راتب شعبو/ كاتب

عن اليسار السوري المشلول

نُشرت بتاريخ 19/11/2018 على موقع العربي الجديد
يدفع الفشل الديموقراطي العلماني المتراكم في سورية، إلى مراجعة تاريخنا القريب بما نستطيع من موضوعية، ذلك أن الجيل السوري الشاب اليوم، ينفعل بآثار أمراض سياسية/نفسية قادمة إليه من فترات لم يعاصرها، ولا يستطيع فك شيفرتها، من بينها العلاقة غير السوية بين رابطة العمل الشيوعي والحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، والتي لمتزل مفاعيلها حتى اليوم.
إضافة إلى الهويات المعهودة، أكانت هويات دينية أو إثنية أو قومية، برزت في سورية هويات سياسية، ليس بمعنى الخط أو التوجه السياسي العام، بل بمعنى تحول الانتماء السياسي إلى هوية، بكل ما تحمل الهوية من انغلاق ونهائية وديمومة. في فترة ما بعد الاستقلال، شهدت سورية تبلور هويات سياسية، بمعنى التوجه السياسي العام المعبر عن مصالح قطاعات معينة من المجتمع، ظهر هذا في العلاقة بين حزب الشعب والحزب الوطني مثلاً، كتعبير سياسي عن التباين بين مصالح بورجوازية حلبية وحمصية وحموية تميل إلى الشرق (العراق) ومصالح بورجوازية دمشقية تميل إلى الغرب والجنوب (مصر والسعودية).
هنا نحن أمام مصالح طبقية تنعكس في مواقف وسياسات، وهذا يعطي للسياسة تعريفها وحيويتها، ويبقيها على صلة بأرض الصراعات وتقلباتها. لكن ما شهده العمل اليساري المعارض في سورية بعد انقلاب 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1970، هو بروز هويات سياسية لا تقوم على مصالح طبقات اجتماعية، بل بالأحرى على تباين الاجتهادات السياسية واختلاف التصورات والأفكار والظنون وأكاد أقول السمات الشخصية. المثال الأبرز على هذه الظاهرة المرضية هو العلاقة السياسة التي تحولت إلى علاقة “هوياتية” بين رابطة العمل الشيوعي (صار اسمها لاحقاً حزب العمل الشيوعي) والحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي (صار اسمه لاحقاً حزب الشعب الديموقراطي).
ظلت الرابطة كما المكتب السياسي تنظيمين نخبويين، على الرغم من تفاوت درجة النخبوية. ورغم كفاحية واستبسال أبناء التنظيمين، فقد ظلا جسدين مقطوعين إلى حد كبير عن القاعدة الاجتماعية التي يتصوران أنهما يمثلانها. أضعف هذا من ما يمكن تسميته الحساسية الطبقية، أي ربط السياسة والتوجه بالمصلحة الطبقية الحية التي يكافحان لتمثيلها سياسياً، فلا تغدو المواقف السياسية مجرد مواقف ذهنية. لا يتحمل أي من هذين التنظيمين مسؤولية هذا الواقع، إنهما بالأحرى ضحيتاه. المسؤولية تقع على عاتق القمع الرهيب المستمر الذي استهدفهما، وعلى عاتق تطور اقتصادي اجتماعي معاق في هذه البلدان. لكن ما يتحملان مسؤوليته هو استسلامهما لهذا التحول الهوياتي الذي ترك أثره على “العمل اليساري المعارض” العقيم في سورية حتى اليوم.
انتقال العلاقة السياسية من المستوى السياسي إلى المستوى النفسي، يفسد المستويين معاً. الخلافات السياسية التي تتخذ لها، في بيئاتنا، أبعاداً شخصية وتحرض في النفوس غريزة الإلغاء والتدمير بدلا من غريزة الاجتماع، تترسب مع الوقت على صعيد نفسي وشخصي وليس سياسي فقط، وتعيق العمل المشترك. لا شك أن ثمة عامل مُطلِق لهذه الآلية، وغالباً ما يكون تقديراً خاطئاً أو سوء ظن أو استجابة غير مسؤولة لنزوع شخصي عند أشخاص مؤثرين، ولكنه يبقى عاملاً تافهاً إذا ما قورن بمدى الأثر الذي يتركه على مجمل الحياة السياسية في البلاد، ومن هنا منبع اللامسؤولية.
في البحث عن لحظة التأسيس الهوياتية بين التنظيمين المذكورين، يمكن التوقف عند حقيقة أن نشوء تنظيم الرابطة (رابطة العمل الشيوعي)، كان مزامناً لعملية الانشقاق المديد للمكتب السياسي عن الحزب الأم “بكداش” (بين المؤتمر الثالث في حزيران/يونيو 1969- وأول مؤتمر مستقل للمكتب السياسي، في كانون أول/ديسمبر 1973)، ومزامناً لبداية نشاط المكتب السياسي كحزب مستقل. خلال هذه الفترة، كانت (الحلقات الماركسية) التي صارت لاحقاً إلى (رابطة العمل الشيوعي) في آب/أغسطس 1976، تنتقد “المكتب السياسي” من اليسار في أدبياتها، ولا يكف أعضاؤها عن محاورة أعضاء المكتب السياسي في محاولة كسبهم سياسياً أو تنظيمياً. وكان لهذا السلوك “التوسعي” تأثير سلبي على صورة الرابطة لدى قيادة المكتب السياسي التي اتخذت، في ربيع 1977، قراراً رسمياً يمنع كافة أعضاء الحزب من الدخول في أي حوار مع الرابطة، بحسب محمد سيد رصاص، أحد قياديي المكتب السياسي حينها.
وفي حين كان “المكتب السياسي” ينتقل بحذر إلى مواقع معارضة للنظام، ببنية تنظيمية مكشوفة لا تحتمل المواجهة الأمنية التي تترتب على اتخاذ مواقف حادة، كانت الرابطة أكثر استعداداً للمواجهة الأمنية، وقد دخلتها دون تردد، وبطريقة تبدو انتحارية، في مواجهة التدخل السوري في لبنان 1976، فتلقت ضربة أمنية شديدة ومفاجئة في آذار 1977، كادت تكون قاصمة، وذلك بعد أقل من ستة أشهر من تأسيسها. وعلى أثر الحملة الثانية في أيار 1978، ناقشت الرابطة الاندماج مع المكتب السياسي. تباينت الآراء بين متحمس للاندماج الفردي معولاً على أن يكون الجسم التنظيمي للمكتب السياسي حاضنة وحامٍ له، وبين من وافق على الاندماج لكن ككتلة تنظيمية لها استقلاليتها، بينما لم يمانع آخرون الاندماج كأفراد شريطة وجود مجلة داخلية لنشر الآراء والاجتهادات التي قد تتباين مع خط الحزب، لكن لم تلق هذه الأفكار موقفاً إيجابياً من الحزب الشيوعي، وما وضع حد لهذا الاجتهاد أن الرابطة استطاعت أن تتماسك تنظيمياً مجدداً وتكمل مسيرتها الخاصة.
أمام التماسك التنظيمي الذي حققته الرابطة رغم حملات الاعتقال المتواصلة، والسمعة النضالية التي اكتسبتها، وسعة الانتشار التي حققتها ومواظبتها على إصدار أدبياتها، شعر المكتب السياسي كما لو أن هذا يتحقق على حسابه، كما لو أن هذا الزخم الشبابي الذي يرفد الرابطة مسروق منه، أو كما لو أن الرابطة شكلت حاجزاً بين الشباب وبين المكتب السياسي. الأمر الذي أدخل الرابطة في دائرة الظنون الأمنية للمكتب السياسي على أنها “صنيعة المخابرات السورية”، رغم أن الرابطة كانت ضحية قمع متواصل، وكان محمد عبود، من الرابطة، أول شيوعي يستشهد تحت التعذيب في سوريا البعثية.
بالمقابل واصلت الرابطة نقد المكتب السياسي من اليسار بوصفه “إصلاحياً” و”مخيباً للأمل”. وهكذا راحت القشرة الخارجية للهويتين تتكلس وتتصلب إزاء بعضهما البعض، وتستقل عن السياسة.
لم يكن الموقف السياسي من الحراك الشعبي الذي استجره الصعود العنيف للأخوان المسلمين في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي، هو سبب التباين بين التنظيمين، فقد كان الاختلاف بينهما قد غادر منذ مدة مجاله السياسي ليستقر أساساً في نفوس أبناء التنظيمين، وإن بدرجة متفاوتة كانت، في الحقيقة، أعلى لدى المكتب السياسي. في ذلك الوقت كانت كل زهور الأمل بعمل مشترك بين التنظيمين قد سقطت دون أن يتبقى أمل بانعقاد أي ثمرة.
رأى المكتب السياسي أن الصراع يدور بين النظام الديكتاتوري والشعب، ما يستدعي تصويب النيران إلى النظام أساساً أو فقط، ورأت الرابطة أن الصراع يدور بين قطبين من طبيعة واحدة هما النظام والأخوان المسلمين، وأن الخلاص يكون بالنضال ضد الطرفين وسحب الكتلة الشعبية من تحت تأثيرهما بتشكيل قطب شعبي ثالث، ما يستدعي توجيه النيران إلى الطرفين (النظام والأخوان).
بدا موقف الرابطة في عين المكتب السياسي مهادناً للنظام، باعتبار أن الرابطة لا ترى البعد الشعبي في الصراع، وتركز على الأخوان وأعمالهم العنيفة ذات الطابع الطائفي (نموذجها مجزرة المدفعية في حزيران 1979)، رغم أن الرابطة كانت، في الواقع، توجه نيرانها الأكثف ضد النظام، وكانت التنظيم اليساري الوحيد، حينها، الذي تبنى شعار إسقاط السلطة الديكتاتورية البعثية في اجتماع مركزيته في أيلول 1979، قبل أن تجمد هذا الشعار في آب 1980، حين لاح لها الإخفاق في بناء التحالف الشعبي الذي يمكن أن يكون أداة إسقاط السلطة، فيما بدا لها أن ما كنت تسميه “الحلف الرجعي الأسود” كناية عن الأخوان المسلمين وحلفائهم، يتقدم بخطى ثابتة للاستيلاء على السلطة.
بالمقابل، رأت الرابطة أن المكتب السياسي يهادن الأخوان رغم أعمالهم وارتباطاتهم وبرنامجهم، ويتخلى بذلك عن مهمته التاريخية كنقيض لطرفي الصراع. واعتبرت أن المكتب السياسي سمح لنفسه أن يكون ملحقاً بالأخوان، كما سمح بكداش لنفسه أن يكون ملحقاً بالنظام. مع ذلك، استطاعت الرابطة أن تحاور فيما بعد بكداش رغم قسوة نقدها له، ولكن هذا لم يكن ممكناً مع المكتب السياسي، لأسباب نفسية أكثر منها سياسية.
في كانون الأول/ديسمبر 1979، تشكل التحالف اليساري باسم “التجمع الوطني الديموقراطي”، واستبعدت الرابطة من التحالف، بفيتو من المكتب السياسي، كما نقل إلى قيادة الرابطة رئيس التجمع الدكتور جمال الأتاسي. لا نظن أن هناك من يجادل في أن هذا الاستبعاد كان خسارة للجانبين.
نسبة كبيرة من المعارضين السوريين الديموقراطيين والعلمانيين اليوم، كانوا، أو ما زالوا، منضويين في صفوف هذين الحزبين، ونظن أن الغالبية منهم يحملون موقفاً نفسياً صاداً تجاه الآخر، يعرقل الرؤية الموضوعية والعمل المشترك. الأخطر في الأمر أن هذه المواقف النفسية تديم ذاتها بالانتقال إلى أجيال لم تعشها أصلاً، فتزيد من الانقسامات في الصف الديموقراطي السوري الذي تحول إلى مجرد شاهد مشلول على ما يجري حوله.
Archives
May 2024
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031