راتب شعبو/ كاتب

مركزية الذاكرة في تكوين الذاتية السياسية في سورية عن كتاب “حكم العنف” لسلوى اسماعيل

نُشرت في العدد الثامن من قادمون- نيسان/ أبريل 2019
غالباً ما يقف النظر إلى العنف السياسي عند اعتباره وسيلة قسرية لضبط المحكومين وإرغامهم على قبول ما لا يريدون. خط النظر هذا بسيط، ينطلق من السلطة السياسية صاحبة القوة وسيدة العنف، ويستقر عند خضوع المحكومين، بوصفه النتيجة الحزينة للعنف السياسي. على هذا الخط تكثر الكتابات التي لا تجتهد بأكثر منإدانة العنف ورثاء حال الخاضعين. هذه الكتابات الشائعة، على أهميتها، تبقي العلاقة بين العنف والخضوع خارجية دون النظر إلى مفاعيل العنف، ولاسيما العنف المديد، في “الذات” وفي تكوين “الذاتية” (subjectivity). كيف، ووفق أي آليات، تمتص الذات المقهورة العنف الذي لا تستطيع رده، وكيف تستوعبه إذن وتتكيف معه. كيف تتحول الذاكرة إلى ركيزة لاستمرار حكم العنف، فتصبح الذات مغلولة بذاكرتها، ومشطورة بين ما تريد وما لا تجرؤ عليه، بين الإرادة والخوف، فتعيش “الذل” (هذه العبارة ترد في متن الكتاب، من جملة عبارات سورية شائعة وذات دلالة، باللغة العربية مكتوبة بحروف لاتينية). كيف يتجلى هذا في الحياة اليومية، في الحديث، في لغة الجسد، في العلاقات الأسرية، في المدرسة، في العلاقة بين الأفراد، وحتى في علاقة الفرد مع نفسه، في شعوره بالقيمة من عدمه .. الخ. هنا يتركز مجال انشغال كتاب “حكم العنف، الذاتية والذاكرة والحكم في سورية”، الذي صدر باللغة الانكليزية عن (جامعة كامبريج بريس) في آب/أغسطس 2018، لسلوى اسماعيل، الكندية من أصل مصري، استاذة العلوم السياسية المختصة بالشرق الأوسط في معهد الدراسات الشرقية والافريقية (SOAS) في جامعة لندن.
تقسم الباحثة كتابها إلى خمسة فصول: 1) العنف بوصفه نمطاً للحكم في سورية، 2) الحكم التسلطي ودولة الظل والذاتيات السياسية، 3) ذاكرات الحياة في ظل الديكتاتورية، الحياة اليومية في سورية البعثية، 4) ذاكرات العنف: حماة 1982، 5) أدائية العنف و”انفعاليات الحكم” في الانتفاضة السورية، مع مقدمة طويلة وغنية تشكل مفتاحاً لفهم فصول الكتاب، وخاتمة بعنوان استخلاصي: حكم العنف – تكوُّن عناصر الحرب الأهلية.
عاشت اسماعيل موضوعها السوري فترة كافية لكي “تشعر وتحس” وليس فقط “تفهم” عما تكتب، فقد قضت فترات طويلة نسبيا في سورية منذ 2002، واختلطت جيداً بالمجتمع السوري، ولاسيما دمشق، ولديها معرفة ودراية لافتة بحاراتها، الفقيرة منها بوجه خاص، وتاريخها وتركيبتها السكانية وأنشطتها الاقتصادية وأثر هذه التركيبة والأنشطة على علاقاتها بالسلطة. تجتهد الباحثة في ملاحظة أثر نمط التوزع السكاني على السياسة، فهي صاحبة كتاب “الحياة السياسية لأحياء القاهرة الجديدة”، حيث تستكشف أهمية المكان بكونه من محددات ممارسة السلطة والحياة السياسية. إلى هذا حرصت الكاتبة على تزويد نفسها بمخزون معرفي و”شعوري” مهم بثنايا المجتمع السوري وتضاريسه النفسية، من خلال لقاءات غزيرة مع سوريين مهتمين بالشأن العام، ومن خلال اطلاع واسع ودقيق على المنتوج الأدبي لسوريين ولاسيما منهم ضحايا السجون وضحايا المجازر وشهودها في سورية بعد 1970.
السؤال الذي شكل منطلق عمل الكاتبة: “كيف شكلت تجارب السوريين مع العنف السياسي، الروتيني منه والمشهدي، صيغة الحكم (polity) في سورية على مدى عقود حكم الأسد؟” الفترة الطويلة التي استغرقها الكتاب، بين 2005 و2018، مع بعض الانقطاعات، أكسبته امتياز تأمل موضوعه قبل وخلال الثورة التي اندلعت في مطلع 2011، امتياز جلبته صدفة اندلاع الثورة السورية التي كشفت بوضوح غير مسبوق نمط العلاقة بين دولة العنف والمجتمع، وأجرت على الألسنة ما كانت تحبسه الصدور.
تفكر سلوى اسماعيل في العنف الحكومي بما يتجاوز كونه وسيلة قمع، تفكر في آثاره التكوينية والانتاجية، في أهداف العنف الشعورية والإدراكية، وتسعى إلى تطوير فهم الأبعاد العاطفية (affective) للحكم بواسطة العنف، حين يتحول العنف إلى “مُربِّي” يلقن الناس الدروس ويملأ ذواكرهم بالعِبَر. “الحكم بواسطة العنف يولد بنيات شعورية ينظمها الذل والحذر والخوف والرعب”. ليس الغاية من المجزرة قتل الضحايا بل جعل بقية الناس ضحايا أحياء، أو قتلى مؤجلين. هكذا تكون المجزرة درساً وعبرة. وهكذا تدوم المجزرة بدوام الماكينة الفكرية والتنفيذية للجريمة، بدوام نظام الجريمة. وكذا الحال فيما يخص السجون ومراكز الحجز، لذلك المهم أن تكون السجون عامرة بالسجناء، ولا يهم أن يكونوا أبرياء أم لا، لأن وظيفة السجن في “حكم العنف”، أن يكون طنيناً دائماً في رأس من هم خارج السجن، فهؤلاء مسجونون بقدر ما تحوي السجون في جوفها من لا يستحقون السجن. المجزرة والسجن وسيلتان أو تقنيتان أو جهازان لحكم العنف، غايتهما ليس فقط احتواء أو تحييد المعارضين وإعدام روح المقاومة فيهم، بل تحديد آفاق وعي المواطنين – المحكومين ونظرتهم للنظام، أو قل “صناعة ذاتيتهم” (Subjectivation) بالطريقة التي تنخفض فيها ذاتهم (selfhood) إلى حدود دنيا. ومن الطريف أن مفردة “الذاتية”، في اللغة الانكليزية، لها صلة لغوية مع مفردة “الخضوع”. يمكن هنا المضي إلى أبعد من هذا والقول إن الذات التي يعمل “حكم العنف” على خفضها هي الذات العامة، إذا صح الاصطلاح، أي حضور الذات وميلها إلى التاثير في المجال العام، الشيء الذي يغذي في الواقع ارتفاع الذات الخاصة، أي الانسحاب من المجال العام وما ينطوي عليه هذا من أنانية وانغلاق على الآخرين.
يحتاج المجتمع الذي يتعرض للإخضاع بالعنف، لكي يستمر في ظل “حكم العنف” نفسه، إلى إدارة، أو إلى شكل من “التوضيب”، لهذا الماضي العنيف، على مستوى فردي وجمعي. “ليس فقط التجارب مع عنف النظام هي ما يصوغ الأفراد كتوابع سياسيين، بل يساهم في ذلك ايضاً الذاكرة الاجتماعية عن العنف، فهي أحد مكونات الآفاق التفسيرية للتابع السياسي، على هذا فإن الصراع مع الماضي وإيجاد تعابير فردية وجماعية لإدارة العلاقة مع هذا الماضي، صار شرطاً لتشكّل السوريين كمواطنين خاضعين تحت نظام الأسد”، ص22. الخضوع للعنف يحمل بذرة التمرد، على أن الإخضاع العنيف يمكن أيضاً، وقد نقول غالباً، أن يسلب ضحاياه نزوعهم التحرري ويحيلهم إلى ذوات مقهورة للعنف المختزن في الذاكرة، ضعيفي الاستعداد للمغامرة في تحدي “حكم العنف”. يتحول ضحايا العنف السياسي هؤلاء إلى مصدر لتأثيرين متعارضين، الأول هو شحن النزوع التمردي للجيل الشاب من خلال رواياتهم وانكسارهم المشهود، والثاني هو نزع فتيل انفجار الشباب بالنصح والتخويف مما يمكن أن يترتب على تحدي الحكم من نتائج كارثية على الفرد كما على المجموع. وبتعبير الكاتبة “إن الذاكرة المسكونة بشبح حماة هي ذاكرة تقيد الفعل وتطلبه في الوقت نفسه”، ص203. وقد يكون هذا ما يفسر أن الفعل الثوري يتحقق، كما شهدنا في سورية، على يد العناصر الشابة في المجتمع التي لم تختبر الخضوع العنيف كالأجيال السابقة.
ربما كان مغنياً للكتاب أكثر لو أعطت الباحثة هذا الجانب، الذي يبدو مفارقاً، (أقصد تدني استعداد المخضعين بالعنف المباشر للتمرد)، مجالاً أوسع. التأطير الذي تناولته الكاتبة، والذي يبدأه النظام مع الطفل السوري منذ نعومة أظفاره، عبر المنظمات الملحقة بحزب البعث (الطلائع ثم الشبيبة)، يبقى أقل فاعلية على الإخضاع، من أن يعيش السوري العنف المباشر (ضحية أو شاهداً أو مرتكباً). لذلك يبدو أن دورة العنف في المجتمع السوري تتكرر كل جيل مع استمرار “حكم العنف”. تذكر الكاتبة أن أحد ناشطي الثورة الذين قابلتهم في دمشق بين آذار/مارس ونيسان/أبريل 2011، قال إن الثورة السورية هي “ثورة ضد جيل الآباء”، وتعلق بالقول إن هذا ينطوي على أن جيل الآباء ساهموا في تطبيع ثقافة الطاعة لمن هم في مواقع السلطة من الدولة.
في مطلع 2011 كسر السوريون، الشباب منهم بوجه خاص، حدود علاقتهم بنظام العنف الذي سيرتد عليهم بتقنياته القديمة ذاتها: المجزرة ومراكز الاعتقال، لإخضاعهم من جديد. الأثر الكارثي الذي ترصده اسماعيل على خط علاقة الخضوع والتمرد، هو ما تسميه “لعبة المرايا”، حيث ينشأ مسرح عنيف يتبادل عليه المرتكبون والضحايا المواقع، وحيث نشهد محاكاة منظمة في العنف الخيالي أو الاستيهامي (Phantasmatic)، “إن وصف المجازر المنسوبة إلى قوات الأمن والجيش والميليشيا المؤيدة للنظام، وتلك المنسوبة إلى المعارضة المسلحة (المعسكر الإسلامي بوجه خاص)، تظهر أن الهجمات على البلدات والقرى والأفعال المرتكبة فيها متشابهة في بعض الملامح العامة”، ص182.
تظهر اسماعيل في كتابها كيف يعتمد النظام السوري في تأمين ديمومته على خطين متناقضين، الأول هو المحاججة التي يقدمها أهل النظام بأن المجتمع السوري لا يحكم إلا بالعنف لأنه مجتمع مكون من موزاييك هش من الإثنيات والأديان، وهو بالتالي يحتاج إلى قبضة حديدية وقائد قوي مثل حافظ الأسد. والخط الثاني ينكر استخدام العنف وينسبه إلى “آخرين”، ويناور ويخلق جواً ضبابياً يضع الناس في حالة من انعدام اليقين والعجز عن معرفة الحقيقة. لا شيء يمنع تجاور هذين الخطين طالما أنهما يصبان في الهدف عينه: دوام السيطرة على إدراك وعاطفة المحكومين. استخدم الخط الثاني بصورة كثيفة في حوالي السنة الأولى من الثورة السورية، مثل التعمية التي أحاطت بمجزرة الحولة (أيار/مايو 2012)، والكلام عن جماعات ترتدي ملابس الجيش وتنفذ المجازر، لخلق الارتياب والتشويش والعجز عن معرفة الحقيقة، ولاسيما مع غياب إمكانية التحقيق. ومثل الذهول الذي صنعه النظام في القصة الرهيبة لزينب الحصني (أيلول/سيبتمبر 2011) التي سلمت إلى أهلها جسداً مقطعاً، لتعود بعد ذلك إلى الحياة وتظهر على تلفزيون النظام، دون أن يقدم النظام أي تفسير لهذه الواقعة، مكتفياً بغرضه الوحيد من ذلك وهو إشاعة جو من عدم اليقين، وإظهار معارضيه بمظهر الكاذب أو بمظهر من لا يعرف ما يجري، دون الاكتراث بهوية الجسد المقطع الذي استلمته عائلة الحصني على أنه جسد ابنتها، ودون الاهتمام بمصير صاحبته.
غرابة (uncanny) قصة الحصني تكررت في أشكال أخرى يجمعها غياب التفسير وتخلخل الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم، الأمر الذي يشل فاعلية الذات. الحق أن المسرح الأبرز للغرابة وما تولده من اضطراب ومشاعر خوف ورعب، شهدته محافظة اللاذقية في الأشهر الأولى من الثورة، نتيجة عمل مدروس من جانب أجهزة النظام الأمنية والإعلامية، جعل الأهالي يخشون بعضهم البعض ويظن أحدهم أن ثمة مجرم يستتر في إهاب أحدهم الآخر رغم الجيرة وعشرة السنين، وقد عمدت سياسة “التغريب” تلك إلى تحويل كل شخص إلى مشبوه. أدت تلك السياسة المقصودة حينها إلى سقوط أكثر من شخص ضحية ذلك الرعب المزروع بفعل الإشاعات والروايات الغريبة والأحداث المفتعلة التي وضعت الأهالي في جو كأن هناك كائنات فضائية شريرة قد هبطت على المدينة. الأغلب أن الكاتبة لم تطلع على هذه الحلقة الخصبة، فغابت بالكامل عن الكتاب، وكان يمكن لتناولها أن يغني محاولة وسعي الكاتبة إلى “استخدام مفاهيم الذل (abjection) والغرابة (uncanny) لفهم الأبعاد العاطفية للحكم بالعنف”.
التماهي بين السلطة والدولة يماهي بين القتل، بما هو مهمة “سلطة العنف”، والحياة، بما هي وظيفة الدولة في صيانة أسباب ومصادر العيش للناس. هكذا، حين لا تقتل السلطة أو تسجن، فإنها تذل محكوميها بالتحكم بمصادر دخلهم وعيشهم. وحين تختزل السلطةُ السياسةَ إلى أدنى حدودها الممكنة وهو الاستقطاب بين “معنا” أو “ضدنا”، بين “نحن” و”هم”، فإنها تخلق اقتصاداً سياسياً يتوافق مع هذا التقسيم، الذي لا ينبغي اختزاله إلى انقسامات دينية أو طائفية، كما تؤكد الكاتبة، رغم وجود وأثر هذه الانقسامات على الخارطة الاجتماعية. في ظل هذا التماهي تدرس الكاتبة ما تسميه “الاقتصاد السياسي للانقسام بين (نحن) و(هم)”، اقتصاد النهب والتهريب والتجارة غير المشروعة والتقسيمات المكانية، الذي أنتج الانقسامات الاجتماعية السياسية بين المحكومين. هنا لا يوجد اقتصاد ظل، بقدر ما توجد دولة ظل لها شبكات غير رسمية، أي إن النشاط الاقتصادي غير الشرعي (تهريب، مخدرات، تجاوزات للقوانين ..الخ) يُحمى من الدولة غير الرسمية ولكنها الدولة الفعلية، دولة الظل. في هذا الاقتصاد تقوم تشكيلات من “الشبيحة”، لها رأس أو “معلِّم” وأتباع، تربطها بالسلطة علاقات زبونية، وخدمات مبتادلة يتطلبها “النظام الأمني”. في فترة “الاستقرار” تقوم هذه التشكيلات بتحقيق المكاسب المادية للمعلم وأتباعه على حساب اقتصاد البلد وبالضد من القوانين “الرسمية”. هذا هو اقتصاد الدائرة الضيقة أو النواة الصلبة من الـ”نحن”، اقتصاد يقوم على احتقار حقوق الـ”هم” ونهبهم. وفي فترة الانفجارات الاجتماعية تتحول تلك التشكيلات إلى يد ضاربة ضد الـ”هم” الخارجين عن السيطرة. هكذا يتحول التشبيح الاقتصادي إلى تشبيح سياسي وأمني. إلى هذا الحد تبتذل العلاقة بين الاقتصاد والسياسة في ظل “حكم العنف”.
الإخضاع بالقوة وما يستتبع من حرمان المحكومين من إدارة الماضي العنيف ثقافياً وسياسياً، يجعل المواضي السورية تتراكم في الذاكرة كعوامل تفجير حاضرة دائماً، وهذا يجعل “الاستقرار” المبني على العنف، ملغوماً بعنف كامن من جنس العنف الذي مضى واستوطن النفوس المنكوبة. لا بد من إخراج المواضي كلها ومعالجتها، ليس بوصفها مظلومية فئة أو فئات، أي ليس بوصفها قضية هذه الفئة أو تلك، بل بوصفها قضية وطنية عامة، إذا أُريد لهذه المواضي أن تمضي ولهذا الشعب أن يخرج من ماضيه، ويبني ثقة متبادلة لا بد منها لبناء مستقبل يمكن العيش فيه.
في النهاية ينبغي القول إن الكتاب يحاول استيعاب موضوعه بمنظومة مفاهيم حديثة، تطورت في مجال علم السياسة والاجتماع، تكشف التقصير الذي تعانيه اللغة العربية في هذا المجال، ما يجعل من ترجمة هذا الكتاب إلى العربية، المهمة الضرورية التي نأمل أن لا تتأخر، مهمة غير سهلة.
Archives
November 2024
M T W T F S S
« Jul    
 123
45678910
11121314151617
18192021222324
252627282930