ليس للقاء استانة الثالث عشر (1-2 آب/أغسطس)، الذي مر دون أن يلحظه أحد تقريباً، ما يفخر به. حتى اتفاق الهدنة الذي أعلن عنه في أستانة، على هشاشته وضعف عناصر استمراره، لم يكن من نتائج اللقاء بل من نتائج تفاهمات سابقة عليه. لعل أفضل ما جاء به هذا اللقاء أنه شكل مناسبة لإطلاق سراح حوالي 30 من المعتقلين والمخطوفين في عملية تبادل بين قوات النظام والقوى الإسلامية.
يستوجب مسار استانة، بطبيعة الحال، وجود
ممثلين من “المعارضة” السورية، غير أن قوة الدور الذي يتطلبه المسار أصبحت، مع الوقت وتتالي اللقاءات، أقوى من الممثل الذي صار مأسوراً للمسار وفاقداً لحريته، وبات أقصى ما يملك الممثل من أمره هو أن يتخلى عن أداء الدور، وعندها سوف يشغله ممثل آخر ليقوم بالدور نفسه، وهو دور هامشي، على أي حال. على هذا، لا معنى للوم الممثلين المشاركين في هذا المسار.
في كامل مسار أستانة يحضر منطق الدولة على حساب منطق الثورة، ليس فقط لأن قوى الثورة السورية تحطمت وتبعثرت منذ أمد طويل سابق على لقاء استانة الأول (كانون ثاني/يناير 2017)، بل لأن الوفد السوري المسمى “وفد المعارضة”، الذي يشارك في مواجهة وفد النظام، لا يجد سبيلاً أمامه إلا أن يتكيف، لأسباب باتت واضحة، مع منطق الدول الداعمة وبشكل خاص الدولة التركية. النتيجة أن المصالح التي يفترض أن يتحدث فيها “وفد المعارضة” السوري، تمر حكماً عبر موشور مصالح الدولة التركية بوصفها “ضامنة المعارضة”. أي إن مصالح القوى المجتمعية السورية غير الحكومية أو غير الدولتية تمر عبر مصالح دولة محددة. هذا يقول بما يكفي من الوضوح والجزم أننا أمام عملية تفاوض دول تجري فيها تقاصات سياسية عبر الموضوع السوري، وأنه لا وجود لأي تمثيل أو تأثير أو منطق ثوري في استانة.
منطق الدولة، وهو المنطق المسيطر تماماً في أستانا، أو (نور سلطان)، يمثله ميثاق الأمم المتحدة الذي يتكلم عن وحدة وسلامة أرض الدول وسيادتها، وقد جرى التعبير عن هذا المنطق المرعي في بند ثابت يرد أيضاً في البيان الختامي لمحادثات أستانة، الذي يؤكد، بضمانة الدول الضامنة، على “الحفاظ على وحدة سورية وسيادتها وسلامة أراضيها”. من الجيد الكلام عن وحدة وسلامة الأرض السورية، فهذا، إذ يذكّر بأن سورية بلد واحد، إنما يدعو إلى الاطمئنان قليلاً تجاه ما يبدو من أعمال إلحاق وتتبيع تقوم بها تركيا على حدودها الجنوبية بمعونة سياسية وعسكرية وأمنية من حلفاء سوريين إسلاميين، وهي أعمال تثير مخاوف من آثار بعيدة المدى، كان لسورية تجربة مريرة مع أمثالها، وكان آخرها خسارة لواء اسكندرون. أما الكلام عن السيادة في البند المذكور فإنه يتعلق بالدولة، وحين يكون نظام الأسد ممثل الدولة السورية في الأمم المتحدة حتى الآن، فإن هذا يعني اعتبار أن كل المناطق الخارجة عن سيطرة النظام (أكانت في غرب الفرات أو شرقه) هي في وضعية غير قانونية قياساً على القانون الدولي، ويعني أن الدولة التركية هي دولة احتلال طالما أنها تسيطر على مناطق سورية وتحتفظ بحوالي عشرة آلاف جندي تركي فيها، دون إرادة الدولة السورية “ذات السيادة”. ومن نافل القول إن هذا ينطبق ايضاً على القوات الأمريكية وغير الأمريكية المتواجدة على الأرض السورية رغماً عن “سيادة الدولة”.
على هذا لا يبدو أن لمحادثات استانة أرضية قانونية من زاوية القانون الدولي، طالما بقي نظام الأسد يمثل الدولة السورية في الأمم المتحدة. وأن زاوية التدخل الأممي القانونية لا تعدو كونها زاوية إنسانية. هذا القصور في القانون الدولي الذي يعلي شأن الدولة على شأن المحكومين، يجعل سلوك النظام وإيران وروسيا، وهي البلدان التي تهاجم مدنيين وتقصف مرافق حيوية في مناطق سيطرة القوى الإسلامية، متوافقاً مع القانون الدولي (لأنها تتدخل بموافقة الدولة ذات السيادة)، أكثر من سلوك تركيا التي، في إطار سعيها خلف مصالحها القومية، تؤمن بعض الحماية لملايين السوريين، وتحوز على تأييد شعبي غير قليل في تلك المناطق. كل ذلك يتعلق بمبدأ السيادة الذي يقره لقاء أستانة كما تقره مواثيق الأمم المتحدة. والحق إن إقرار مبدأ السيادة هذا يضع وفد “المعارضة” السورية سلفاً خارج الإطار القانوني، لأنه يحصر السيادة قانونياً بنظام الأسد ويرفعها عمن خرج عن “سيادته”. حتى المنظمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة لا تستطيع التعامل مع كيانات لا تتصل “بدولة ذات سيادة”.
من ناحية ثانية، يشكل وجود تنظيمات مصنفة إرهابية في المنطقة، وتسيطر فعلياً على الأرض، تحدياً آخر على طريق أستانة، ليس فقط من حيث أن الطرف العسكري الفاعل على الأرض (هيئة تحرير الشام) مستبعد وغير موجود في المحادثات، ما يضعف من ثقلها وفاعليتها، بل أيضاً من حيث أن “الضامن التركي”، الذي بدوره يصنف الهيئة على أنها تنظيم إرهابي، يعرقل العملية العسكرية التي تزعم أنها تريد الخلاص من التنظيم الإرهابي الذي يقال إنه يضم أكثر من 6000 أجنبياً بينهم 2500 من الإيغور. لا شك أنه لا توجدد دولة ممن ينتمي إليها هؤلاء ترغب في استقبال رعايها “المجاهدين”، ولذلك لم يجد المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية، الذي مثل روسيا في محادثات استانة، حرجاً في القول إن الحل الوحيد مع هؤلاء هو قتلهم وتصفيتهم جسدياً لأنهم “لن يتغيروا فهم متطرفون مقتنعون”. من غير الخافي أن هناك استثمار تركي في هذه التنظيمات (أي في الإرهاب، بحسب القانون الدولي) من أجل جني أرباح في المنطقة الآمنة أو العازلة في شمال شرق سورية التي يجري الحديث حولها، والتي تأمل تركيا منها أن “تعزل” الخطر الكردي.
المنطقة الأمنية بدورها تطرح تحد جديد على مبدأ السيادة المستند إلى القانون الدولي، من حيث تحديد القوة الحاكمة فيها. مرة أخرى يقف القانون الدولي في صف روسيا التي توافق على إنشاء منطقة عازلة على أن تكون تحت سيطرة “القوات الحكومية” على اعتبار أنها ضمن الأراضي السورية وأن “وحدات الجيش السوري جاهزة الآن وقادرة على فرض الأمن وتأمين الحدود”، فيما تبدو المطالبة التركية بالسيطرة على هذه المنطقة منافية لمبدأ السيادة.
هكذا يبدو أن مسار استانة يحاصر نفسه حين يحصر حق السيادة بنظام الأسد فتبدو الأمم المتحدة على هذا وسيلة في يد نظام الأسد بدلاً من كونها وسيطاً لتحقيق مخرج عادل من صراع منبعه الأساسي احتكار “السيادة”. وهكذا يبدو أن منظمة الأمم المتحدة مع استانة ضد استانة.