راتب شعبو/ كاتب

التشبيح الموازي

نُشرت بتاريخ 13/08/2013 على موقع روزنة
بدأت ظاهرة الشبيحة في سوريا وتوسعت مع توطد سلطة نظام الأسد الأب (حافظ الأسد)، ولاسيما بعد أن كسب جولة اختبار القوة مع تنظيم الأخوان المسلمين في سوريا في أواخر السبعينات وبداية الثمانيات. حيث حسم النظام السوري صراعه المسلح معالإخوان المسلمين حينها، بقوة وعنف مبالغ فيهما، طال معظم المناطق السورية ولكنه تركز بشكل خاص في حماه وحلب وإدلب. وراح ضحيته حوالي 25 ألف ضحية (حسب تقديرات وسطية)، عدا عن المصابين والمعتقلين والمهجرين. وكان ينطوي هذا العنف الشديد على ما هو أكثر من القمع وتحطيم التمرد، لقد كان ينطوي على عنصر الردع. وقد حاز النظام السوري بعد ذلك على قبول أو الأصح إقرار دولي وإقليمي (خليجي بشكل خاص) ليس فقط على أنه نظام الأمر الواقع والقادر على فرض ذاته، بل الأهم على أنه نظام قابل للاندماج في منظومات الأمن والسياسة الإقليمية والدولية.
دخلتْ سورية، بعد ذلك، في مرحلة استقرار طالما تغنى بها السوريون على أن بلادهم نموذج فريد من الأمن والأمان. وعلى أرضية هذا الاستقرار الملغوم الذي قام على دعامات من الظلم والإقصاء والمواجع المكظومة، تفشت ظاهرة الشبيحة. حيث استقر في ذهن الطغمة الحاكمة أنها مطلقة الصلاحيات وأنه لا رادّ لمشيئتها في البلاد بعد أن طوب النظام انتصاره على الشعب وأنتج شعار الأبدية المعروف “إلى الأبد يا حافظ الأسد”.
لا يزال يحدث اليوم وأنت تقود سيارتك في شوارع المدينة الساحلية أن تفاجأ بسيارة تقف في منتصف الطريق وتعيق المرور، فيما يتحدث السائق باسترخاء مع شخص آخر على الرصيف غير مبالٍ بما سبب من ازدحام، أو قل سعيداً بما سبب. والعارف بالأمور من السائقين يكظم احتجاجه فلا يحتج بالبوق أو بالصوت، بل ينتظر بصبر المعتادين إلى أن ترتوي رغبة التشبيح في نفس ذاك الرجل وينهي إعاقته للسير.
يعرف ابن المدينة ملامح السيارات الممتازة. من زجاجها الأسود أو من عبارة أو صورة على بلورها الخلفي أو من فخامتها المهملة كدليل دامغ على نبع لا ينضب من الثروة، يجعل صاحبها مستهتراً بقيمتها. غير أن ذلك لا يكفي للتمييز. يمكن أن تدفع النزوات الغريبة أحد “الواصلين” إلى أن يقود سيارة عادية ويمارس فيها التشبيح كي يوقع في مصيدته أحد الناس العاديين الذين يمكن أن تغريهم بساطة السيارة فيحتجوا على سائقها، من يدري؟ ليس غريباً والحال هذه أن تجد الصدفة وقد وضعت الطعم في سيارة عادية لا تلفت النظر. القاعدة الذهبية لقاطن المدينة غير الممتاز إذن هي أن يلتزم الصمت والقانون، وأن يعتبر كل من يخالف القانون أو العرف العام أو الآداب الاجتماعية، بعين قوية، شخصاً ممتازاً يجب تفادي الاصطدام به. وما على طالب السلامة إلا أن يبتلع احتجاجه ويبتعد عن الشر.
على تربة هذه الهزيمة للمجتمع أمام السلطة المستقرة، نبتت ظاهرة يمكن تسميتها التشبيح الموازي. ففي كل مكان من المدينة الساحلية يمكن أن تصادف حادثة تشبيح يكون بطلها شخصاً لا صلة له بدائرة التشبيح الفعلية. فالكثير من أبناء المدينة يستغلون خوف الناس ويستثمرون في رأس المال الرمزي للشبيحة. يتبنون أشكالهم وطريقتهم في الوشم واللباس ولهجتهم وكل ما يمكن تسميته اكسسوارات التشبيح، لتحقيق مكاسب على حساب الناس، أو لمجرد إرضاء نزوعات عنترية لديهم.
خوف الناس، الذي يزداد ولا ينقص هنا، يصدهم عن المواجهة، فترى الناس يتراجعون أمام الشبيح الموازي ظناً منهم أنه شبيح حقيقي، ويحلون أي إشكال على حسابهم لتفادي ما يمكن أن يلحق بهم نتيجة الوقوف في وجهه، إذا كان هذا المدّعي شبيحاً حقيقياً. وقد تكون ظاهرة التشبيح الموازي أكثر تواجداً في اللاذقية، التي هي مهد الظاهرة الأصلية والظاهرة الموازية. إن كون أخلاق التشبيح جاذبة اليوم لفئة غير قليلة من الشباب، يؤشر إلى ابتعاد مزاج الناس هنا عن المزاج الذي يسم الناس في لحظات التغيير الكبرى.
Archives
April 2024
M T W T F S S
« Jul    
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
2930