راتب شعبو/ كاتب

ماذا عن اميركا؟

نُشرت بتاريخ 08/09/2013 على موقع المدن
في أحسن الحالات، لا تعدو النقاشات التي يخوضها السوريون اليوم في كل مكان بخصوص التدخل العسكري الأمريكي المحتمل في الصراع الدائر في سوريا، كونها تمرينات ذهنية فيالتحليل السياسي. وفي أسوأ الحالات، فإنها مادة جديدة للانقسام بين السوريين ولزيادة التوتر بينهم، ولاستدراج شتى صفات التخوين والتراشق بها. والحال أن القرار الأمريكي لا يعبأ بهذه النقاشات ولا ينتظر ما يمكن أن تسفر عنه. فالقرار رهن نقاشات أمريكية، على ما عبر أحد الساخرين قائلاً “وأمرنا شورى بينهم”. كما أن تعقيدات الوضع السوري لا تعطي من الصوابية لأي طرف ما يكفي لجعله قادراً على التمدد وكسب مواقع له في عقل الطرف الآخر.
لا يعدم من يرفض الضربة الامريكية الحجة، فهؤلاء يستندون إلى النتائج السلبية لغزو العراق وأفغانستان، وإلى خطورة التدخل العسكري الأمريكي على الدولة السورية وإمكانية انهيارها وما يعقب ذلك من فوضى يزيد في خطورتها أنها فوضى مسلحة. كما لا يعدم من يرحب بالتدخل العسكري الأمريكي الحجة، مستنداً إلى مستوى القتل اليومي للسوريين بالأسلحة “الوطنية” التي من مصلحة السوريين أن تُشلّ هذه الأسلحة ولو على يد أسلحة أجنبية، سمّها معادية أو امبريالية أو ما شئت.
في السياسة، لا يملك من يرفض التدخل العسكري الخارجي أن لا يقر بوصول الصراع الدائر في سورية إلى طريق مسدود جعل من الصراع العسكري صراعاً عبثياً، وآلة لإنتاج الموت والخراب والضحايا فقط، ما يدفع للبحث عن مخرج ما (ولو خارجي) من هذه الدائرة الشريرة. كما لا يملك من يرحب بالتدخل الخارجي أن لا يقر بأن هذا التدخل العسكري لا يشكل مخرجاً أقل تدميراً من هذا الطريق المسدود، وأن أمريكا لا تريد إنهاء هذا الصراع، وإلا لأنهته من أشهره الأولى، عدا عن أنها، وببساطة ووضوح، لا تضع إنهاء الصراع هدفاً أو دافعاً لحملتها العسكرية المزمعة.
في الأخلاق، لا يملك من يرفض التدخل العسكري الخارجي أن لا يخجل أمام صور آلاف المدنيين وهم يقتلون بشتى الوسائل، ومنها الغازات السامة، دون ذنب لهم إلا وقوعهم تحت ولاية السلاح “الوطني”. كما لا يملك من يرحب بهذا التدخل أن لا يخجل من التكرار الواعي للمصيبة العراقية، ومن الخراب الإضافي والمزيد من القتل الذي سوف تحمله، لا شك، صواريخ كروز وتوماهوك للأرض والشعب السوريين.
نوّعت أمريكا في التعبير عن دوافعها للتدخل العسكري في سوريا، ولم تستقر على حال: من القول إن الضربة عقابية جراء تجاوز الخط الأحمر الذي رسمه أوباما، إلى القول إن أسباب التدخل إنسانية لمنع تكرار مثل هذه الهجمات، إلى القول إن الدافع هو توجيه رسالة واضحة إلى آخرين (إيران، كوريا الشمالية، حزب الله ..)، إلى القول إن التدخل سببه تأثير مثل هذا الهجوم الكيماوي على “الأمن القومي الأمريكي”. حين بات التدخل الأمريكي ممكناً ووشيكاً سحبت الخارجية الأمريكية من خزانة مسوغاتها كل ما يتعلق بالحقوق السياسية للشعب السوري. لم يعد الهدف الأمريكي مساعدة الشعب السوري على الخلاص من نظام مستبد. صار الشعب السوري مجرد كتلة من الكائنات الآدمية تشعر أمريكا بدافع إنساني تجاهها. أو صار مقياس التدخل الأمريكي أمريكياً محضاً لا يعبأ إلا “بالأمن القومي الأمريكي”. أي انتقلت أمريكا فعلياً إلى قبول دوافع طرفي الصراع في سوريا، وباتت على مسافة واحدة من طرفيه، على أن لا يتجاوز أي من الطرفين الخط الأحمر الأمريكي. غابت عن اللغة السياسية الأمريكية اليوم كلمات مثل الاستبداد والحقوق السياسية للشعب السوري، وحل محلها الشفقة الإنسانية وضرورة توجيه رسائل لآخرين.
ما ترفضه أمريكا الوشيكة التدخل الآن، هو تجاوز “قوانين” الاقتتال، دون أن يظهر لديها أي تفضيل سياسي تفرضه عليها مبادئها الديموقراطية. كلما اقتربت أمريكا من التدخل العسكري أكثر، اقتربت أكثر إلى الحياد السياسي تجاه طرفي الصراع في سوريا. وهذا ليس في صالح المتفائلين بعواقب “الضربة الأمريكية”.
حالة انسداد أفق الصراع وعجز النظام عن تقديم حل سياسي فعلي، تجعل موقف الراضين عن التدخل الأمريكي مفهوماً. فقد يكون في ثنايا هذه الضربة (مهما حملت من آلام ودمار وقتل) مخرجاً ما، لا يبدو أن الصراع سوف ينفتح عليه بدونه. على أنه قد يكون من آثار هذه الضربة أيضاً أن تحيل سوريا إلى أرض يباب عمرانياً وسياسياً. الأمر الذي يحيل المواقف من الضربة أو الضربات الأمريكية، إلى نوع من الرهانات أو التكهنات التي لا يملك صاحبها حيالها سوى الرغبة.
Archives
March 2024
M T W T F S S
« Jul    
 123
45678910
11121314151617
18192021222324
25262728293031