راتب شعبو/ كاتب

السترات الصفراء، بين الشعب والمؤسسة

نُشرت بتاريخ 11/12/2018 على موقع العربي الجديد
في أيار من هذا العام 2018، كتبت امرأة فرنسية تعمل في مجال التجميل نداء على الانترنت تطالب فيه بخفض سعر المحروقات بعد ان حللت السعر وبينت ان أكثر من نصف المبلغ هو إضافة من الدولة (taxes) على السعر. بعد عدة شهور أصبح هذا النداء ثاني أكثر النداءات توقيعاً علىموقع (change.org)، حين نشره سائقو الشاحنات الفرنسيين في احتجاجهم على زيادات إضافية على أسعار المحروقات كان مقرراً لها أن تفرض مع بداية العام القادم، لخدمة برنامج التحول البيئي الذي تعتمده الحكومة الفرنسية ويتطلب التخفيف من استخدام الوقود الأحفوري. شكل ذلك النداء نقطة انطلاق حركة السترات الصفراء الشعبية، فقد جعل الموقعون عليه أنفسهم مرئيين بالنزول إلى ميدان الفعل عبر ما سمي عمليات الحلزون، أي إقامة الحواجز وإعاقة الحركة على الطرقات السريعة في فرنسا، لتصبح الحركة بسرعة الحلزون، بغرض لفت النظر إلى مطالبهم التي لا تقتصر على خفض أسعار الوقود فقط بل تشمل القدرة الشرائية والعدالة الاجتماعية بمعنى واسع.
كشف المسار الذي اختطه ماكرون منذ البداية انحيازاً لصالح الأقوياء في المجتمع، حين أقر قانون عمل يتساهل مع “الباترونات” لكي يشجع هؤلاء على توفير فرص عمل، وحين لم ينخفض عدد العاطلين عن العمل أنحى باللائمة على العاطلين عن العمل أنفسهم. ثم ألغى الضريبة على الثروة غير العقارية كي لا تهرب الرساميل إلى “الجنات الضريبية” خارج فرنسا، ما جعل الفرنسيين يلقبونه برئيس الأغنياء أو رئيس الأغنياء جداً، الصفة التي تكتسب قوة زائدة لأنها جاءت على لسان سلفه فرانسوا أولاند الذي يوصف أصلاً بأنه اشتراكي خائن.
لم تكن قضية أسعار المحروقات إذن سوى شرارة لغضب متراكم لدى الناس الذين اختاروا ماكرون في ربيع 2017، يأساً من الأحزاب المكرسة بوصفه شاباً يدخل المشهد السياسي من خارج هذه الأحزاب وعلى الضد منها، حتى أنه أسس في غضون أشهر قليلة، حركة “الجمهورية إلى الأمام” على أنها حزب ضد الحزب، وحصد غالبية مقاعد الجمعية الوطنية رغم حداثة عهده، فأدخل إلى المشهد السياسي الفرنسي وجوها جديدة وشابة تبحث لفرنسا عن طريق أرحب خارج قنوات الأحزاب المكرسة.
غير أن المؤسسة سرعان ما امتصت إلى آلياتها حزب ماكرون الذي يجد نفسه اليوم مرفوضاً لنفس السبب الذي جعله مقبولاً في البداية: النزوع المضاد للمؤسسة والأمل بطريق مبتكر يتجاوز ثقلها ونفوذيتها الضعيفة. هنا يمكن البحث عن مكمن غيظ السترات الصفراء، وهذا ما يعطي حركتهم طعماً فوضوياً “أناركياً”، ذلك أن الاحتجاج على “قساوة” المؤسسة وصممها تجاه الشارع، قابل للتجذر وصولاً إلى رفض المؤسسة نفسها، وما ينطوي عليه هذا من طاقة عنفية لم تكن خافية في الحركات الثلاثة لأصحاب السترات الصفراء ولاسيما الأخيرة منها (يوم السبت الثاني من ديسمبر)، التي تسببت بأضرار مادية تصل قيمتها التقديرية من 3 إلى 4 مليون يورو.
حدث في باريس عنف وتخريب تسبب بها مخربون (casseurs) ينأى أصحاب السترات الصفراء بأنفسهم عنهم، ولكن شارك في التخريب أيضاً أصحاب سترات صفر غاضبون. في مثل هذه الحالات يتم رفع لحظة العنف من سياقها والنظر إليها كفعل جرمي لا سياسي. هذا منطق السلطات، أينما كانت، في مواجهة الحراك الشعبي. حتى في فرنسا الديموقراطية التي تسمح بظهور المحتجين على التلفزيونات ويأخذون المساحة الكافية لعرض أفكارهم والمحاججة ضد سياسات الحكومة (وليس لإعلان التوبة وحمد السلطة كما هو الحال لدينا)، تجد الذين يتحدثون باسم الحكومة يستهلون حديثهم بتحية رجال الأمن والتأسف على إصاباتهم وكأن مصابي المتظاهرين “غرباء”، وتجد الرئيس يتجه مع وزير داخليته إلى مصافحة رجال الأمن وكأن المتظاهرين “أعداء” (ولكن لا يصل الأمر إلى تفسير الوضع بالإحالة إلى مؤامرة كما هو الحال عندنا دائماً). إذا كان في كل حركة شعبية جينات أناركية، فإن في كل سلطة جينات تقديس المؤسسة، وهذه الجينات في تغذية متبادلة.
المطالب التي يقدمها أصحاب السترات الصفراء تكشف عن عمق الاحتجاج الذي يضج به عمال ومتقاعدو وفقراء فرنسا أو من يُنسبون إلى “فرنسا الأخرى”.المطلب الأول، من أصل 42 مطلباً، يكشف جذرية المحتجين والهوية الاقتصادية/الاجتماعية لهم: صفر مشردين. ويضيفون بجوار هذا الطلب كلمة (عاجل).
لا يمكن أن لا يعجب المراقب بهذا الحضور وهذه الفاعلية الشعبية التي تمثلها حركة السترات الصفراء في فرنسا. الانتخابات ليست نهاية المشاركة السياسية، الانتخابات ليست محطة يكون فيها الناخبون ذاتاً سياسية ثم يتحولون بعدها إلى موضوع سلبي لسياسة المُنتَخبين. حتى الأحزاب المعارضة ليست قنوات قدرية للتعبير عن السخط وعدم الرضى الشعبي، أي ليس سخط الناس وعدم رضاهم مادة خام للاستثمار السياسي من جانب الأحزاب المعارضة. الشعب الفرنسي يخرج عن الأطر ويتكلم من خارجها عبر ممثلين ذاتيين يتكلمون بقوة كفاءتهم والتزامهم بالآخرين. ربما كان الفرنسيون من أكثر الشعوب التي تروي حكاية الصراع الذي لا ينتهي بين الشعب والمؤسسة، والتي تتحسس قصورات الديموقراطية وتلامس حدودها وتضيق بها وصولاً إلى البحث عن حلول ولو في نقيضها: “الحكم العسكري”، كما طالب بعض عناصر السترات الصفراء.
مشكلة الحكومة الفرنسية اليوم، أن العناد الذي أبدته منذ بداية الاحتجاجات في 17 نوفمبر، وهو غرور غذّاه نجاح الحكومة في تحدي حركتين احتجاجيتين كبيرتين من قبل، هما حركة الاحتجاج ضد تعديل قانون العمل، وحركة اضرابات عمال السكك الحديدية، أوصل الحكومة الفرنسية أمام الحركة الصفراء إلى مأزق باتت فيه غير قادرة على الاستمرار في مسارها السابق، وغير قادرة على إقناع الحراك بالتعديلات الطفيفة التي أعلنها رئيس الحكومة مؤخراً. وتعلم حكومة إدوار فيليب إن تقديم تراجع كبير لاحتواء الحراك سوف يقود إلى إضعاف الحكومة أو حتى سقوطها لأنه يسقط المشروع الذي شكلت الحكومة على أساسه.
التعالي الرئاسي والعناد الحكومي الذي راهن على الخفوت الذاتي للحركة بفعل الإهمال على غرار ما فعلت مع حركتي الاحتجاج السابقتين، يدل على ضعف في التمييز بين حركة الإطارات المؤسسة (أحزاب ونقابات) والحركة الشعبية (grassroot)، الأمر الذي أدى إلى المزيد من التجذر في الحركة. من حركة إلى أخرى من حركات السبوت الثلاث (17، 24 نوفمبر، 2 ديسمبر) تراجعت أعداد المشاركين، ولكن مع حصول اصطفاء “طبيعي” لصالح العناصر الأكثر جذرية مع تجذر العناصر المعتدلة في الحركة التي تحظى بدعم أكثر من 70% من الشعب الفرنسي حسب الاستطلاعات. لم يعد من السهل التوصل إلى تسوية تحفظ ماء وجه حكومة ماكرون. فبعد ثلاثة اسابيع من الصمم الحكومي، وصل الأمر إلى أن يرفض قسم مهم من الحراك الأصفر الحوار مع الحكومة على حلول وسط، تحت طائلة التهديد بقتل المحاورين.
أما مشكلة الحركة الصفراء اليوم فهي التوتر بين الشعبية والتأطير، بين الطاقة الحرة والمؤسسة. سوف تجد الحركة نفسها مجبرة على الدخول في الأطر، وانتخاب ممثلين وتخويلهم، اي مجبرة على خلق “مؤسستها”، وهذا تحول لن يكون سهلاً على الحركة، وسيكون، إذا ما نجحت الحركة في إنجازه، بداية لخط انقسام وصراع جديد داخل الحركة نفسها بين “مؤسستها” و”شعبها”. هذا قانون كل الحركات الشعبية إلى اليوم، ولا يبدو أن التاريخ يحمل له حلاً في المدى المنظور.
يؤكد الشعب الفرنسي مراراً أنه ينطوي على طاقة ثورية متجددة وعنيفة لم ينس أصحاب السترات الصفراء أن يذكروا الحكام بها: “لقد قطعنا رؤوساً لأسباب أقل من هذه”.
Archives
May 2024
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031