد ثلاثة عقود، تخللها تدمير ما استوجب من البلاد، مع
مئات الآلاف من المعتقلين السياسيين وعشرات الآلاف من القتلى والمهجرين. وانسجاماً مع الآلية التي أرساها ذاك العسكري، ورث من بعده الحكم ابنه، غير العسكري، وجعل من بطش أبيه نموذجاً مصغراً لما سيقدم هو عليه.
هذه قصة استبداد مألوفة، لسوء الحظ، في غير مكان في العالم. ما نريد عرضه هنا، هو السمة الخاصة بقصتنا.
نسج بطلنا، وليكن اسمه حافظ الأسد، مع الوقت حبكة عويصة من خلف ظهر السوريين الذين حين انتبهوا كانت عناصر الحبكة قد اكتملت، وأصبح الفكاك منها مكلفاً ومؤلماً أكثر مما تخيلنا بكثير.
فقد سار بطلنا أولاً، وعلى طول الخط، وفق مبدأ يقول السلطة أولاً وقبل كل شيء، أي إن كل القضايا الأخرى، مهما عظمت، يجري تناولها من منظور ديمومة السلطة. السلطة غاية بذاتها وليست وسيلة لغاية أخرى، أو هي غاية ذاتها، أو بعبارة أدق، السلطة هي وسيلة الاستمرار في السلطة. مثلاً، يمكن أن نحارب إسرائيل أحياناً ولكن ليس لكي نحرر أرضاً، بل لكي نعزز شعبية السلطة بأنها تتحمل أعباءها الوطنية. لا شك أن تحرير الأرض، أو تحرير جزء منها، سوف يعزز شرعية السلطة أكثر، ولكن التحرير يتطلب الاستعداد العسكري والاقتصادي الفعلي، وهو ما لا يتوافق مع ديمومة السلطة التي تحتاج، مثلاً، إلى ضمان ولاء الضباط وليس كفاءتهم العسكرية. ومن ناحية ثانية فإن العمل الجدي للتحرير يجلب غضب العدو المحتل والدولة العظمى التي إذا غضبت يمكن أن تهدد استمرار السلطة. وعلى اعتبار أن هذه الدولة العظمى، ولتكن أميريكا، غير محبوبة في بلدنا لأنها تقف مع من احتل ارضنا، فإن دوام السلطة يتطلب معاداتها بإحسان، فلا نغضبها فوق حد معين، ونتعلم كيف نكون معها قلباً وضدها قالباً وفي الوقت نفسه.
واجتهد بطلنا منذ البداية في بناء هيكل دولة حديثة وديموقراطية مع الحرص على فصل المؤسسة عن معناها أو مضمونها. النتيجة كانت أن السلطة تبقى حيث هي في يد صاحبنا وأعوانه المقربين، وفي الوقت نفسه، يستطيع من يشاء أن يتكلم عن برلمان منتخب ونقابات وقانون وتعددية حزبية .. الخ. ممارسات تمييزية على أسس طائفية وعشائرية ومناطقية وعائلية ..الخ، وكلام دائم عن العلمانية والمساواة والوطنية. علمانيون عند اللزوم وإسلاميون عند اللزوم، هذا لا يعيق ذاك.
ذات يوم بلغ الانفصال بين المؤسسة ومضمونها حداً طريفاً، فهناك جهات غربية عديدة، لا تفقه شيئاً من أمر الدولة السورية، كانت تثابر على التنديد بسجن المعتقلين السياسيين في سورية دون توجيه التهم لهم ودون تحويلهم إلى المحاكم. وقد قرر بطلنا، تحت هذه الضغوط، أن يستجيب فيكسب سكوت هذه الجهات. أحيل المعتقلون إلى المحاكم فعلاً، وكانت النتيجة أن المحاكم وجهت الاتهامات التي تشاء وأعطت الأحكام التي تشاء، ثم قضت بتجريد المحكومين من حقوقهم المدنية، وهكذا راح المعتقلون يترحمون على أيام التوقيف العرفي.
أما اتحاد المحامين العرب، ولمعرفته الجيدة بالأمور، فقد توسل عندئذ إلى سيادة الرئيس (بطل القصة) كي لا يحيل زملاءهم المعتقلين إلى المحاكم. وعليه فقد خرجنا على العالم بلوحة غريبة بعض الشيء، يظهر فيها معتقلونا وهم يفضلون البقاء في السجن دون محاكمة، ويظهر محامونا وهم يخافون المحاكم.
مع ذلك، لم تكتمل قصتنا بعد، ولا يزال القسم الأهم في الجزء المتبقي.
الأقلية التي تحدر منها بطلنا، كانت قد عانت من تاريخ طويل من الظلم والاضطهاد بسبب خروجها عن المذهب السائد، عانت من الخوف والفقر ومن الحملات العسكرية المتلاحقة، فسكنت الجبال والمناطق النائية، ووجدت في وصول أحد أبنائها إلى منصب الرئيس شيئاً من إعادة الاعتبار الذي طالما تاقت إليه. ثم تحول هذا الشعور مع الوقت ومع العمل المدروس الذي يوجهه مبدأ السلطة أولاً، إلى شعور بما فوق إعادة الاعتبار، إلى شعور بالتميز وبالقوة. ها هم “أبناؤنا”، بعد هوان طويل، في كل مكان، ويشغلون مواقع القوة في الدولة، يحلون ويربطون في شؤون الناس والبلد. لم تعد لهجتنا تثير السخرية والاستخفاف، بل باتت تثير الخوف، وبات الآخرون يقلدونها طمعاً في مفعولها. لم يكن لنا مثل هذه الهيبة والاعتبار من قبل. والفضل في ذلك يعود إلى بطل القصة.
بهذا الخيط الناعم حيك شعور مخاتل يقول هذه السلطة سلطتنا. قد نكون فقراء ونعيش على هوامش المدن، وقد تكون مناطقنا وقرانا مهملة، ولكننا “أهل السلطة” بعد كل شيء. قد نتعرض للظلم والتشبيح والسجن أو القتل أحياناً على يد “أبنائنا”، ولكن ماذا لو سقطت السلطة بيد “الآخرين”، ألن نعود إلى عصورنا الغابرة تلك؟ إن عداء الآخرين لهذه السلطة لا ينبع إلا من العداء القديم لنا والرغبة في اضطهادنا أو حتى في قتلنا. هكذا صار من يظنون أنهم “أهل السلطة” يحملون ظناً سيئاً بكل قول مضاد للسلطة، ولاسيما حين يصدر عن الآخرين. الكلام عن الحرية والديموقراطية ..الخ، ليس سوى ستار مخادع للطائفية ولغايات سيئة تستهدفنا من وراء السلطة، فكيف إذا كان الكلام صريحاً عن قتلنا أو إعادتنا إلى الجبال؟
يمكن لآخرين أن يتكلموا بلغة أكثر وطنية عن هذا القلق الخاص، فيتحدثون مثلاً عن مؤامرة ضد محور المقاومة، وعن أولوية الحفاظ على الدولة، وعن العلمانية في وجه الحكم الديني، وعن ضرورة الوحدة في وجه الفاشية الإسلامية الزاحفة ..الخ.
أعاد بطلنا الاعتبار لهذه الأقلية ثم سار بها إلى حيث جعلها تعيش وكأنها تقف على لغم السلطة الذي سوف ينفجر بها ما أن تخطو إلى الأمام.
Archives
April 2024
M T W T F S S
« Jul    
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
2930